نجيب محفوظ والطرب

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الخميس 26-07-2018
الصفحة : ثقافة
محمد حجيري


مزاج نجيب محفوظ الطربي


نجيب محفوظ في لقاء نادر بين توفيق الحكيم وأم كلثوم


في أحد حواراته، قال نجيب محفوظ : “قبل ثورة يوليو 1952 كانت هناك أصوات ممتازة، لكنها كانت بالنسبة اليّ ثانوية إلى جوار عبد الوهاب وأم كلثوم، كانت هناك أسمهان بصوتها القوي المعبّر الذي لا تستطيع أن تجد فيه عيبًا واحدًا، ومع ذلك لم أتعاطف مع هذا الصوت، بالضبط كما تلتقي بشخص جميل ولا تميل نفسك إليه رغم جماله، وكان إحساسي بصوت شقيقها فريد الأطرش هو نفس الإحساس، فهو يمثل نوعًا من الجمال لا تميل إليه نفسي، هذا على الرغم من إعجابي بالغناء الجبلي الشامي، وخاصة أصوات صباح فخري ووديع الصافي ومن قبلهما فيروز فصوتها يسحرني ويترك في نفسي تأثيرًا عميقًا”.

وبرغم أن محفوظ كان واضحاً في اختياراته، أخذه أحد الكتّاب اللبنانيين من منطلق عصبي، اذ اعتبر أن محفوظ (المصري) لا يحب أصوات الشوام... تقصد الكاتب ان يغض النظر عن اعلان محفوظ حبه لفيروز والصافي، وركز على كلامه الذي تطرق فيه إلى أسمهان وشقيقها فريد. ومحفوظ المصري والقاهري، المتأثر بديكنز الانكليزي، يقول: “لم أتعصب في حياتي للون من ألوان الغناء؛ ففي الغالب مَن يحب القديم لا يميل إلى الجديد، والعكس صحيح؛ أما أنا فأحببت القديم والجديد معًا، الشرقي والغربي، البلدي والريفي والافرنجي؛ ووجدت في كل لون مزاياه وأسلوبه ونكهته، وأعطيت وقتًا للاستماع إلى كل الألوان، وهي نفس الروح التي تعاملت بها أيضا مع المذاهب الأدبية؛ فلم أنكر أي لون أو مذهب أدبي”... يضيف: “وفي رأيي الخاص أن الانفتاح على الثقافة الغربية لا يعني بالضرورة إضاعة أصالتنا وتراثنا. ولذلك فإنني أختلف مع الذين زعموا أن محمد عبد الوهاب أفسد الموسيقى الشرقية، بإدخاله الآلات الغربية وبتأثره بالموسيقى الغربية، وأرى أن عبد الوهاب أغنى موسيقانا وأثرها وطورها من خلال هذا التأثر بالغرب، وقد مزج بين اللونين الشرقي والغربي ببراعة، وجعل منهما نسيجاً واحدا متناغماً. وهذا هو سر عبقرية عبد الوهاب”. وصاحب “الثلاثية” كان محبًا للغناء والموسيقى، وتتناثر مقاطع من الأغاني والأدوار القديمة في أعماله، ظل طوال حياته عاشقًا للغناء، بداية من عبده حلمي والمنيلاوي وسيد درويش وصولًا لعبد الوهاب وأم كلثوم وأحمد عدوية الذي كان يحب صوته وأغانيه على عكس “المثقفين” الرافضين له في السبعينيات والثمانينيات.

أحبَّ محفوظ الموسيقى حتى إنه التحق بمعهد الموسيقى العربية لدراسة آلة القانون في شبابه. يقول محفوظ إن العازف محمد العقاد، أثنى على عزفه، وتنبأ له بمستقبل كبير إذا استكمل الدراسة. لكن محفوظ لم يكن يطمح إلى أن يكون عازفًا، وإنما اتجه إلى دراسة الموسيقى لاعتقاده بأنه سيتعلم منها فلسفة الجمال، لكنه يقول: “بعد حوالي عام من الدراسة اكتشفت أني لم أصل إلى أي شيء مما تصورته”، وفي كتاب “نجيب محفوظ صفحات من مذكراته” لرجاء النقاش؛ يتبين أن الموسيقى هي الفن الذي خطف محفوظ قبل الأدب منذ كان عمره خمس سنوات، ولولا التوجيه السليم لأصبح عازف قانون بدلاً من أن يصبح أديباً، وهو يقول: “وإذا كنت لم أحضر حفلات مطربي الجيل القديم، مثل صالح عبد الحي وعبد اللطيف البنا وغيرهما، إلا أنني عرفتهم جيدًا، وحفظت أغانيهم من خلال الأسطوانات وعندما ظهر عبد الوهاب وأم كلثوم تعلقت بهما وتابعتهما في شغف، ولقد ظهرت أصوات أخرى مواكبة لهما زمنيًا إلا أنها لا تقارن بهما ثم ظهر نوع آخر من المطربين الذين يقلدون الفرق الغربية وروجوا للأغاني المسماة”الفرانكو آراب" ورغم أنني اعتبرتها خارجة عن الموضوع وعن الغناء والطرب الشرقي، فإنني وجدت فيها بعض الملاحة وكنت أتابعها؛ ثم جاءت الموجة الحالية من الأغاني “الشبابية” وأحيانا أستمع إليها وأنا راكب السيارة مع ابنتي، لكني لا أستطيع التمييز بين أصوات أصحابها، ودائما ما أخطئ في أسمائهم، لأن الأنغام متقاربة والأصوات متقاربة، واستمعت منهم إلى أغنيات لطيفة، لكني لم أجد فارقًا يذكر بين حنجرة وأخرى، كما لم أجد من بينها صوتًا له شخصية خاصة والمطرب الوحيد الذي استطاع الحفاظ على تميزه وسط هذا الطوفان الغنائي منذ وفاة عبد الحليم حافظ وحتى الآن هو أحمد عدوية، وعدوية في رأيي صاحب صوت قوي مؤثر، وله أسلوبه الشعبي المميّز، وأغانيه “الكاريكاتيرية الظريفة” لا يجاريه فيها أحد".

