نجيب الريحاني أو عبقرية الصمت والصوت والجسد

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الحادية والثلاثون العدد 9776 الثلاثاء 7 كانون الثاني (يناير) 2020 - 12 جمادى الأولى 1441 هـ
مروة متولي - كاتبة مصرية


نجيب الريحاني وفن التمثيل: عبقرية الصمت والصوت والجسد


قبل كل شيء، يجب القول إن نجيب الريحاني 1891 ـ 1949 هو الفنان الذي لم نشاهد من أعماله شيئاً، سوى تلك الأفلام القليلة التي هي لمحات سينمائية لمسرحي عظيم في الأساس، أقام المسرح المصري لسنوات طويلة، وأبقاه مضيئاً نشيطاً، منفتحاً بنهم على كافة الأفكار المحلية والعالمية، لا يكف عن الابتكار والتأليف والاقتباس والتمصير، وكان هو الممثل والمخرج والمؤلف والمنتج، ومكتشف النجوم وصانعهم في فرقته المسرحية، والكاتب المشارك في بعض الأحيان لرفيق عمره بديع خيري، كما كان له الفضل الكبير على الموسيقى، عندما آمن بموهبة سيد درويش النادرة، وفتح له مسرحه ليزدهر فن الأوبريت في القاهرة وقت ازدهاره على مسارح فيينا عام 1920.

وعندما نقرأ في مجلة «الرسالة» عبارة كهذه: «فزكريا أحمد الملحن الكبير الذي اختصه الريحاني برواياته، يقول إنه تعلم من الريحاني ألواناً من الموسيقى، شرحها له معاني فنفذها هو بالنغم»، ندرك أن علاقته بالموسيقى تتجاوز دعم الجديد وتشجيعه، وتصل إلى حد إلهام الموسيقيين أنفسهم، وكم كان الريحاني مقدراً من نقاد عصره ومحبوباً من الشعب، ويبدو مدهشاً ارتباط الجمهور بالمسرح في ذلك الوقت، إلى درجة أن شهر رمضان الكريم كان أحد المواسم المسرحية المهمة، وكذلك كان الريحاني مقدراً ومحبوباً من الملك فاروق الأول، الذي حضر عرضاً خاصاً لمسرحية «لو كنت حليوة» في الأوبرا الملكية، كما نعاه بنفسه عند وفاته وأقام له جنازة ملكية بمعنى الكلمة.

لم يحفظ لنا الزمن أياً من هذه الأعمال، ولن نراه أبداً على خشبة المسرح، وحدها الأفلام السينمائية ستعيننا بعض الشيء على التقاط ملامح عبقريته، التي تجعله مميزاً إلى هذا الحد وجاذباً للمشاهد في شتى الأزمنة، ومن خلالها سنحاول فهم أسلوبه التمثيلي، وإذا ما كان ممثلاً كوميدياً أو تراجيدياً، أو ممثلاً لا يمكن تصنيفه، وأول ما يلفت الانتباه عند مشاهدة أفلامه، هو أننا لا نشعر بمسرحية الأداء التشخيصي، رغم أنه قادم من المسرح، فهو لا يشبه يوسف وهبي، أو زكي طليمات على سبيل المثال، حيث تجمد الإلقاء والتكلف والمبالغة أحياناً، واتباع الأساليب القديمة في التمثيل، وإذا قلنا إن السبب في ذلك يعود إلى كونه ممثلاً كوميدياً، ولا تصح مقارنته بممثل تراجيدي، فلماذا لا يشبه علي الكسار الذي كان مسرحياً وصاحب فرقة كوميدية، وفي أفلامه ينطبع أثر ذلك على أدائه، ونشعر على الفور بأنه قادم من المسرح الهزلي، وفي ما نقرأ ونسمع عن مسرحيات الريحاني نجد أنها لم تقتصر على الكوميديا، وأنه كان يؤدي مشاهد مأساوية، منها أن يواجه شخص بريء لحظة تنفيذ الحكم بإعدامه في مسرحية «حكم قراقوش»، ونعرف أن مسرحه كان أول من قدم «ريا وسكينة»، وأن نسخة الثمانينيات الشهيرة لم تكن هي المسرحية الأولى، وفي حوار للتلفزيون المصري يقول بديع خيري، إن النساء كن يفقدن الوعي أثناء مشاهدة هذا العرض، ما يدل على أن المعالجة المسرحية للجريمة التاريخية البشعة لم تكن كوميدية وإنما كانت مرعبة.

