ملك الهند، جبور الدويهي (لبنان)، رواية دار الساقي - 2019

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 03-06-2020
المدن - ثقافة
جان هاشم - كاتب وناقد لبناني


"ملك الهند" لجبور الدويهيّ.. بوليسيّة على خط الزلازل


جبور الدويهي


استوفى جبّور الدّويهيّ في روايته ملك الهند (اللائحة القصيرة لجائزة بوكر العربيّة، 2020، دار الساقي) كل مقوّمات الرواية البوليسيّة. الجريمة المفاجئة والغامضة في بلدة تل صفرا، والضحيّة زكريّا مبارك، ومجموعة الدوافع التي أحاطتها بالغموض وأثارت الشبهات حول الجُناة المحتملين والخطّة العملانيّة ومجرى التحقيق.

تفتح الرواية على مشهدٍ بانورامي موصوفٍ بعين سينمائيّة لبلدة تل صفرا التي عاد إليه زكريا بعد هجرة طويلة، فيجري الكاتب مسحاً شاملاً لموقعها الجغرافي وطبيعتها ومسار حياة أهلها وتاريخهم مع السفر والهجرة، ليضيق المشهد أكثر فأكثر على زكريا العائد وهو يتأقلم مجدّداً مع نمط الحياة المتغيِّر فيها ويُحيي علاقته الأسريّة مع شقيقته، وصولاً بسرعة إلى العثور عليه مقتولاً بطلق ناريّ في صدره وهو متّكئ على جذع شجرة في كرم المحموديّة الذي تملكه عائلته.

يوحي الكاتب مباشرة، ومنذ الفصل الأوّل، باحتمال الانتحار كدافع، قبل أن توجّه أصابع الاتّهام مباشرة، على ألسنة الناس وأهل بيته شقيقته مرتا بنوع خاص، إلى أولاد عمّه يونس بسبب خلاف قديم على الميراث. ثمّ توسّعت دائرة المشبوهين لتشمل الدروز من أهل البلدة على أساس أنّ دافعهم هو الثأر لجريمة قديمة بحقِّهم، اقترفها ابراهيم والد زكريا، دفاعاً عن النفس في كرم المحمودية، ولم تكن الخلافات الشخصيّة سوى التعبير الآخر عن الأحقاد الدفينة الموروثة من أيّام الأحداث الطائفية والمجزرة التي وقعت بين الدروز والمسيحيّين قبل مئة وخمسين عاماً.

يُضاف إلى كل هذه الدوافع، عامل آخر من خلف البحار، ربّما تكون عملية انتقام من زكريا، نفّذها “الأَبرص” لبنانيّ الأصل، صديقه وربّ عمله في فرنسا وافريقيا وروسيا، بسبب تخلّف زكريا عن تسليم لوحة “عازف الكمان” الثمينة بناء على اتفاق بينهما على سمسرة بيعها قبل عودته إلى لبنان.

تكاثرت الاحتمالات على مكتب المحقِّق كمال أبو خالد، الذي عمل الروائيّ على بناء شخصيته بشكلٍ نمطيّ مميَّز، على غرار شخصيّات المحقّقين التاريخيّين المعروفين في الأدب أو الأفلام البوليسية. مندفعٌ في عمله مخلص ومتفرّغ له، مُدَّعي جدارة، وصارم وجدّي، حضوره متلازم مع كلب من نوع بولدوغ يبقيه بجانبه ويداعب رأسه وهو يراجع موادّه، ما يذكّر بزعيم العصابة أو قائد جهاز المخابرات في أفلام جايمس بوند وهو يداعب رأس هرّ من دون أن نرى وجهه، أو على غرار المحقّق كولومبو ذي معطف المطر الأبيض والسيغار في فمه برأسه المائل ونظرته المنحرفة التي تنمّ عن ذكاءٍ ودهاء.

تابع المحقّق كمال تحقيقاته إنطلاقاً من رأس خيطٍ في كلّ مرة، وفي كلّ مرّة يُفلِت منه الخيط لتوفّر أدلّة وقرائن تُسقط الشبهات فيعود مجدّداً إلى نقطة البداية، معتمداً في كلّ مرّة خطّة عملانيّة يحاول بها ربط خيوط الجريمة على خطٍّ ما قبل أن يسقط في يده.