ومن بين الفنانين والفنانات تبقى أم كلثوم هي الأكثر حضوراً في حياة محفوظ، سواء من خلال سماعه أغانيها، أو ورود اسمها وحكاياتها على ألسنة أبطال رواياته باعتبارها حاضرة في وجدان المصريين ومقاهيهم وأماسيهم. ومحفوظ من الأشخاص الذين عاصروا مرحلة الصراع والمنافسة بين أم كلثوم ومنيرة المهدية، قال في اعترافاته للروائي جمال الغيطاني: “في البداية لم أكُن أستمع إلى أم كلثوم، سمعناها في أسطوانات سنة 1926، كما تشاجرتُ مرة مع واحد لأنه قال إن أم كلثوم أفضل من منيرة المهدية”. يضيف: “شاهدت منيرة المهدية واستمعت إليها مرتين، الأولى في مسرح رمسيس في أحد العروض المسرحية مع يوسف بك وهبي. والثانية في إحدى حفلاتها العامة وكان معي صديقي إبراهيم فهمي دعبس. واكتشفنا أننا الشابان الوحيدان بين جمهور حفلة منيرة المهدية، أما باقي الحاضرين فقد كانوا من كبار السن، مما أدهش صديقي إبراهيم فسألني: ما الذي جعلك تأتي بنا وسط هؤلاء العجائز؟ وعندما غنت منيرة المهدية ظهر عليها التأثر بتقدم العمر، فكانت تغني قليلاً وتسعل قليلاً، إلى أن أتمت الحفلة، وأعلنت بعدها اعتزالها الغناء. فكان لي شرف حضور آخر حفلة من حفلات منيرة المهدية التي حملت لها في قلبي إعزازاً بالغاً”.

وبعد ذلك تحسنت العلاقة بين نجيب محفوظ وأم كلثوم سماعيًا، لدرجة أنه كتب في جريدة “الأيام”، 21 ديسمبر 1943، مقالاً عن أم كلثوم، قائلاً: “وما من جمود مثل أن تقارن أي صوت من الأصوات المصرية بهذا الصوت المُتعالي، فقل في غناء أسمهان وليلى مراد ونور الهدى ما تشاء، إلا أن تقارنه بصوت أم كلثوم، فتضره من حيث أردت تنفعه، وتهينه من حيث أردت أن تكرمه وتمرغه في التراب وقد أردت أن تسمو به السماء”. ووصف محفوظ أم كلثوم بأنها “كمغنية خلق فريد، الزمان بمثله ضنين، حنجرة كاملة المراتب، وصوت عذب مرن مقتدر، يمتاز بمزايا الصوت النفيس مجتمعة من قوة وحنان”.