كان الريحاني يجيد فن الصمت، ونجد أن مشاهده الصامتة مؤثرة للغاية، لامتلاكه مهارات التمثيل الصامت من لحظ وإيماء وتطويع قسمات الوجه، وإظهار التداعيات الداخلية للمشاعر، وهذا يتطلب التركيز الصارم والتحفيز الحسي لتحقيق أعلى مستوى من التعبير

وهكذا تكون أولى نقاط القوة الفنية لدى الريحاني، هي أننا لا نجد أثراً لما كان يقدمه على المسرح، سواء كان كوميدياً أو تراجيدياً، فإن تحرر الممثل من التأثيرات التي يتركها المسرح على كافة جوارحه، ليس بالأمر السهل، ورغم ذلك نراه ذهب إلى السينما في الثلاثينيات، متحرراً من قيود المسرح، مقبلاً على فن كان حديثاً بقدرة كبيرة على التأقلم والتفوق وإعادة الخلق الفني للذات، ربما يكون فيلم «ياقوت» 1934 هو أول أفلام الريحاني، لكن المؤكد أنه أقدم الأفلام التي يمكن مشاهدتها وتمنحنا فرصة الاقتراب من هذا الفنان، والتعرف على ملامحه الشخصية والفنية المختلفة عن بقية أفلامه، حيث كان وقتها في الثالثة والأربعين من عمره تقريباً، لكنه بالنسبة للمشاهد الذي اعتاد رؤيته في عمر أكبر من ذلك، يبدو شاباً قوياً بكامل أناقته، وأكثر نحافة وتصالحاً مع جسده، فنراه بثياب البحر على سبيل المثال، فهو لا يلعب دور الفقير هذه المرة، لأن شخصية ياقوت تمتلك خمسين فداناً من الأرض الزراعية، وبيتين يجلبان له إيراداً جيداً، كما أنه لا يلعب كالمعتاد دور البائس عاطفياً، الذي إن حظي بحبيبة فإنها تحبه لأنه رجل طيب وحسب، وربما لا تحبه على الإطلاق وتتلاعب به، وإنما هو في هذا الفيلم الرجل العاشق الجاذب للمرأة التي تبادر هي بالتقرب إليه لأنه أعجبها وأثار مشاعرها.

ويكاد القلب يذوب حسرة، عندما نرى القاهرة كحلم جميل بعين مخرج الفيلم الفرنسي «ويلي روزييه» قبل أن ينتصر القبح وتُرفع راية «لا جمال إلا جمال»، وعلى الرغم من الهوس الفرنسي الشهير بالفراعنة، إلا أن المخرج لم يفتنه سوى نهر النيل ومآذن المساجد، فمنحهما الوقت واللقطات التوثيقية، التي بدت خارجة عن سياق الفيلم، لكنها جميلة وممتعة، حيث نرى صورة الأشجار والنخيل المنعكسة على مياه النيل الصافية كالمرآة، كما ختم المخرج فيلمه بمشهد للمسجد الذي وظفه كرمز للأمان النفسي والسكينة، بعد التقلبات الدرامية، عند مشاهدة هذا الفيلم نكون كالغرباء تماماً، لا نعرف أحداً سوى الريحاني، وقد لا نعرفه جيداً بهيئته الجسدية المختلفة، وصوته الأهدأ والألطف، كما نراه في بعض المشاهد يمثل ويحب ويغار باللغة الفرنسية، التي يتحدثها بلكنة مصرية لطيفة، فالفيلم مصري فرنسي، وفيه الكثير من المشاهد بالفرنسية التي يتحدث بها جميع الممثلين المصريين في الفيلم بطلاقة، حتى من يؤدي دور خادم السيدة الثرية «رودي» بطلة الفيلم التي لعبت دورها الممثلة الفرنسية إيمي بريفان، وتحدثت هي أيضاً في بعض المشاهد باللهجة المصرية بلكنة فرنسية، وتنغيم أخاذ، خصوصاً عندما تتدلل على الريحاني أو حبيبها ياقوت وتسأله «مين أجمل ست في الدنيا؟» فيجيبها «رودي»، وعندما تعود إلى البيت بعد أن يتزوجا، وتدخل عليه قائلة «سلام عليكم ياقوت أفندي»، وكذلك عندما تتغنى بمقطع قصير من أغنية «حبي مليك الملاح»، وهي أغنية لمطرب قديم اسمه سيد أفندي شطا، تسمعها بشكل عابر في الشارع لأول مرة، وتأسرها الأغنية تماماً، وتظل تبحث عنها، وتطلب ممن يعملون لديها ترجمة كلماتها لتفهم كل معانيها، فالصوت الجميل الذي يلمس قلوبنا بعطف نبراته، لا يُنسى ويبقى أثره وإن استمعنا إليه لمرة واحدة فقط.

