مقاهي مدينة طرابلس اللبنانية

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 10-04-2018
المدن - ثقافة
جودي الأسمر


مقاهي طرابلس: السبقجية، الشيوعي العتيق.. وخيال الظل



تجمع المقاهي الطرابلسية تحت قبابها القديمة كما سقوفها الحديثة كل الأجيال والأجناس، وأيضاً الشرائح الاجتماعية. الاحتواء وتعددية الخيارات لم يكونا متاحَين عند بدء نشوء مقاهي طرابلس الّتي تُشكّل “حيزاً مكانياً إجتماعياً” للمدينة حسب تعريف الانتروبولوجي الفرنسي ميشال سرتو الّذي يعتبر المقهى “مكاناً اجتماعياً له خصوصية تميزه في علاقاته وفي تفاعلاته وفي ملكيته واستعمالاته”.

وإذا كانت تسمية “المقهى” أو “القهوة” بالتعبير المحكي مع تلطيف القاف “أهوة” قد استوحيت من عنصر الضيافة الأهم في طرابلس، فإن خصوصية مقاهي طرابلس عرفت تحولاً مستمراً لقرون طويلة. انطلق هذا التحول منذ اتخاذ بياع القهوة الجوال “القهوجي” ركناً في الحيّ الشعبي يفرشه بكراسٍ خشبية ليستقبل زبائنه من المارة، ولن ينتهي عند مفهوم المقهى العصري المتعارف عليه. ولم تستثنِ هذه العصرنة مقاهي طرابلس التراثية المنتشرة في باب الرمل ووسط المدينة.

تُكسب القصص الطريفة مقاهي طرابلس التراثية جانباً ممتعاً يشبه الى حد بعيد ما تؤرخ له المسلسلات الشامية ومؤلفات محلية، منها كتاب “طرابلس ذاكرة المكان والزمان” حيث يخصص صفوح منجد حيزاً للحديث عن المقهى القديم: من عادات المحاسبة مثلاً أن يضع القهوجي بواسطة طبشورة شحطة في مكان محدد عند مدخل القهوة، ويجمعها ليحاسب على أساسها. وكان بعض الصبية يعمدون أحياناً الى محو بعض هذه الاشارات فيشبّ نزاعاً بينهم وبين صاحب الدكان الى أن يتدخل أحد الوسطاء ليتصالحوا بالمونة والتراضي. وخلافٌ آخر قد يدب على خلفية “شائنة” يقوم بها أحد الرواد الذي يشعل سيجارته بالنار الذي يوقد نفس الارجيلة.

كان “مقهى موسى” في منطقة باب الرمل يحيي ليالي فنية اشتهرت بقصص “خيال الظل” جسّدها آنذاك الفنان الراحل محمود الكراكيزي الذي عرف في مدينته بـ"كريكوز وعيواظ". ويوثق المنجد في كتابه أن الكراكيزي كان “نابغة في إلقاء الشعر بمختلف أنواعه، حاضر النكتة، ويقوم بتحريك الدمى خلف شاشة يسلط عليها الضوء من الخلف بشكل يبعث البهجة والفرح”. كما كان المقهى مسرحاً لشخصيات “الحكواتي” الّذي يقصّ على المستمعين قصص عنترة وأبي زيد الهلالي وغيرهما من أبطال التراث القصصي.

ويتوسّع الدور التثقيفي- الترفيهي للمقهى، كما في مقهى “العقادين” الذي عرض أول فيلم سينمائي صامت كان يحكي عن التطورات العلمية، فشكلت هذه المناسبة للطرابلسيين حدثاً عظيماً عرّفهم على “أعجوبة” الشاشة الكبيرة من خلال “آلة عرض سينمائية تم استقدامها وكانت تعمل بواسطة الفحم الحجري كوقود لتوليد الطاقة” يقول المؤلف المنجد في كتابه.



