نجيب الريحاني - المذكرات المجهولة للكاتب والباحث شعبان يوسف بتانة في القاهرة، 2017

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 09-12-2017، العدد : 10837، ص(16)
الصفحة : ثقافة
العرب - ممدوح فرّاج النّابي


من لفّق مذكرات نجيب الريحاني


يعد نجيب الريحاني المصري من أصل عراقي من أبرز رواد المسرح والسينما في مصر والوطن العربي، إذ يعتبر رائد الفكاهة، هذا النمط الفني العريق. ومثلت سيرة الفنان مصدرا ثريا للتعرف على أحوال الفن في نشأته وبيئته، لكن أثير مؤخرا جدل كبير بصدور كتاب يفنّد المذكرات المنشورة، معتبرا إياها مذكرات ملفّقة.

لا يختلف كتاب شعبان يوسف الجديد “نجيب الريحاني مذكِّرات مجهولة“، الصادر عن دار بتانة للنشر 2017، عن كتاباته السَّابقة التي تناول فيها ظواهر أدبيّة مهمّة على نحو بحثه عن الأبوية في الإبداع والتي آلت بالكثير من الكاتبات إلى الانتحار كما في كتاب “لماذا تموت الكاتبات كمدا؟” أو بحثه في ظاهرة يوسف إدريس، ومُساءلة فحولته التي طغت على كثيرين وكانت سببا لأن يكون لإدريس ضحايا حتى وإن لم يقصد، على نحو ما جاء في كتاب “ضحايا يوسف إدريس وعصره”.

المذكرات الملفقة

نُشرت “المذكرات الملفّقة” في عام 1959 في كتاب الهلال، وقد أعادت الهلال مؤخرا في سبتمبر الماضي نشرها من جديد في 166 صفحة بذات التقديم القديم لبديع خيري صديق الفنان. وفي الأصل كانت هذه المذكرات قد نشرت منُجمة في مجلة الكواكب عام 1952 بداية من العدد رقم 44 الصادر في 3 يونيو عام 1952 أسبوعيا دون انقطاع حتى العدد رقم 66 الصادر في 4 نوفمبر 1952، ولكنها راجت رواجا كبيرا، حتى صارت المصدر الموثوق منه عند الحديث عما يتعلّق بالريحاني.

لكن ثمّة مذكِّرات أخرى صدرت بعد وفاة الريحاني مباشرة عام 1949 ولم تحظ بفرص الانتشار والذيوع لأنها صادرة عن دار نشر غير معروفة كما يقول شعبان يوسف الذي تلبَّس لُبُوسَ المحقِّق هنا وهو يستقصي حقيقة المذكِّرات الحقيقية، ويكشف أكاذيب المذكرات الملفقة، وادعاءات مُحرِّرها.

ويرى يوسف أنّ من العوامل التي ساهمت في تحقيق الحصانة وعدم الدفع بالشكوك في طبيعة المذكِّرات المـُلفَّقَة، نشرها في دار عريقة هي دار الهلال، وأيضا التقديم الذي كتبه رفيق نجيب الريحاني الفنان بديع خيري، والغريب كما يقول المحقِّق أنه (أي بديع خيري) صدَّق على كل ما جاء في المذكِّرات، علاوة على ما ذكرته دار الهلال من أنَّ هذه المذكرات سلّمها الرّيحاني بخط يده لدار الهلال.

لكن أحد الدوافع التي ساقت الباحث لمراجعة اليقين السَّابق وزحزحته إلى مرحلة الشّك، تساؤله: لماذا لم تنشر الهلال صورة من خط يد المؤلف؟ وهو ما يقطع باليقين نسبتها إليه، ثم جاءت المبالغات والخيالات في الأحداث التي من الصعب تصديقها، لتزيد من هذه الهواجس. فاضطرّ إلى البحث عن الريحاني في المجلات القديمة وكذلك في المذكرات التي كتبها معاصروه وإن كانوا من خصومه ومنافسيه مثل فتوح نشاطي، علاوة على ما كتبه الريحاني نفسه من مقالات في مجلات ذلك الزمان.