تبدو الحبكة متينة من الزاوية البوليسيّة وإن لم تأتِ خلاصاتها جازمة مقنعةً من حيث الوقائع والأدلّة ومسار التحقيقات، بسبب يأس المحقِّق واستعجاله الذهاب إلى الخيار الأسهل، أي القول بانتحار زكريا “ستكون هذه الميتة الأقلّ ضرراً والأخفّ لبكة”، وهو ما أوحت باحتماله الرواية منذ البداية وفي غير محطّة منها. وهذا ما جعل البعض يرى فيها مجرَّد “حكاية” ممتعةً وإن افتقرت حلقاتها إلى التماسك والعمق أحياناً. لكن من الواضح أن الكاتب لم يردها رواية بوليسيّة صِرفة، ولو أراد لأتقن ذلك ربما وهو الروائيّ المتمكِّن تقنيّاً وثقافيّاً، بل أرادها رواية “قضيّة” قائمة على اللعبة البوليسيّة، وهو نوع من الأدب البوليسي القائم في العالم. فهناك الرواية البوليسيّة ذات الأساس الاثنيّ أو العنصريّ أو الدينيّ أو الثقافيّ أو الأخلاقيّ أو العلميّ التي تكشف عبر حبكة مشوّقة ومتقنة السبك بوقائعها وخفاياها الجوانب الخفيّة في هذه القضايا المُتنازَع فيها. هذا ما نلمسه مثلاً عند دان براون في رواية “شيفرة دافنشي” (تحقيقات وملاحقات على أساس دينيّ) والأصول (أساس علميّ). إنّها محاولة إذن من الدويهيّ لطرق باب الرواية التقليديّة من زاوية جديدة، أي من التركيبة البوليسيّة. من هنا يُسجّل لجبور الدويهيّ، الروائيّ البارز عربيّاً وعالميّاً، جرأته في طرق هذا الباب الذي لم تلقّ المحاولات فيه رواجاً ملحوظاً في العالم العربيّ.

هذا المنحى لبناء الرواية البوليسيّة-القضيّة اضطر الكاتب إلى إشراك صوته “الراوي” مع صوت المحقّق في سعيه إلى فكفكة خيوط الجريمة، فإذا هو، الراوي، يتولّى استعادة تاريخ بلدة تل صفرا غائصاً في الماضي، بما فيها من علاقات ملتبِسة وصراعات طائفيّة وأسلوب حياة وشخصيّات نمطيّة وألوان محلّية يمرّرها الكاتب بلباقة ممتعة عبر السرد، وصولاً إلى زمن الرواية. والملفت هنا تأريخ الكاتب بواسطة الأحداث الطبيعية أو العالميّة الكبرى، من دون تواريخ دقيقة (سافر زكريا يوم مرور مذنَّب هالي، أو زمن الاجتياح الاسرائيليّ لبيروت). وهو، الراوي، الذي يتتبَّع تجوال زكريا القتيل في بلاد العالم قبل عودته ومقتله، فينقل أدقّ التفاصيل عن أعماله ومغامراته المشبوهة أحياناً وعلاقاته بالنساء وزاوجه الأخير في الولايات المتحدة وإنجابه فتاة تُقتل في مجزرة مدرسة على يد مريض مهووس، فيحمل رمادها معه إلى لبنان، وربما مقتلها هو سبب تفكيره الدائم في الانتحار ما شكّل أحد مفاتيح حلّ لغز الجريمة. ومع رماد ابنته يحمل لوحة عازف الكمان الثمينة افتراضاً والتي تبيّن أنها مزوّرة، وقد تكون سبباً آخر من أسباب مقتله. وبالطبع يقف مطوّلاً أمام سِيَر حيوات أفراد عائلته وصولاً إلى تملّك جدّته فيلومينا كرم المحموديّة وظروف الأحداث التي وقعت فيه والظروف التي أحاطت به ما شكّل مفتاحاً آخر مُحتملاً لحلّ اللغز.

