من مفكّرة غاسل الموتى، جمال الشحّي (الإمارات)، رواية دار كُتّاب في الإمارات - 2016

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأحد 21-05-2017
المدن - ثقافة
هيثم حسين


"من مفكّرة غاسل الموتى" لجمال الشحّي.. عن سرّ الحرّيّة


البوح والاعتراف وسعادة الكشف عن حديث الأموات جزء من لعبة الشحي الفنية


يقارب الإماراتيّ جمال الشحّي في روايته “من مفكّرة غاسل الموتى” فلسفة الموت والحياة، الوجود والعدم، المادة والروح، وذلك من خلال رؤى راويه وخيالاته العابرة لحدود الزمان والمكان، الباحثة عن عالم مختلف تكون فيه الاشياء والأرواح خارجة عن سطوة ما يحيط بها ويقيدها من موجودات. يصوّر رحلة روح نحو فضائها المفتوح وتحرّرها من لعنة المادة.

يستهلّ الشحي روايته بمشهد غاسل الموتى مسجّى على سرير الغسل، نصف مكفّن، حالته مثيرة للريبة والظنون، وباعثة على التحقيق والنبش فيها، خشية أن تكون جريمة قتل، وتكون الحيرة المرافقة بداية توسيع لدائرة السرد، والدفع إلى البحث في ما وراء اللغز المحير الذي يتكشف رويداً رويداً تالياً.

يترك غاسل الموتى مفكرته بالقرب منه، يحصل عليها الطبيب الشرعي إبراهيم الذي يضعها في حقيبته، ويخفيها عن الضابط الذي يقوم بالتحقيق في تلك الحادثة الغريبة، يتأمل أن تكشف له المفكرة أسرار الميتة التي اختارها غاسل الموتى لنفسه، ويبدّد الغموض الذي يلفّ الحادثة، ويربط الخيوط إلى بعضها بعضاً مكملاً ضرورة الوقوف على الحقيقة التي ينشدها.

يسلط الشحّي أضواء على الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات من القرن العشرين وذلك من خلال استذكار بطل روايته الطبيب الشرعي إبراهيم؛ المنحدر من مدينة شاطئية غير مسمّاة، أيامه حين كان موفداً للدراسة فيها، حين كانت بيروت مدينة متألقة في فضاء الشرق كلّه، تعيش عصرها الذهبي وتنفتح على جميع التيارات، كما يلتقط شرارات اندلاع الحرب الأهلية، والتفكك الذي خلفته في البنى الاجتماعية والاقتصادية والحزبية اللبنانية، وكيف بدأت الهشاشة تتناسل بعد ذلك وتتكاثر في دوائر عنف ودماء.

يتناول الشحّي جانباً من مأساة الفقد أثناء الحرب، وخسارة الأبرياء والأحباء التي لا تعوض، والتي يزداد أساها وتأثيرها عبر الزمن، وذلك حين يستذكر إبراهيم رحلته المضنية إلى بيروت في خضم الحرب الأهلية حينها، وكيف أنّه اقتفى أثر محبوبته الفاتنة سارة، ونكبته بعد ذلك بخسارتها، ومن ثم بقائها وشماً في ذاكرته، وذكرى خالدة لديه، يعيد رسمها في خيالاته ويبقيها سيدة قلبه لعقود، ولا يفتأ يعود لصورتها وذكراها مبتهجاً ومحزوناً في الوقت نفسه.

غاسل الموتى الذي يخلف جده في مهنته ويرثها عنه، يكتسب رهبة يفرضها عمله على الجميع، هناك من يتصوّر نفسه بين يديه عارياً بعد موته وهو يقوم بتغسيله وتكفينه، يشعر بسطوته النافذة وحضوره المهيب، كما أنه يبدأ باكتشاف عالم مختلف عن عالمه الواقعيّ جراء اختباراته التي يقوم فيها بتحرير روحه من أدران الجسد، والانطلاق في فضاء التخييل، يسوح في عالم هلامي لا مرئي، لا قيمة فيه إلا للأرواح الهائمة في بحر هواها وهيامها وغرائبها.

يكشف الشحي من خلال راويته نقطة تتمثل في حرص بعض الناس على إخفاء حكاياتهم، وكيف أن الموت كاشف وفاضح لها، كما أنّه قد يكون مخلصاً وشافياً في الوقت نفسه، كحالة الأب الذي يحاول التكتم على مأساته وخيبته بإبنه الذي يقوم بإجراء عملية تحويل جنسية، والمرارة التي يخلفها في صدره وروحه جراء إقدامه على ما يعتبرها جريمة بحقه وحق أسرته وأهله، وواقع أن ثراءه لم يعوضه فقده وخيبته ووجد نفساً مهزوماً أمام محنته المضاعفة.