وقد لاحظ اختلاف أسلوب الريحاني في المقالات عمّا جاء في هذه المذكِّرات، وهذه الملاحظة دفعته إلى الانتقال مِن مرحلة التردّد إلى مرحلة الجزم واليقين في الشّك في نسبة المذكِّرات إلى الرّيحاني. لكن التطوّر الأخير للجزم بالشك، تمثَّل في العثور على مذكِّرات صدرت بعد رحيل الريحاني بقليل عن دار الجيب بعنوان “مذكرات نجيب الريحاني… زعيم المسرح الفكاهي” وتصدرتها كلمة لنجيب الريحاني ذاته. وقد جاءت هذه المذكرات في 116 صفحة.

ويدلِّل المؤلف على صدق المذكّرات الأخيرة بأنها جاءت تالية لوفاته كما أن الكثير من موادها نُشر في أعداد سابقة لمجلات. كما يلفت المؤلف الانتباه إلى الخيال المفرط لمـُحرِّر هذه المذكّرات؛ فالمحرِّرُ مال إلى الاستظراف في الكتابة إضافة إلى تحقير الذات، حتى أنّ المؤلف يخال له الأمر كما لو أن “هناك مؤامرة حيكت حول نجيب الريحاني”.

المذكرات فنيا

تختلف طبيعة المذكّرات المشوَّهة عن المذكّرات الأصلية في أنها ناقصة لا تحتوي على ما ورد في المذكّرات الأصلية، وهو ما أسماه المؤلف بالمحذوفات، وهي تتعلق بمحاولات يوسف وهبي تقليد الريحاني واختراع شخصية له على شاكلة “كِشْكِشْ بيه” لكنه فشل فشلا ذريعا. ومنها أيضا حكايات عن بديعة مصابني ومحمد عبدالوهاب، وهناك أيضا حكايات عن الملك فاروق وعطفه عليه وتشجيع الجمهور على مشاهدة مسرحياته، وبالمثل ثورة الملك عبدالله ملك الأردن وغضبه عندما شاهد العرض ظنا منه أن المسرحية تنتقد الحكومة. ويبرر يوسف لجوء المحرّر إلى الحذف، بأن هذه المحذوفات تظهر الريحاني بطلاً مدافعا عن الفن، فهو يقصد إظهاره بأنه فنان هزلي وظيفته إضحاك الناس، وهو الاتجاه الذي حاول تأكيده من انتقدوه في مقالاتهم.

وفي الفصل الثاني “الرِّيحاني المفترى عليه” يستعرض المؤلف تاريخا من الإجحاف تعرّض له الريحاني من الدولة ومؤسساتها الرسميّة، نظير ما قدمته من خدمات للمسرح وللجمهور، لكن لم يجد الريحاني إلا التعنت والهجوم والتسخيف ومحاولات النيل ممَّا يُقدِّمه. وما زاد من الأمر بلَّة هو أن هذا الجحود جاء أيضا من بعض الأدباء الذين اعتبروا ما يُقدِّمه الرّيحاني لا ينتمي إلى الفن بأيّ طريقة، على نحو ما فعله الكاتب محمد تيمور في مقالته، وكذلك رجال الدين ومدَّعو الفضيلة الذين اعتبروا أن مسرح الريحاني الهزلي هادم للأخلاق وأركان الدين. ولم يتوقف الهجوم ضدّه حتى بعد وفاته.

الكتاب جاء في ثلاثة أقسام؛ القسم الأوّل كان بمثابة تحقيق لهذه المذكِّرات الجديدة، وبيان تلفيق المذكِّرات الرّائجة عن الريحاني. ثم جاء القسم الثاني بعنوان “مذكرات نجيب الرِّيحاني زعيم المسرح الفكاهي” وهو يعرض المذكِّرات الجديدة في ستة فصول مذيلة بكلمة المحرر. أما القسم الثالث فهو عبارة عن “آراء ومقالات في الريحاني” ويتناول المقالات التي تعرضت بالنقد لشخصية الريحاني، وكذلك المقالات التي أوفت الفنان حقه.