وظيفة إقتصادية

كان ملاّكو الحمضيات يلتقون في مقهى “العويني”، الذي شهد على تأسيس نقابتهم، بمعزل عن الطبقة الثانية الناشطة في هذا المجال أي العاملين في القطاف الذين كانوا يرتادون مقهى آخر. فيما استضافت مقاهي سوق البازركان المتخصص في القماش “العقادين” أي صانعي الخيطان والنسيج. وهناك مقهى “العتالين” أي الحمالين، ومقهى يستضيف الصيادين على احدى ضفاف نهر “أبو علي” الذي واجهه أيضاً مقهى “البحصة” ذو الطابع العائلي، قبل أن تزول معالمه بفعل طوفان النهر عام 1955. واتخذت جمعية المزارعين ولجنة المستأجرين مقهى “التل العليا” مقراً لجمعيتها العامة، وكان أحد الرحالة الفرنسيين قد نقل انطباعه عن مقهى التل قبل العام 1884: “... إنه في كل مساء وعندما تغلق المتاجر أبوابها فإن علية القوم بكامل أناقتهم وهندامهم: العمائم البيضاء والقنباز الطويل الملون بألوان صارخة وفاقعة ونعالهم الحمراء أو الصفراء يتنزهون على”التل" المرتفع بضعة أقدام عن سور المدينة... وهم يجلسون على الارائك في ظل الاشجار ويدخنون ويحتسون القهوة ويتبادلون نادر الكلام..."أما “السبقجية”، فتوزعوا على سلسلة مقاهٍ في شوارع طرابلس الخلفية. و"السبقجية" هم المراهنون على سباق الخيل الذي نشأ في بيروت، ضمن لعبة “البارولي” التي شرعنت الرهان. فكانوا يرتادون المقاهي أيام السبت والأحد، ليدفعوا قيمة الرهانات أو يجددوا المراهنة، أو ليتابعوا تطورات السبق في صحف مختصّة.

السياسة

يفتتح جبور الدويهي روايته “شريد المنازل” بمشهد في الحرب الأهلية اللبنانية كان يدور في مقهى “البرازيلي” في ساحة التل. سبقه في إدراج هذه المشهدية الباحث خالد زيادة في كتاب السيرة الذاتية “يوم الجمعة يوم الأحد” بالحديث عن تسلل عناصر المخابرات الى اجتماعات مقهى “التل العليا” أيام ازدهار حركة القوميين العرب التي اتخذت من طرابلس ملعباً لها. هذه التفاصيل الأدبية التي أنتجها كتاب المدينة وجيرانها تضرب دون شك جذورها في ذاكرة سياسية توثقها مقاهي طرابلس.

وبينما تشكّل مواقع التواصل الاجتماعي خلف الشاشات الرقمية منبراً ليتشارك أو يتراشق الطرابلسيون آراءهم السياسية، كان روّاد المقاهي يتداولونها خلف طاولاتهم، كلّ حسب ميوله وانتماءاته الحزبية. في حالات كثيرة كانت تقع خلافات تقسم روّاد المقاهي التي صارت تدل على الولاء السياسي لمرتاديها: فمقهى “الأندلس” على البولفار كان يحتضن مثقفي المدينة وسياسييها، خصوصاً اليساريين. شهد احتدامات لفظية جيشت الحاضرين بين مؤيدي الحزب الشيوعي وحزب البعث، فآثر الشيوعيون الاستقرار في مقهى “البينكي” لينعموا في نقاشات سياسية لا ينغّصها المعارضون.

وتطلق الروايات على أحد المقاهي اسم “خبيني” باعتقاد الكثيرين أنه كان ملجأً لأحد الفارين من الشرطة فطلب من الجالسين الذين اكتظ بهم المكان أن يفسحوا له المجال للحماية والتواري عن الأنظار.

وعن نشاط السياسة أيام الانتداب الفرنسي داخل مقاهي طرابلس، يكتب صفوح منجد “قد يستحوذ السياسي على المقهى فيصبح مكاناً مفضلاً للقاءاته، فيسودّ سجلّ المقهى إذا كان السياسي معارضاً، وعندها قد يصبح المقهى عرضة لهجوم مباشر من السلطة وعناصر شرطتها وأجهزته المخابراتية، في إشارة الى ما نشرته جريدة”الرائد" في العام 1936 “... وعاد رجال الشرطة فهاجموا قهوة فهيم آغا التي احتمى بها بعض الناس خوفاً من التعرض لرجال الشرطة أو رصاصهم ففرقوا المجتمعين بالقوة وبعثروا الكراسي والطاولات وتحطم الكثير منها”.