تولّى الراوي إذن استعادة هذه المسارات بالتفاصيل الدقيقة لحياة الضحية الحافلة بالأحداث والمشاكل والتي ما كان للمحقّق كمال أبو خالد أن يقوم بها. فهو لم يسافر لمتابعتها، ولم يرسل محقّقاً مساعداً ولم يتّصل بالانتربول مثلاً للحصول عليها، كما يفعل محقّقو الشرطة في العالم، أو المحقّقون الصحافيّون أو الفضوليّون على غرار ما نشهد في الكثير من الروايات أو الأفلام البوليسيّة. كل ما حصل عليه من غربة زكريا مبارك الطويلة هو علاقته المشبوهة “بالأبرص” وذلك بواسطة صديق له هنا في بيروت سلّم القتيل قبل مصرعه وبإيعازٍ من الأبرص مسدّساً من نوع غلوك 17. لو جعله الدويهيّ يقوم بذلك لأصبحت “ملك الهند” رواية بوليسيّة مكتملة. لكنّه فضّل جعل الرواية تتبع مسارَين، مسار التحقيق ومسار الاستعادات، تسهيلاً لتوفير عناصر القضية التي يطرحها، وليس لمساعدة مسار التحقيقات وحسب. وهو ما جعل حضور الراوي العليم طاغياً بقوة ليحتلّ أكثر من ثلثي الرواية. ولا غرو في ذلك إذا ما اعتبرنا أن الدويهيّ أراد التركيز على القضية أكثر منه على الجريمة، ولو أخلّ إلى حدٍ ما بالتوازن المفروض بين الخطّين. فالراوي هو بمثابة عين الكاميرا الثانية المواكبة والموضِحة كما في الأفلام السينمائيّة لمسار التحقيقات، ومن هنا إمكانيّة افتراض وضعين نهائيّين للرواية، المحقّق أوحى بالانتحار (حلّ نهائيّ) بينما الوضع يبقى ملتبساً وغامضاً انطلاقاً من كلام الراوي.

هي قضية وطنٍ “قائم على خط الزلازل”، تاريخه حافل بالصراعات والحروب الطائفيّة والخلافات العائليّة. مجتمعه مشبع بهذه العقليّات ومنقاد لغرائزه وشخصيته المعنويّة المتكوّنة عبر مئات السنين من مؤثّرات هذا الصراع. هو بلد خالٍ من تعقيدات المدن الكبرى بما فيها من جرائم منظّمة ومؤامرات مافيوزية، بلد صغير ما يزال ريفياً إلى حدٍّ بعيد، تنكشف فيه الجرائم توّاً ويُعرَف القاتل على الفور، لكنه في هذا النوع من الجرائم لا يجد سبيلاً، أو رغبة في كشفها، فما إن تقع جريمة من هذا النوع حتى توجّه أصابع الاتهام في مختلف الاتجاهات، وهو ما يضلّل التحقيق أو تتهيَّب الدولة كشف ملابساتها خوفاً من تجدّد الصراعات. دولة مترهّلة المؤسّسات والعناصر كما يتبيّن من اللحظات الأولى لوقوع الجريمة حيث يستعجل الرقيب الذي أجرى المعاينات الأولى أنهاء مهمته بأسرع ما يكون، ناهيك عن التلاعب المصلحيّ والنفعيّ بمسرح الجريمة وأداواتها. بلدٌ تُطمس فيه الحقائق خوفاً من تفجّره في أي لحظة.