وتحكم بنية المذكرات، تقنية الانتقاء والاختيار، فالسارد لا يجترّ كل حياته وإنما ينتقي مواقف بعينها يرى أنها ذات أهمية في تشكيله، ويترك الحوادث الصغيرة. فيبدأها من لحظة فارقة في حياته، دون أن يستعرض أمجاده القديمة أو حتى طفولته ومراحل تكوينه. وهذه التقنية لا نجدها في المذكرات الملفقة، حيث تستعرض حياة الريحاني منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره في المدرسة، ومع إهماله للبدايات إلا أنه بدأها من التكوين الفكري حيث المدرسة، في حين أن المذكرات الحقيقية بتعبير شعبان بدأت من علاقته بالمسرح وهو اختيار مقنع.

وتتميزُ المذكِّرات بأسلوب جذَّاب وسلسل في العرض، فلا يقتصر الأمر على الطرائف التي يسوقها الريحاني وإن كانت من جوهر حياته وليست دخيلة عليه، وإنما أيضا عبر أسلوبه المرح حتى وهو يسرد عن أقسى المواقف في حياته، علاوة على وعيه التام لشدّ القارئ إليه الذي يضعه أمامه عينيه ويخاطبه.

وأهمية هذا الكتاب ليست فقط في أنه تعامل مع المذكرات الملفقة على أنها واقعة تحتاج إلى بحث وتحرّ لإثبات صدقها أو نفيها، ومن ثمّ كانت عاملا مهما في الكشف وإظهار المذكرات الحقيقية، وإنما في إحاطته التامة بالريحاني وتقديمه ليس مِن منظور واحد، وإنما عبر تصوّر الآخرين له حتى ولو كانوا معارضين له، لكن يبقى السؤال الذي لم تُجب عنه الدراسة على سخائها: مَن وراء المذكرات الملفقة؟ وما الغرض منها ؟

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF

عن جريدة العرب اللندنية

العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 14-11-2017
المدن - ثقافة
شريف الشافعي


مذكرات نجيب الريحاني.. التوثيق والتلفيق


“طظ في صحة تهضم الفول المدمس، والمال خرافة أمام معدة لا تهضم الديوك الرومي”


مثلما جاء رحيل الفنان نجيب الريحاني مثيرًا، فإن قصة كتابته ونشره مذكراته تبدو بالغة الإثارة، فضلًا عما ورد في المذكرات نفسها من اعترافات وأسرار.

اتفق المؤرخون على تاريخ رحيل الريحاني في الثامن من يونيو 1949، إثر إصابته بمرض التيفوئيد، وتبقى تفاصيل الوفاة غامضة، على أن رواية أحد الأطباء تُرجع موته المباغت في أثناء تلقيه العلاج في المستشفى اليوناني بالقاهرة إلى “جرعة زائدة من عقار الأكرومايسين” أعطتها له ممرضة مهملة، فمات الريحاني بعدها بلحظات قليلة.

ويبدو أن كل ما يتعلق بنجيب الريحاني، غير تاريخ وفاته، يبقى خلافيّاً، بدءاً بتاريخ ميلاده، الذي يحدده بعض مؤرخي السينما بالعام 1890، ويحدده آخرون بالعام 1889، في حين يذهب فريق ثالث، وعلى رأسهم الناقد كمال رمزي، إلى أن الريحاني من مواليد 1887، معولين على أن ملامح وجهه في فيلمه الأخير “غزل البنات”، الذي صور وعرض في العام 1949، توحي بأنه تجاوز الستين بعامين على الأقل، وقد عُرض الفيلم في أعقاب وفاة الريحاني.

مات نجيب الريحاني، “كشكش بك”؛ الرائد المسرحي ذو الأصول العراقية؛ وصاحب عشرات المسرحيات والأفلام الخالدة، بعدما نعى نفسه حينما استشعر دنو الأجل. إذ كتب راثيًا ذاته بأسلوبه الساخر الذي يفيض ألماً: “مات نجيب. مات الرجل الذي اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب. مات نجيب الذي لا يُعجبه العجب ولا الصيام في رجب. مات الرجل الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق، ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح. مات الريحاني، في 60 ألف سلامة!”.