كان الريحاني يجيد فن الصمت، ونجد أن مشاهده الصامتة مؤثرة للغاية، لامتلاكه مهارات التمثيل الصامت من لحظ وإيماء وتطويع قسمات الوجه، وإظهار التداعيات الداخلية للمشاعر، وهذا يتطلب التركيز الصارم والتحفيز الحسي لتحقيق أعلى مستوى من التعبير، ونراه يتفوق في مثل هذه المشاهد، سواء كانت كوميدية، كما في مشهد تناول السباغيتي في فيلم «أحمر شفايف»، أو مأساوية كما في مشهد البكاء أثناء الاستماع إلى غناء محمد عبد الوهاب في فيلم «غزل البنات»، أما المشهد الذي يُظهر عبقرية الصمت لديه، فنراه في فيلم «ياقوت»، وهو ليس بالمشهد الكوميدي أو التراجيدي، وإنما هو مشهد شديد الروحانية، فإن المخرج الفرنسي لم تعجبه المساجد كمعمار وحسب، لكن يبدو أنه أغرم بالأذان أيضاً، فأبدع ذلك المشهد الرائع، حيث يستمع الريحاني إلى الأذان بأكمله، وهو مشهد لا علاقة له بأحداث الفيلم، لكنه تحفة فنية صغيرة مستقلة في داخله، وفي بدايته يظهر المؤذن لثوان قليلة وقد صعد إلى المئذنة، ثم لا يكون سوى صوته مع صورة الريحاني الذي يجلس في سكون وخشوع وإصغاء للأذان، وقد يُذهل المشاهد من جمال الصوت الذي يستمع إليه وعذوبة الأداء وبساطته الموحية، وهو يرى أثر كل ذلك على وجه الريحاني، ومن المؤثر حقاً أن يكون هذا الفنان المصري الكاثوليكي، والإنسان أولاً وأخيراً وقبل كل شيء وبعد كل شيء، هو أعظم من عبر عن مشاعر الاستماع إلى الأذان والتأثر بجلال كل كلمة من كلماته.

تظهر مهاراته التعبيرية الصامتة في الكثير من المشاهد الأخرى، حيث كان يوظف الصمت في لحظات مهمة من المشاهد الحوارية، التي يعتمد فيها على الصوت، والتلون في الإلقاء، والأداء المتسم بنوع خاص من التنغيم وقوة اللفظ بجرسه الرخيم

