موسم الكبك، أحمد إبراهيم الشريف (مصر)، رواية الهيئة العامة لقصور الثقافة - 2013

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 11-06-2016، العدد: 10303، ص(17)
الصفحة : ثقافة
العرب - ممدوح فرّاج النّابي


’موسم الكبك’ تغريبة الفقراء في قرية مصرية


أنْ تصنعَ لنفسك صوتا وتزاحم بعمل لافت وسط هذا السيل الجارف من الإبداع وعلى الأخص الروائي، بين غثه الكثير القاتل لكلّ موهبة حقيقية، والذي وصل “حدّ الإسهال”، كما عَبَّرَ عن ذلك الأديب الكبير الراحل محمد مستجاب ذات مرة، لهو أمر صعبٌ وعسير، ويستوجب أدوات وتقنيات وتيمات بعيدة عن التكرار والسّائد والسّطحي، تفرض بها على مُتلقيكَ أن يسمعَ لكَ لما تقول. وببساطة هذا ما فعله الجنوبي أحمد إبراهيم الشّريف القادم من مدينة أسيوط.

رواية المصري أحمد إبراهيم الشريف “موسم الكبك” الفائزة مؤخرا بالمركز الثاني مناصفة لجائزة ساويرس للشباب في دورتها الحادية عشرة، رواية عن القرية وأوجاعها سواء أوجاع الفقر التي تجعل من أبنائها يرتحلون أو من السلطة وأيضا من لوعة الحبّ المحرّم والممنوع، ورواية أيضا عن المهمشين الذين ارتضوا العيش “تحت الحيط”، لكن قسوة الأعلى هرستهم وأطاحت بأحلامهم البسيطة.

رواية المهمشين

بنى الكاتب روايته، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، على حادثة واقعية حدثت في التسعينات لصيادي الكبك من قريته بعدما أخطأت سفينة السُّيَّاح القادمة من الشّمال والمتجهِّة إلى بلاد الفراعنة، وما نَتَجَ عن هذه الحادثة من هرج ومرج وإطلاق نيران لا أحد يعرف مصدرها، أو أول من قام بها، لتنقلب حياة الصيادين رأسا على عقب على الرغم من التأثير السلبي للحادث على حياة أهل القرية، حيث أوقف حركتها كما صور الكاتب بقوله “خيّم السكون.. ولم يقوَ أي واحد على النطق.. وقفت الصرخات غصة في حلوقهم، والزمن توقف لثوان معدودة مرت عليهم كدهر، ولم يتمالكوا أنفسهم، ولم يروا سوى بيوتهم الصغيرة وهي خربة بضياع الشباك وانتهاء موسم الصيد في بدايته”. إلا أن المؤلف يجعل منه صدى للرواية وليس المحور الرئيسي للأحداث. وتنحرف الرواية وأحداثها عن هذا الحادث لتقدم لنا حكايات هذه الشخصيات التي وجهت لها السلطة الاتهام، رغم أن الكثير من هذه الشخصيات لم تكن لها علاقة بالحادثة بل ولم تكن موجودة في القرية أثناء وقوعها.

أحمد الشريف يتبنى في نصه استراتيجيات كتابية تعمد إلى التجريب الذي يميّز نصه، فثمة رابط جوهري بين المتن (أصل الحكاية) والهامش الذي يشرح فيه بعض المفردات والعبارات، حيث لا تكتمل الحكاية إلا بالهامش الذي صار متنا جديدا أعطى أبعادا ودلالات أخرى للنص. فالحكاية التي يرويها الكاتب قد تبدو حكاية بسيطة وأيضا حكاية غرائبية أو أسطورية بفعل علاقة المتن بالهامش. فالنص قائم على لعبة تفتيت الحدث الذي مرّ في لحظة زمنيّة من سكونية القرية، وأيضا الزّمن الذي يبدأ بزمن الحادثة ليتوزع على أزمة تمتد لزمن ما قبل عوض معبد، وهو إحدى الشّخصيات التي وُجِّه إليها الاتهام، زمن موغل في القدم منذ أن كانت أمه تلعب مع رفقائها وفي اليوم التالي زفت إلى رجل كان يفترسها كل ليلة ثم لفظها، وهو ما يعكس تاريخا من القهر للمرأة لا تبدأ بكونها أما أو زوجة بل منذ طفولتها، حيث وأد هذه الطفولة امتثالا لعادات تزويج الفتيات في سن مبكرة.
ويصل الشريف إلى أزمنة تذهب إلى حرب الخليج وعودة فرج محمدين الذي لا يحمل إلا الاستمارة الصفراء التي تشير إلى ما لديه من أموال في البنوك هناك، وترمس شاي، ومنها إلى زمن بعيد نسبيا يصل إلى عمّال التراحيل أيام زبانية الخديوي، وجميع هذه الأزمنة التي تستحضرها الشخصيات وفق حضورها في النص وترتبط بقهر السّلطة منذ حادثة التبليط الأولى، حيث أخذت الحكومة الكثير من أهل القرية دون معرفة مكانهم أو حتى عادوا كما كان يعود عمّال التراحيل إلى زمن الرجال الذين يرتدون نفس الملابس ويسألون عن المعتدين على مركب السّياحة، إلى زمن المدّ الدينيّ وبداية خروج المارد من قمقمه.