ويستعرض الروائي يوسف القعيد في كتابه “نجيب محفوظ إن حكى: ثرثرة محفوظية على النيل”، أن في الحوارات التي أجراها مع محفوظ على مدى نصف قرن، توقف أمام حديثه عن شخصية أم كلثوم، فالرجل كان متيَّماً بها، يحب الاستماع إليها، وعندما كان يتجول بهم المخرج الراحل توفيق صالح في سيارته الصغيرة 127 سماوية اللون ذات الباب الواحد، على ضواحي القاهرة، كان يضع شرائط أم كلثوم في كاسيت السيارة، ورغم عدم قدرة محفوظ على الاستماع الدقيق، إلا أنه كان يتمايل مع غنائها.. يتضح لنا مدى إعجاب نجيب محفوظ بأم كلثوم الذي وصل إلى حدود تسمية ابنته الكبرى أم كلثوم. وحكى محفوظ نفسه عن ذكرياته مع أم كلثوم، فكان يذهب إلى حفلاتها الشهرية، التي كانت تقام في مسرح اسمه “جوزيه” أو “سانتي” في شارع عماد الدين. كانت هناك مجموعة من سميعة أم كلثوم، كان أشهرهم جزار اسمه المعلم “حكشة”، وكانت له حقوق على الست، لا يحصل عليها أحد غيره، مثلاً مرة جاء إلى المسرح متعباً ونام وكانت أم كلثوم في هذه الليلة تغني “النوم يداعب عيون أو جفون حبيبي” وهي من كلمات أحمد رامي، فعندما صحا المعلم “حكشة” من نومه نادى عليها: “تاني ياست علشان اللي كانوا نايمين” فأعادت المقطع من جديد، وفي مرة جاء متأخراً، فطلب منها الإعادة “للأبعد” أي للذي يجلس بعيداً عنها، فأعادت له ما غنته فعلاً، لأنه كان يجلس في آخر الصفوف. عندما سئل عن طبيعة العلاقة الشخصية بينه وبين أم كلثوم، قال إنه لم يرها على الطبيعة سوى مرة وحيدة، عندما أقام الأهرام له - أي لنجيب محفوظ - احتفالاً بعيد ميلاده، وكان صاحب الفكرة محمد حسنين هيكل، وقد دعا أم كلثوم للحضور، وإن كانت لم تغن في الحفل، واكتفت بإلقاء كلمة، الانطباع الباقي في الذهن من اللقاء البعيد، الذي مضت عليه سنوات طويلة، قوة شخصيتها، وحضورها، وحالة “الكاريزما” التي تتصف بها، وحضور البديهة، وكونها ابنة نكتة وبنت بلد من الطراز الأول.


وكان محفوظ يميل قبل بدء عملية الكتابة إلى الاستماع لمقطوعة موسيقية، ثم الإنصات إلى أم كلثوم وهي تشدو بصوتها بينما يسير في صالة منزله قليلا، قبل أن يتوجه إلى غرفة مكتبه للشروع في الكتاب. وكان أيضاً محفوظ يبدي رأيه ببعض الأغاني الكلثومية، وبحسبه، حققت أغنية “أنت عمري” التي غنتها أم كلثوم ولحنها محمد عبد الوهاب، نجاحاً لم تحققه أغنية من قبل، لكنها ليست أفضل أغاني أم كلثوم ولا لحنها أفضل ألحان عبد الوهاب. موضحاً: “تأثرت جداً بمجرد التقاء ألحان عبد الوهاب بغناء أم كلثوم، وكان من أسباب البهجة الكبيرة هي العناية الشديدة التي غنت بها أم كلثوم غناء يصعب وصفه من جماله ومتعته”. وأضاف “رغم النجاح الفائق الذي تستحقه بمعنى الكلمة، وهذا من وجهة نظري وأن هناك أغاني أفضل من هذه الأغنية، منها”جددت حبك ليه، سلوى قلبي، رباعيات الخيام، آه من لقاك"، كذلك من أفضل ألحان عبد الوهاب “هان الود، النهر الخالد” وهذه ألحان فريدة جداً.

لم تغب صورة أم كلثوم عن روايات محفوظ، واستخدم مطلع أغنية “يا عشرة الماضي الجميل يا ريت تعودي” في استهلال رواية: “صباح الورد”، وهناك في أعمال أخرى استخدامات كثيرة لأغنياتها، خان الخليل، بداية ونهاية، وثلاثية: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، ثم رواية ميرامار، وفي هذه الأعمال تظهر أم كلثوم بنفسها، ابتداء من أيامها الأولى في النصف الأول من هذا القرن، وصولاً إلى شهرتها المدوية، في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي رواية “خان الخليلي” كمثال، عندما يقرر بطل الرواية رشدي عاكف الذهاب إلى السينما، يتجه إلى دار عرض تعرض فيلم “دنانير” الذي مثلت بطولته أم كلثوم، وعُرض سنة 1940 عن قصة أحمد رامي وإخراج أحمد بدرخان.

ومحفوظ الذي كان متولها بأم كلثوم وعبد الوهاب أيضا له رأيه بعبد الحليم، وثمة وثيقة نادرة لمحفوظ يتحدث فيها عن حليم في إذاعة صوت العرب يقول فيها “كمستمع دائم للغناء وللأصوات الجميلة منذ صغري أحببت عبدالحليم، واستمعت إليه كثيراً، وهو للحقيقة التي لا تحتمل الجدل، صوت آسر ومؤثر في القلوب”، يضيف"وفي خيالي الأدبي والروائي تصورت عبدالحليم أكثر من مرة، أحسست به مرة فناناً مرهف الحس والوجدان ذا أذن موسيقية تلتقط من الهواء أي نغمة موسيقية، فتتصارع الأفكار الفنية في رأسه الذكي القائم على جسد مريض".

(*) على هامش مقالة محمود الزيباوي عن بدايات أسمهان

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)