كما تظهر مهاراته التعبيرية الصامتة في الكثير من المشاهد الأخرى، حيث كان يوظف الصمت في لحظات مهمة من المشاهد الحوارية، التي يعتمد فيها على الصوت، والتلون في الإلقاء، والأداء المتسم بنوع خاص من التنغيم وقوة اللفظ بجرسه الرخيم، ويتميز تكنيك الصوت لديه بالمرونة، سواء في التواصل اللفظي، أو التعبير بالكلمات المتلاحقة المشحونة بالانفعالات، وهمسات الحب أو صيحات الألم، وفي صوته الطبيعي الواضح المؤثر الكثير من الرجولة والخشونة التي تخفي وراءها لين الطبع ورقة المشاعر، أما جسده فكان أداته التعبيرية الأكثر حساسية، وكان يعرف جيداً كيف يستخدم هذا الجسد، ليتبع الشخصية التي يلعب دورها بشكل طبيعي، وفي هذا الإتباع يكون التحرر التام للجسد، الذي يتصرف كما يشاء، وربما يفاجئ الممثل نفسه بما سيأتيه من حركات ولفتات، وكان في كثير من الأحيان يلقي بجسده في الموقف ويدعه هو يخبره كيف يتصرف كممثل، فينطلق الجسد بخياله الخاص والإيماءات وأنماط الحركة المرتبطة بالأفكار والمشاعر والصفات النفسية لكل شخصية وإيقاعها واستجابتها الحركية، وكانت لديه دائماً تلك المرونة والتلقائية وتطويع الجسد في السكون والحركة السريعة المضطربة، وخلق الصلة العاطفية مع جسد البطلة أو محاولة قطع هذه الصلة، كما في فيلم «أحمر شفايف» حيث نراه في صراع دائم مع جسده المنهار أمام إغراء سامية جمال، الذي لا يقاوم، وفي المشاهد المؤلمة عاطفياً نرى قدرته على إظهار التوتر الجسدي من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل، والتعبير النفسي عن الانفعال الذي ينعكس على الجسد، كما في مشهد الطلاق في فيلم «لعبة الست»، حيث تتجلى قدرته على تقليص المسافة بين الشعور والحركة وربما محوها تماماً.

وفي فيلم «ياقوت» نرى أجمل المشاهد التي تُظهر قدرته على استخدام الصمت والصوت والجسد في المشهد الواحد، كما في مشهد الاعتراف بالحب المتبادل بينه وبين رودي، وبعده مباشرة كان الزواج، هذا الاعتراف بالحب كان صامتاً في لقاء متحفظ يخلو من أي تلامس أو تقارب جسدي، وكان خالياً من الكلمات أيضاً، والصوت فيه كان همهمة خافتة للحن أغنية «حبي مليك الملاح»، بدأت بها رودي ثم همهم معها الريحاني بصوت يفيض بالعشق وجسد متردد بين الحركة والسكون، وبعد الزواج يأتي مشهد الغيرة الرائع، الذي تم تصويره في فرنسا عندما سافرا إلى هناك، وفي إحدى السهرات قامت رودي بالرقص مع أحد الأشخاص، فانسحب الريحاني من المكان ليجلس في الخارج يدخن سيجارة في الظلام، ثم خرجت رودي لتبحث عنه، فوقف ينظر إلى عينيها وجسده في حالة سكون وجمود تام، إلا من بضع ضربات متوترة بإصبعه على السيجارة، لكن هذا السكون يوحي بالنيران المشتعلة في داخله، وكذلك صوته الهادئ عندما يتحدث بالفرنسية، ويعبر عن الغيرة التي تكاد تفترسه من الداخل، ثم يتركها ويذهب ليجلس بعيداً، فتذهب إليه وتجلس في حضنه وتعده بألا ترقص مع غيره «أبداً أبداً أبداً» كما تردد بالعربية، هنا نرى كيف يستطيع الريحاني أن يضيء ويُظلم، وأن يشتعل وينطفئ، وتحديداً براعة هذا الانطفاء التدريجي البطيء جداً، وهو يطلب منها أن تقسم على ألا ترقص مرة أخرى مع أحد سواه، وفي هذا المشهد والكثير من المشاهد الأخرى في بقية أفلامه، نكتشف في كل مشاهدة جديدة، ما لم نكتشفه من قبل، وهذا ما يفسر تلك اللذة الفنية المتجددة دائماً في تمثيل نجيب الريحاني.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)