يتطرق كذلك إلى فكرة الانتحار ودوافع المنتحرين فاقدي الأمل بواقعهم وحياتهم وأنفسهم ومستقبلهم، وهروبهم مما يثقل عليهم إلى عالم آخر يعتبرون أنفسهم فيه متحرّرين من همومهم السابقة وقيودهم الكثيرة التي كانت تقض مضاجعهم وتدفعهم إلى هاوية اليأس السحيقة التي دفعت بهم إلى تنفيذ اغتيالهم لأجسادهم في سعيهم للتحرر من جنون الانتحار الذي يغرقهم أو ينغص عليهم حياتهم التي يسودها لون أسود يعمي الأبصار والبصائر.

يصور صاحب “أنا والعم سام” مشاهد انتحار مؤلمة، كمشهد انتحار الطبيبة المداوية سارة، تلك التي ظلت تسكن قلب حبيبها السابق إبراهيم لعقود، ومحنتها لعدم قدرتها على التأقلم مع حالات فقدها مدينتها وحياتها السابقة وحبيبها واضطرارها إلى الهجرة والاقتران بقريب لها، ولم تنقذها الأمومة من وحشتها ويأسها، كما لم ينقذها عملها كطبيبة، بل وقعت رهينة يأسها ونفذت جنونها بالانتحار باحثة عن راحة مخادعة.

يبوح غاسل الموتى؛ إسماعيل، في يومياته بالأسرار التي يوثقها في مفكرته لتكون رسالته إلى صديقه الموثوق؛ صديق روحه الهائم معه في فضاءاته السرّية وعوالمه الروحية، ويكشف له عما كان يمارسه في السر والعلن، يكتب له عن تلصصه على الأحياء والأموات، وصدمته بنفسه وواقعه، مثلاً كان يسترق النظر على نساء إمام الجامع، بحكم أن بيته كان ملحقاً بالجامع مثله، ويعبر عن غيرته من الإمام الذي كان يحتكر سلطة اعتبارية بيده، وكان صاحب نفوذ، ومشيراً في الوقت نفسه أنّ تلك السطوة كانت تفقد قيمتها أمام رهبة غرفة غسل الموتى التي كان يخشاها الجميع.

يتوجه الراوي الخبير العليم بمكنونات القلوب وأسرار النفوس والأجساد للقرّاء المفترضين بعد دخوله عالمه الخاصّ، قائلاً إنّه يستطيع أن يشرح معنى الحرية، ويستطيع أن يكتب فيها مجلدات كاملة، ويقول إنّهم لن يعرفوها حق المعرفة، حتى يستطيعوا أن يخرجوا مثله من أجسادهم. ويؤكّد أنّ الخروج من الجسد هو قمة التحرر، هو سرّ الحرية. أما الأجساد الفانية فهي قيود الحرية، بل هي سجن الحياة.

يصف غاسل الموتى نفسه بالمتأمّل الأخير، يشعر أنه عاشق لمهنته، مغرم بها حتى الجنون، مفتون بألغازها العصية على التفكير، مبهور بأسرارها القصية في دهاليز سرية. يصف عالمه الغرائبي، الجسر بين عالم الأحياء والأموات، آخر من يرى الميت، يغسله ويكفنه، يهيئه لعالم ما بعد الموت، لدسه في القبر وإهالة التراب عليه، يتمعن في تفاصيل جسده، وينبهر كيف أن الموت يضع نقطة النهاية في كتاب الحياة، أو يضع إشارة بدء جديدة للراحل مفعمة بالحكايات والذكريات والتأويلات عنه.

البوح والاعتراف وسعادة الكشف عن حديث الأموات جزء من لعبة الشحي الفنية، يوحي اللقارئ أنّه يزيح النقاب عن أسرار مخبوءة، ويدرك أنّ للأسرار بريقها الخاصّ لدى الآخرين، ويمكن أن تشكّل نقطة تشجيع للانكباب على محاولات استقرائها واكتشافها بشتى السبل. وتراه يركّز على التحرر من ربقة الجسد، وحرية الروح في جولانها وسياحتها بعيداً عما توصف بقيود الجسد، البحث عن نشوة الروح من خلال حرية الانطلاق في فضاءات مفتوحة بعيدة عن عالم المادة، القوة التي يمكن استمدادها من الحرية المنتزعة، تلك المؤثرة في حياة صاحبها ومستقبله، تكشف له ما وراء المادة، وتضعه في غمرة عالم مختلف.

(*) الرواية صادرة عن دار كُتّاب في الإمارات 2016.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)