يتابع الدويهيّ هذين المسارين بأسلوبه المعهود، لغة سهلة ومبسَّطة، مقطوفة عن ألسنة الناس، تلامس الكلام العاديّ على طريقة الحكواتي البارع والمشوّق، من دون أن يُسِفّ أو يقع في المُبتذَل. الوصف عنده مُقتضَب بما يخدم مسار الأحداث، تلميحيّ ومبطّن في طيّات السرد. نرى عنده لفتات أو لمحات عابرة، نظنّ لوهلة أنها مجانيّة، مثل مشهد السواح اليابانيّين في بهو الفندق، أو الحجاج المسلمين المنتظرين في مطار بيروت، أو لوحة إعلانيّة في أماكن السفر الكثيرة، أو المسافر الفرنسيّ بجانب زكريا يقرأ في مجلّة “إيكيب” الرياضيّة، أو زمامير السيارات والشاحنات على الطريق السريع لزكريا وجاين متعانقان يتبادلان القبل. والحال أن الدويهيّ يصف بعين سينمائيّة، فلا بدّ لهذه التفاصيل أن تمرّ ولو سريعاً وراء الشخصيات أو في محيطهم في أماكن تحرّكهم، هي تفاصيل مكمّلة لخلفيّة المشهد، واقعية وجماليّة التشكيل في آنٍ معاً. وهذه الرشاقة في أسلوبه السرديّ العفويّ والمتقَن هي ما ميّز كتاباته كلها وجعلها موضع إعجاب القرّاء وقريبة من أذواقهم وأفهامهم. لكن يمكن أن يكون الإمعان في متابعة هذا الأسلوب قد أدّى إلى تراجع في مدى انضباطه وتماسكه في هذه الرواية الأخيرة، ومن هنا ضرورة أن يبدأ الدويهيّ التفكير في تطوير وتجديد أسلوبه هذا والذهاب به نحو جماليّات وتقنيّات أخرى قبل الوقوع في تكرار الذات.

الحقيقة أن ميل الكاتب إلى هذا التبسيط وهذه العفوية قد أوقعه في أغلاطٍ إن أمكن التغاضي عن بعضها فلا يمكن ذلك عن بعضها الآخر، وأعني من ناحية سوء إنزال بعض المصطلحات والكلمات الوضعيّة في مكانها المناسب. مثلاً نرى زكريا القتيل “جالساً ممدّداً” وهي وضعيّة غير معقولة. ومنها “مُفترياً على بعض الأشغال” والافتراء يكون بالكلام وليس بالعمل والأصح القول “متعدّياً” وهي مستعملة على ألسنة الناس. و"يحضّر انشقاقه" عن الحبيبة والأصح “انفصاله”. ومنها “تقود بطلاقة” والطلاقة للكلام وليس للفعل، وكان زكريا... “يُحصي” الخارجين (مفتِّشاً عن ابنته عند حدوث المجزرة) والأصح في السياق “يتفحَّص” أو “يستطلع وجوه الخارجين”، و"روى نسخة" مماثلة والأصحّ “صيغة”.

يضاف إلى ذلك استعمال بعض الكلمات مترجمة عن الفرنسيّة بشكلٍ مغلوط، فإن جاز القول إنّ البلدة “جالسة” (assise) على تلّة بدل “رابضة” أو قائمة" إلا أن بعض المفردات الأخرى المترجمة عفوياً في ذهن الكاتب أفقدت المعنى بعض وضوحه وأوقعه في الركاكة، ومنها، عن رسالة بالفرنسيّة “أنت شجاع” (tu es brave) والأصحّ “انت رجلّ طيّب”، و"إسهر عليه" (veiller sur) والأصح “إحرص عليه أو اعتنِ به أو انتبه عليه”، والمال “السائل” (argent liquide) والأفضل في السياق “المال النقديّ أو الجاهز”، إلى غيرها من هفوات نتبيّنها في الرواية.

ولا يمكن التغاضي عن بعض الأغلاط اللغوية من مثل “فغر فوه” والصحيح “فاه” و"تنهيه" والصحيح “تنهاه”، ومكتوفة “اليدين” وليس “الأيدي”، ورفيقات الدروس “يأتمنَّه” وليس “يأتمنونه”، وكان لمن يعرف عائلته وماضيها “مزيجاً متناقضاً” وليس “مزيج”. وليس مستبعداً وقوع الكاتب، كما غيره من الكتّاب، في هذه الأخطاء وهو الآتي من الثقافة الفرنسيّة ولغتها، لكن اللوم هنا يقع على دار النشر المفترض أنها القارئ الأوّل أساساً، والتي يُفترض بها أن تكون أكثر دقّة في أعمال تحرير النصّ وتدقيقه لغويّاً.