كتب الرجل مذكرات عريضة، هذا لا شك فيه. لكن الخلاف الأبدي حول كل متعلقات الريحاني يطاول تلك المذكرات أيضًا. فثمة نسختان من مذكرات الريحاني: الأولى، مذكرات مجهولة، صدرت على استحياء في العام 1949 عقب رحيله، عن دار نشر مغمورة هي دار الجيب، ولم تلق تلك المذكرات أي رواج يُذكر، ولم يعد للنسخ القليلة المطبوعة منها أثر. أما المذكرات الثانية، فقد صدرت في العام 1959، عن دار “الهلال” ذائعة الصيت في القاهرة، في طبعة رسمية كبيرة، وبتقديم صديق عمره الشاعر والكاتب بديع خيري، وقد راجت رواجًا كبيرًا، وصارت مرجعًا للباحثين.

وتأتي الأيام الأخيرة من العام الحالي 2017، لتشهد إلقاء الضوء على مذكرات الريحاني المجهولة، إذ يزيح الكاتب والباحث، شعبان يوسف، الغبار عن صفحاتها المتلاشية، ويصدرها محققة وكاملة في كتاب جديد (*).

يتضمن الكاتب تحقيقًا لـ"مذكرات نجيب الريحاني، زعيم المسرح الفكاهي" كاملة في ستة فصول، ودراسة وافية حول تلك المذكرات المجهولة، وتفنيدًا تفصيليًّا للمذكرات الأخرى الرائجة، فضلًا عن ملحق يضم أبرز الآراء والمقالات المكتوبة عن الريحاني ومسرحه، بأقلام كل من: محمد تيمور، عباس العقاد، محمد عبد الوهاب، زكي طليمات، نعمان عاشور، دريني خشبة، ألفريد فرج، صلاح عبد الصبور، يحيى حقي، سعد الدين وهبة، فتوح نشاطي، سعد أردش، وغيرهم.

يبني المحقق طعنه في مصداقية مذكرات الريحاني الرسمية الصادرة عن دار الهلال، على أمور عديدة؛ منها: أن الدار لم تنشر في متن الكتاب شذرات من خط نجيب الريحاني، مكتفية بما وصفته بأنه مقدمة كتبها الريحاني للمذكرات، وبالمقدمة التي كتبها بديع خيري، وأنها لم تتبع الطريقة العلمية لنشر المذكرات والسير الذاتية، وأنها تتضمن مبالغات وخيالات وأحداثًا من الصعب أن يسردها فنان أو أديب عن نفسه، فضلًا عن أن أسلوب كتابتها يختلف جذرياً عن طبيعة ما كان يكتبه الريحاني من مقالات في حياته.

الأسلوب السائد في “المذكرات الملفقة”، كما يسميها شعبان يوسف، يختلف تمامًا عن أسلوب نجيب الريحاني. فالمحرر “يحاول طوال السرد أن يستظرف، ويتفكه، من دون حاجة إلى ذلك، ويفتعل النكات السخيفة، ويتعرض لموضوعات ثقافية لم يكن الريحاني معنيّاً بها، ولا موقع لها في المذكرات، وغالبًا هي موضوعات تشغل المحرر فقط”.

كذلك، فثمة “ارتباكات تحريرية” يجدها المحقق وازعًا للطعن في المذكرات الملفقة، ويقول: “هي مبالغات صيغت من أخبار قديمة عن الريحاني، وتم توسيع وتضييق بعض الأحداث التي ذُكرت في المذكرات الأصلية، ونجد كأن هناك قصدية في إهانة الريحاني نفسه، وإظهاره في ثوب ليس ثوبه، ولا يمكن أن يخبر به عن حياته، مثل حكاية غرامياته التي تظهره كرجل خائن لأصدقائه أو معارفه، وهي غراميات خائبة، ولا يصلح ذكرها في أي مجال، ولا تؤدي إلا إلى إهانة الريحاني نفسه”.

في الجانب الآخر، يرى الباحث شعبان يوسف أن المصداقية تتحقق في مذكرات الريحاني المجهولة، التي نشرها دار الجيب في العام 1949، وذلك لأسباب كثيرة، منها: تصدرها كلمة لنجيب الريحاني يقول فيها “هذه سطور، بحلوها ومرها، بهنائها وشقائها، بكأسها المترعة وكأسها الفارغة، ..، الخ”، بأسلوب الريحاني المعروف، وختامها بكلمة أخرى توثيقية.