النص المفتت

ثمة حكايات مستقلة لكلّ شخص من الشخصيات التي تروي النص: ابنة حياة، عوض معبد، ومحمد عمران والشيخ أبوزيد علي حسن والفتى العاشق هاشم والغريب. والمشترك الوحيد في حكايات هذه الشخصيات لا في كونها هي من تروي حدث السفينة وفقا لاستجوابات التحقيق، وإنما الرابط المهم هو المآسي التي عاشتها جميع هذه الشخصيات كل على حدة. فابنة حياة هي ضحية للفقر الذي جعل الأب مغتربا والأم تنصاع لنداء الرغبة في داخلها، فيقتل الأب الأم في طقس طوطمي اشتركت فيه القرية كلها بالنميمة تارة وبالتحريض تارة أخرى. وعوض معبد ضحية أيضا لذكورية أب ترك ابنه إرضاء لإشباع نزوته، فربته الجدة ومن شدة العوز ترك المدرسة، وهاشم الذي هام عاشقا خلف سيدة طما يجد نفسه متورطا في حكاية لم يكن حاضرا فيها.

وثمة تفريعات لحكايات جانبية لا علاقة لها بالحدث وإنما تكشف عن بنية القرية وعقليتها التي تحتكم إلى أنساق مهيمنة تغذيها الإشاعة كما في حكاية سعيد الذي وجدوه مقتولا عند رأس سعيد التي يبدأ بها الصيد محمد عمران، أو تكون مرهونة لخيالات عن الجن والعفاريت. كما أنّ الأماكن ارتبطت بشخصيات وحوادث، وهذه الاستراتيجية الكتابية في إلصاق اسم الشخصية بالمكان تتماشى مع واقع الصعيد الذي يقدس المكان في حضور شخصياته، كما ثمة اتصال وحميمة بين إنسان هذه البيئة والكائنات التي تعيش فيها، فالإنسان ليس هو الكائن الوحيد بل تشاركه الكائنات الأخرى كل ما يعانيه. فعامر ما إن يشعر بأن الخطر يقترب منه بعدما تمّ القبض على الشيخ أبوزيد، يقول “اسمي تلتقطه العصافير والغربان.. وتأتي إلي مسرعة.. فتجدني مختبئا خلف الزير، فقد سبقتها الريح وأخبرتني” وأم عوض معبد، تدور وتضحك تشاركها “الأرض في الرقص”.

الرواية قائمة على لعبة التجريب سواء على مستوى تفتيت الحدث، أو بناء نص على حدث هامشي لا يتردد إلا صداه داخل النص، لكن أهم تقنية صاغ بها الشريف نصه تتمثل في جعل المتن جوابا والهامش قرارا في سيمفونية يتم فيها تبادل الأدوار بين المتن والهامش، فيفصح الهامش عمّا أضمره المتن، حتى على مستوى اللغة التي تميل إلى الترميز والتلميح أكثر من الكشف والإبانة وهو ما يعكس قهر واقعها، فتمثله عبر الخصائص اللغوية والأسلوبية، وما دبج به النص من أمثولات يرويها الفلاحون أثناء جمع القطن أو أثناء جلوسهم لحراسة المساطيح في الليل، أو حتى الصيادون عندما يفردون قلوع شباكهم وفي أحايين تقترب من لغة الحكي الشفاهي في بيئات الصعيد وإن كانت بالفصحى.

اللعبة التي قوامها التجريب، لا تقف حدودها عند التراسل بين المتن والهامش فقط، فالنص قائم على التفتيت أيضا فليس ثمة حكاية بالمعنى المألوف للحكاية، تجمع الشخصيات وتوحّد حركة السّرد، بل ثمة رواة متعددون لا يروون الحكاية وفق شاهد العيان ورؤية أحدهم للأحداث من منظوره، وإنما يروون حكاياتهم.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)