أيّاً يكن فإن رواية ملك الهند استحقّت الوصول إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر، وإن لم تفز بالمرتبة الأولى فهي ليست أفضل روايات الدويهي الذي كان يستحقّ بالأحرى الفوز بها عن إحدى روايتيه مطر حزيران أو شريد المنازل. لكن السؤال يبقى حول المعايير التي تعتمدها لجان التقييم المتعاقبة على إدارة الجائزة، فهل هي فعلاً تولي أهمّية إلى المعايير التقنيّة التي يعتمدها الكتّاب ويعملون بها من أجل الخروج بأعمال إبداعية، كما حاول الدويهي، من أجل تشجيع النهوض بالفنّ الروائيّ العربيّ انطلاقاً من جماليّاته التقنيّة؟

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



جريدة الأيام الفلسطينية


موقع جريدة الأيام الفلسطينية
الثلاثاء 28-01-2020
الأيام - أدب وفن
كتبت بديعة زيدان


""ملك الهند" لجبور الدويهي .. الطائفية والجشع كمحرك لاغتيال أو انتحار وطن !


الطائفية في لبنان ليست وليدة سبعينيات القرن الماضي أو ما سبقها من عقود قليلة، بل هي ضاربة الجذور في هذا البلد الذي خضع للحكم العثماني، ومن ثم الاحتلالات الأوروبية، وخاصة الفرنسي منها، وبعدها حروب صغيرة وأكبر حجماً هنا وهناك، ذات نزعة مغلفة على الدوام بهذه العنصرية ذات الطابع الخاص، في بلد منكوب بـ"الطائفية".

وهذا ما دفع، باعتقادي، الروائي المبدع جبور الدويهي، في روايته الأخيرة “ملك الهند”، وهو المهجوس بالتاريخ اللبناني بتنويعاته، إلى الحديث عن ذلك الصراع المسيحي الدرزي في لبنان، ويعود إلى ما يزيد على قرن من الزمان، واستمر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وربما لا تزال الجينات لأتباع هاتين الطائفتين تحفظ بشيء مما اعتملت به القلوب واسودت تبعاً له على مدار أزمنة تتعاقب.

وحكاية “ملك الهند”، التي تنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية بوصولها إلى القائمة الطويلة، تبدأ بقصة تحمل من البوليسية ما هو غير تقليدي، فهي على تماس مع ذلك الحس الروائي الذي ميّز روائيين عدّة ولا تنغمس فيه، وإن كان الحكاية الأم، مع أن للحكاية أمهات كثراً تتعلق بمقتل الشاب اللبناني المسيحي زكريا العائد من سفر طويل تفرع ما بين أميركا وأوروبا، قبل سنوات، على ما يبدو من السياق المحيط للحدث، حيث الهواتف النقالة، لتفتح السلطات اللبنانية تحقيقاً، ما إذا كانت الحادثة قتلاً أم انتحاراً.

تصادف في موقع الجريمة، تواجد لمجموعة من منظمي الجولات في الأماكن الطبيعية، وكان من بينهم طالب طب أكد موته .. في هذه الأثناء، يقوم أحد عناصر الشرطة بسرقة مسدس زكريا لكون ثمنه بالأساس أكبر بكثير من الراتب الشهري للشرطي السارق، ما يفقد التحقيق عنصراً أساسياً من سياقاته المتعددة، ويحيل إلى الأوضاع الاقنتصادية اللبنانية الصعبة وما قد يرافقها من أعمال لا قانونية لمن يفترض بهم أن يكونوا حماة القانون .. ومع ذلك تبقى الرصاصة هي الدليل المعول عليه لكشف تفاصيل الحادثة، التي على إثرها يطرد عناصر الشرطة فريق الجوّالة، وخاصة الطبيب، بل لا يذكرون أي شيء عن تواجدهم في المكان كشهود عيان، أو شهود مفترضين حتى.