ويرى شعبان يوسف أن الناشر “أحاط المذكرات ببعض الضمانات المقنعة، لتأكيد مصداقيتها، بخاصة أن بعضًا من هذه المذكرات كان قد نُشر في حياة الريحاني نفسه، وتاريخ نشر المذكرات هو العام نفسه الذي رحل فيه الريحاني، أي أنه لم يكن هناك وقت لإدخال أحداث وظواهر غير صادقة، كما أن أحدًا من رفاق الريحاني الذين كانوا أحياء وقتها، لم يتناول تلك المذكرات بأي ملاحظات سلبية أو تكذيب، رغم انتقاد الريحاني ليوسف وهبي وبديعة مصابني وغيرهما، وكان من الممكن أن يرد أولئك الذين انتقدهم الريحاني”. ويصف الريحاني سطور حياته المجهولة، المكتشفة حديثًا، بأنها “تسلية للذين أحبوني، وشاقهم أن يروا صورتي بغير ماكياج، وتذكرة للذين سيحيون من بعدي، حينما يروق لهم أن يطالعوا قصة دراما ضاحكة، عذابها أعذب من راحتها”.

من بين ما تكشف عنه مذكرات الريحاني المجهولة، التي عرفت الأضواء أخيرًا بعد 68 عامًا من كتابتها، أنه بدأت صلته بالمسرح في العام 1914، حين كان موظفًا بشركة السكر في نجع حمادي بصعيد مصر، وأن أصدقاءه في هذا العهد من “الفنانين المفلسين” هم: الخواجة سليم أبيض، عزيز عيد، استيفان رستي. ويقول: “لم أشعر بأي أسف حينما قدمت استقالتي من وظيفتي بشركة السُّكر، وبدأت أواجه الحياة وفي جيبي 25 جنيهًا لا غير، مكافأة نهاية الخدمة في الوظيفة”.

ويعترف الريحاني بأنه كان “ممثلًا فاشلًا” في بداية عمله في الأدوار البسيطة مع سليم وجورج أبيض، لأن الجمهور كان يضحك من تمثيله أدوار الدراما التي تبكي الناس، أو المفترض أنها تبكيهم! ويقول الريحاني عن أجره وقتها: “كان الممثلون في الفرقة لا يتقاضون أجورًا ولا مرتبات، بل كنا نعمل بالأسهم، إذا دخل الشبّاك إيراد وزعوه علينا، وكان أكبر مبلغ يقبضه أحدنا لا يزيد على ستة أو سبعة قروش”.

ويحكي الريحاني عن تأسيس فرقته الأولى، بعدما هداه التفكير ورفاقه إلى مسرح الشانزليزيه بالفجالة، الذي لم يكن مسرحًا بالمعنى المفهوم، بل كان أشبه شيء بكراج أو حظيرة للمواشي: “لم يكن أمامنا حل آخر، فرضينا أن نعمل على هذا المسرح، حتى إذا انتعشنا قليلًا انتقلنا إلى مسرح آخر ملائم. وهكذا تكونت فرقتنا الأولى، وعُقد لواؤها للمرحوم عزيز عيد، كما انضمت إلينا السيدة روز اليوسف. وكنا نقدم حينذاك روايات الفودفيل، التي كان يترجمها لنا المرحوم أمين صدقي ترجمة تكاد تكون حرفية، ونحن نتصرف فقط في أسماء الروايات”.

عن أجواء المنافسات الفنية في ذلك العهد، يحكي الريحاني أن فرقته قدمت مسرحية “ولو” من ألحان سيد درويش وتأليف صديقه المدرّس بديع خيري (الذي كان يخفي اسمه نظرًا لمركزه كمدرّس)، من أجل الرد على انتقال منافسه علي الكسار إلى مسرح الماجستيك، ومحاولته تقليد مسرح الريحاني، جريًا على سياسة الحرب الباردة. وأرادت فرقة الكسار أن تردّ، فأخرجت رواية “راحت عليك”، فأسرعت فرقة الريحاني إلى الردّ بتقديم رواية “رنّ” لبديع خيري، وهكذا استمرت “حرب الأعصاب” بين الفرقتين في حين كانت المنافسة قد اشتدت وازدادت حرارة.