ومن خلال حكاية زكريا، الذي تهجس شقيقته بأن أولاد عمومته هم من قاموا بقتله، بسبب “تل الصفرا”، تلك الأرض المختلف عليها تاريخياً ما بين أبناء العمومة، وما بينهم وبين الدروز، وهي التي ابتاعتها الجدة فيلومينا، بعد سنوات قضتها خارج البلاد بحثاً عن زوجها الذي “خرج ولم يعد” أو “هاجر ولم يعد” .. كان ذلك ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث تجولت بين عدة دول منها الولايات المتحدة التي عملت فيها بتجارة “الوهم الشرقي”، إن جاز التعبير، فكانت تبيع ما تصفه بالنفائس الشرقية الوهمية المادية والرمزية كتراب القدس المفترض، وغيرها مما تدعى بأنها قطع تراثية أو تاريخية ذات رمزيات روحانية بالأساس، وقادمة من تلك المنطقة المغلفة بالروحانيات أي منطقة الشرق الأوسط.
ت
عود الجدة بعد سنوات، وقد كوّنت ثروة كبيرة، ابتاعت بشيء منها قطعة أرض في لبنان بمئات الدونمات، ومنحت حفيدها يونس حصته من الميراث في حياتها، لكونه اشتهر بكونه مسرفاً وكان بحاجة دائمة إلى النقود التي غالباً ما يكون مصيرها الضياع، في حين أورثت الحفيد إبراهيم حصته بعد وفاتها، وهو ما دفع مرتا، شقيقة زكريا للحديث عن أن أبناء عمها يونس قد يكونون وراء اغتيال شقيقها.

ولم تكتف الجدة بشراء “تل الصفرا” بل أقامت قصراً عليها، ودفنت أسفله كنزها المكوّن من قطع نقدية معدنية إنكليزية، إلا أنه، ومع تعاقب الأجيال تتحول حقيقة الكنز إلى خرافة أو أسطورة، وإن بقي الصراع قائماً عليه بحالة مفترضة، في “تل صفرا” التي تعرف بأنها “منطقة الخرافات الكثيرة”.

وعبر حكاية زكريا ووالدها إبراهيم، وعمه يونس وأبنائه، والجد ابنها جبرائيل، تطرق الدويهي للحديث بعمق عن الخلافات ما بين الطائفتين الدرزية والمسيحية، وخاصة عبر والدة أم فلومينا، بهية المراد التي تحكي لابنتها حكايات النصارى والدروز وحروبهم على الأرض (كرم المحمودية)، وخاصة بعد قتل الدروز لشاب مسيحي من القرية، ثم قتل المسيحيين للشيخ أبو سعيد حمدان أحد وجهاء الدروز، لتدور العلاقة في فلك من الدماء.

وكان المبرر الدرامي للعودة إلى الوراء، محاولة الكشف عمّا إذا كان نفر من الطائفة الدرزية متورطين في قتل زكريا، الذي هجر لبنان، تاركاً وراءه والدته إيملي ومذكراتها التي سرقها، وهي المتعلمة المدينية، وعادت إلى البلدة رفقة زوجها لإحياء “كرم المحمودية”، الذي مع كل ضربة فأس لإبراهيم الأب لإنعاش أرضه من جديد، تنتعش خلافات قديمة ما بين الدروز والنصارى، فالحقل المهجور منذ ستين عاماً، وتموت المحصولات المزروعة فيه، وفق ما يشاع، هو في النهاية “أرض منحوسة”، وهو أيضاً “جزيرة محاطة بأراض يملكها الدروز”، الذين يعيقون بشتى الطرق أو يحاولون اعاقة وصوله إلى أرضه، التي اتهموا المسيحيين بالاستحواذ عليها بواسطة الدعم العسكري الأوروبي.

أما العمة راحيل المريضة نفسياً، وتعاني إشكاليات صحية منذ الولادة، وتركها زكريا وراءه أيضاً، فكانت تكرر على الدوام، وبوجود ضابط التحقيق في بيت العائلة كلمة واحدة فحسب “الدروز”، في إيحاء بأنهم من قتلوا ابن شقيقها، وهو ما يفضي إلى تحول في مسار التحقيق باتجاه البحث عن خلافات عائلة يونس مع الدروز، فيتم الكشف عن أن إبراهيم والد زكريا حين عاد إلى القرية لتعمير الحقل، يتصدى له درزي للحيلولة دون ذلك، فتخرج رصاصة من إبراهيم تستقر في قدم الدرزي، لكنها لم تقتله، وعندما توفي الدرزي بعد سبع سنوات اتهم إبراهيم بالمسؤولية عن ذلك.

وهنا يجدر الحديث عن الدور المحوري للنساء في الرواية، فهو لم يكن دوراً هامشياً بالمطلق، عبر الجدة ووالدتها، وعبر الأم والعمّة والشقيقة، وأيضاً عبر صديقات زكريا في المهجر، وتحديداً في باريس، وكذلك ابنته، التي بقي سرّها كما لوحة العشيقة دفيناً إلى أن دفن هو، فعند عودته من هجرته، كان يخفي علبة كتب عليها اسم “ماريا”، ليتم الكشف عن أنه رماد ابنته التي قتلت في حادثة إطلاق نار في مدرستها عن عمر ست سنوات، وأنه قرر إحراقها كي لا يتركها وراءه، فأحضرها رماداً في علبة، أما لوحة “عازف الكمان الأزرق” لمارك شاغال، والتي اختطفها من غرفة عشيقته الفرنسية صاحبة الفندق، حيث اعتاد أن يخطف شيئاً ما كتذكار من كل عشيقة يقضي معها بعض الوقت أو يزيد.

واللوحة بدورها تنقل مسرب التحقيقات إلى منحى جديد، فهو يحاول بيعها لصديقه “الأبرص”، وكانا يقيمان سوياً في باريس، شريطة أن يكون البيع في بيروت، وهنا تتجه الشكوك نحو “الأبرص” كقاتل، لكونه اكتشف علاقة ما بين زوجته وزكريا، ولأنه قد يكون طمع في اللوحة .. كان الاتفاق أن يوفر “الأبرص” مسدساً لزكريا، وهو ما كان، وأن يبتاع اللوحة، التي كشفت له لاحقا ان عشيقته مزيفة، وأنها مجرد فخ له لتعرف إن كان سيعود إليها أم لا، بمبلغ مليوني دولار، إلا أن الصفقة لم تتم، في حين حصل زكريا على “المسدس”، وفي هذا إيحاءات كثيرة لما يمكن وصفه بعقليات وتحالفات “المافيا”، إن جاز التعبير، وإسقاطها على الواقع السياسي اللبناني، الذي عالجه الدويهي في روايته على مدار زمن امتد منذ العام 1860 إلى ما بعد الألفية الثالثة، غير متجاهل للحرب الأهلية اللبنانية وانعكاساتها على حيوات الناس، وإن لم تأخذ مساحة شاسعة من “ملك الهند”، وإن لم يتطرق للصراعات المسيحية الدرزية الدامية في تلك الحقبة بشكل واضح.

الرواية التي أشار صاحبها إلى أن اسمها لا علاقة له بمضمونها، فهي عبارة ذكرت على لسان شخصية فيها، فلا “ملك في الرواية ولا هند”، وإنما هي جزء من “لعبة كاتب”، بقيت مفتوحة على كل التأويلات، ما بين مقتل زكريا وأصابع الاتهام المتعددة، وما بين انتحاره، هو الذي سيطر عليه الاكتئاب ما بعد مقتل ابنته، التي تولى تربيتها منذ عامها الأول، بعد أن هجرتهما والدتها الأجنبية، وكأني هنا به يتحدث عن لبنان الحديث بثوب قديم، وما إذا كان ما يحدث في وطنه اليوم، هو اغتيال مفتوح على التأويلات، وأن القاتل مجهول وإن كانت الشكوك تحوم حول كثيرين، أو أنه الانتحار، وهو الأخطر في هذه الحالة التأويلية، فالطائفية هي المحرك لاغتيال أو انتحار وطن ألبسه ثوب “زكريا”، أو العكس، في رواية أكرر بأن اللغة والتنقل المبدع سردياً، كان من بين أبطالها البارزين، وهذا ليس بغريب على روائي بحجم جبور الدويهي.

عن موقع جريدة الأيام الفلسطينية

شروط الاستخدام

يشير البند السادس من شروط الاستخدام بأنه لا يحق للمستخدم نسخ المادة الموجودة على الموقع أو إعادة إنتاجها أو نشرها أو إذاعتها أو استغلالها بأي طريقة مهما كانت من دون ذكر الموقع والاشارة الى الموقع كمصدر لهذه المواد بوضوح، وفي حال تم التعديل بالحذف والإضافة والتحليل يجب الإشارة إلى موقع “الأيام” كمرجع للمادة التحليلية، ويستثنى من ذلك أغراض الاستعمال الشخصي غير التجاري. لقراءة المزيد عن شروط الاستخدام.

جريدة الأيام يومية سياسية تصدر عن شركة مؤسسة الأيام للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع.


الرواية على موقع دار الساقي

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)