من لطائف مذكرات الريحاني المجهولة، قصة انفصاله عن زوجته وبطلة فرقته بديعة مصابني، لأسباب تافهة، “لكننا شرقيون، والأعصاب الشرقية متوترة دائمًا، ولا تتحمل التافه من الاتهامات”. يصف الريحاني بديعة بأنها “قنزوحة” إلى أقصى حد ممكن، فهي دائمًا تحاول فرض سيطرتها وسلطتها على الجميع.

ويحكي الريحاني واقعة الانفصال قائلًا: “كانت تتهمني دائمًا بأنني كسول وأنني خمول، وأنني لا أصلح لأي عمل، لأن قلبي ميت. هل تدرون لماذا؟! لأن حضرتها كانت تريد مني أن أقدم كل أسبوع رواية جديدة. وفي آخر جلسة لنا، هاجت أعصابنا فأفلت زمام ألسنتنا، فتبادلنا كثيرًا من الكلمات النابية، التي يخجل لساني من ذكرها الآن، وكان من الطبيعي أن تنتهي هذه المشادة باتفاق على الافتراق، ثم على الطلاق”.

ويفلسف الريحاني رحلته مع الفن ثم مع المرض في سنواته الأخيرة: “جربتُ الفقر مع الصحة، ثم جربت المرض مع النعمة، وخرجت من هذه التجارب بأن الدنيا كلها (طُظ) في صحة تستطيع أن تهضم الفول المدمس، وأن المال كله خرافة أمام معدة لا تستطيع أن تهضم الديوك الرومي. وكانت حياتي على إثر موسم سنة 1946 من النوع الأخير”.

تملكت الريحاني في أعقاب مرضه روح النقمة على الحياة، وعلى الناس، ويكشف في مذكراته المجهولة أنه صار يعتقد أن صحته ذهبت ضحية على مذبح إرضاء هؤلاء الناس، وأن أوقات سعادته كانت رهن مشيئتهم، يأخذونها أو يتركونها له، وكانوا دائمًا يأخذونها، ومن ثم تولاه “قرف” شديد، استمر حتى رحيله: “قلت لنفسي: يا واد سيبك”، وبناء عليه، اعتزم الريحاني ألا يعمل إلا وفق مزاجه، “طالما أن مصر لا تقدّر بَنيها، إلا وفق مزاجها وحده”.

وسأل الريحاني طبيبه:
 إنت بتقول إني لو اشتغلت يمكن أموت؟
 أيوه.
 وهو أنا يعني مش حاموت؟
 كلنا حانموت..
 إذن خليني أموت وأنا بأمثّل أحسن.. أقله أموت وأنا مبسوط!

(*) صدر كتاب “نجيب الريحاني – المذكرات المجهولة”، للكاتب والباحث شعبان يوسف، في 340 صفحة، عن مؤسسة “بتانة” في القاهرة، 2017.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



جريدة الحياة


الثلاثاء، ١٤ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
القاهرة – علي عطا


مذكرات نجيب الريحاني المتداولة... مزوّرة


بعد نحو سبعين عاماً على غيابه، لا يزال نجيب الريحاني (1889- 1949) يثير الجدل، سواء في ما يتعلق بظهور سيدة تدعي أنها ابنته منذ عام 2008 من دون أن تقدم ما يثبت صحة إدعائها، أو ما يخص دوره على مدى أربعين عاماً في نهضة فنيّة، ميّزت مصر في النصف الأول من القرن العشرين.

ففي أيلول (سبتمبر) الماضي، أعادت دار «الهلال» القاهرية نشر مذكرات الفنان ذي الأصل العراقي، وكانت طبعتها الأولى صدرت في عام 1959، ولم يمض سوى شهر تقريباً، حتى أصدرت «منشورات بتَانة» كتاب «نجيب الريحاني... المذكرات المجهولة»، بتقديم للشاعر والمؤرخ الأدبي شعبان يوسف، وجاء فيه أن المذكرات المتداولة على نطاق واسع «مزوّرة».

تلك المذكرات ظلت نحو ستين عاماً مرجعاً أساسياً لكثير من الكتب والأطروحات الأكاديمة التي تناولت الريحاني وفنَّي المسرح والسينما في مصر، وهي متاحة منذ سنوات عدة على الشبكة العنكبوتية، بفضل مشروع رقمنة إصدارات «الهلال»، الذي نفذته مكتبة الإسكندرية. ويشار إلى أن دور نشر عدة أصدرت مذكرات الريحاني استناداً إلى طبعة «الهلال»، ومنها الهيئة المصرية العامة للكتاب، في إطار مشروع «مكتبة الأسرة»، في عام 2013 نفهم من كتاب «منشورات بتَانة» أن الريحاني لم يكتب مذكراته مرتين. بل كتبها ونشرت على حلقات في مجلة «الإستدويو»، قبل أن تُجمع في كتاب بعد رحيله بشهرين.

ولكن هذا الكتاب، تحوّل إلى عمل «مجهول» في ظل انتشار كتاب «الهلال» الذي يصفه شعبان يوسف بأنه «انطوى على جريمة تزوير ما سبق أن كتبه الريحاني بنفسه».

ويضيف يوسف أن تلك المذكرات تقدم الريحاني بطريقة هزلية، علماً أنها نشرت أولاً مسلسلة في مجلة «الكواكب»، وهي من إصدارات «الهلال» أيضاً، عام 1952. ولاحظ يوسف أن محرّر المذكرات المجهول، حاول أن يتقمص شخصية الريحاني على المسرح، في بعض أدواره الكوميدية، علماً أنه «كان في حياته الطبيعية شخصاً مختلفاً عن الشخصيات التي جسّدها»، وأشهرها «كشكش بيه».

وفق شعبان يوسف، زعمت «الهلال» أنها تسلمت المذكرات مكتوبة بخط الريحاني، قبل جمعها في الكتاب الذي قدم له رفيق مشواره بديع خيري. وما يدفع إلى الشك في تلك الرواية - يقول يوسف - هو أن الدار لم تقدم وإن صفحة واحدة بخط الريحاني، على عكس ما فعله فوزي العنتبلي في كتاب «مذكرات نجيب الريحاني زعيم المسرح الفكاهي» الصادر في آب (أغسطس) 1949 عن دار «الجيب»، بمراجعة بديع خيري وإبراهيم العشماوي وأنور عبدالله. رجع شعبان يوسف إلى مقالات الريحاني، فلاحظ بوناً شاسعاً بين أسلوبه فيها والأسلوب الذي كتبت به المذكرات، «المنسوبة زوراً إليه». ولاحظ أن الأخيرة يطغى عليها «الاستظراف وتحقير الذات»، فضلاً عن «الخوض في الأعراض وخيانة الزملاء»، وهي أمور لا يعقل أن ينسبها الريحاني إلى نفسه. وتوقف يوسف كذلك عند جانب آخر يشكك في صدقية المذكرات المتداولة، وهو أن تقديم حلقاتها أظهر الريحاني وكأنه لا يزال على قيد الحياة ويتابع أسبوعياً ردود فعل القراء.

في المذكرات المجهولة يتطرق الريحاني إلى محاولات يوسف وهبي لتقليده عندما قدم على المسرح شخصية «حِنجِل بوبّو»، لتنافس «كشكش بيه»، لكنه منيّ بفشل ذريع دفعه إلى الابتعاد عن الكوميديا تماماً. وفيها كلام إيجابي عن الملك فاروق وتشجيعه الجمهور على مشاهدة مسرح الريحاني، وسرد للقاء جمع الريحاني بالملك عبدالله، عاهل الأردن، خلال عرض إحدى مسرحياته في عمان، وحديثه معه عن أهمية أن ينتقد المسرح تقصير الحكومات.

وتضمّنت المذكرات المهمشة كذلك أحاديث الريحاني عن صدامه المتكرر مع مسؤولي الرقابة. أما لماذا حُذف ذلك، وغيره، فلأنه – كما يرى يوسف - سيصنع مِن الريحاني بطلاً في مواجهة بعض مجايليه البارزين مِمّن آثروا نفاق السلطة، كما سيظهره في منزلة متقدمة عليهم فنياً، فكان لا بد من أن يتجسد في مذكراته شخصاً هزلياً لا يقيم للتعامل الأخلاقي مع زملائه ومحيطه الاجتماعي عموماً، اعتباراً يذكر.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)