حمراء طرابلس

بعد الاستقلال، شُقت في طرابلس طرقات جديدة وشقت معها المقاهي مراكز جغرافية توسعت في شارع عزمي الذي لقب بـ “حمراء طرابلس”، بالاضافة الى البولفار الذي يمتد بين اشارة عزمي وساحة النور، حيث اصطفت على رصيفيه مقاهٍ عديدة: الأندلس، الكبوتشينو، البينكي، النغرسكو، السيغال، وفي عزمي مقاهي: التوب، والبريك، والكوندور، والجيتان، والبرغولا.

في القالب لامست الحداثة أسماء هذه المقاهي التي تأثرت بالثقافة الفرنسية، حتى إنّ مقهى السيغال قد تعرض لاحقاً الى اقتحام حطّمه خلال نكسة 1967 بسبب تسميته الأجنبية. الحداثة طاولت أيضاً خدمات المقاهي التي امتنعت في غالبيتها عن النراجيل لصالح حلويات غربية “باتيسري” يستهلكها بمعظمها المراهقون والشباب من الجنسين، الذي بدؤوا يتواعدون في تلك الزوايا الرومانسية محتجبين عن أعين الأهالي والغرباء، على أنغام مقطوعات غربية تصدح من الصندوق الشهير.

وتؤكد الدكتورة مهى كيّال أن هذا الاختلاط في المقاهي الطرابلسية مؤشر جوهري لالتحاقها بركب الحداثة، محدّدة في دراستها “تحوّلات المدينة: جغرافية التقسيم الجنسي في طرابلس” تاريخ بدء الاختلاط بين الجنسين الذي انحسر في الحرب ليعود الى طبيعته اليوم “عرفت طرابلس في الستينيات من القرن العشرين بعض نماذج المقاهي المختلطة لكنها، وخلال الأحداث اللبنانية التي بدأت عام 1975 عادت فتحولت تدريجياً لمقاهٍ لا تقصد إلا من الرجال. عادت المقاهي المختلطة للظهور منذ سنتين لكنها ما زالت في غالبها مقتصر تواجدها في مناطق”الذوات" كما في الميناء." في إشارة الى شارع الميناء أو “الكزدورة” كما يسميه رواده المراهقين والشباب الذي استضافتهم في العام 2000 مقاهي الشارع بأسلوبها الغربي ونرابيش المعسل التي غزت أفواه اليافعين قبل الكبار. لكنها رؤيا سجلتها المؤلفة عام 2002، استتبعت بتنامٍ مذهل لنشوء المقاهي في منطقة “الضم والفرز” الميسورة، بعد سنوات قليلة من نشاط مقاهي “الكزدورة” سالبة مقاهي الشارع كثيراً من الوهج. صار هذا الشارع الطويل مقصداً لمن يريد أن يستثمر في المطاعم، وهو مجال استثماري يُكسب الملايين إذا نجح في إحداث علامة فارقة تؤهله لمنافسة المطاعم السابقة، “مطاعم” أو resto-café تتفنن في المطابخ الشرقية والغربية. وبهذه الاضافة تنسف المقاهي في طرابلس لائحتها القديمة المقتصرة على بضعة أصناف من المشروبات.

بستان في مدينة

إن الصور والمشاهد المتعاقبة على مقهى “التل العليا” تتطلب رصداً تاريخياً متأنياً ليفيها الحق والمصداقية. إلا أنّ الثابت غير المتحرك في هذا المقهى يبقى الشجر العتيق والكثيف والمتشابك الّذي يعود بعضه الى قرون ولّت، ممّا يجعل مستعصياً أن يفقد هذا المكان وجهه الأصلي الّذي تحميه أشجار عميقة الجذور، تشهد على التاريخ وتؤمّن سقفاً طبيعياً للرواد.

بين أشجار الجوز والجميز والدوالي، تحت أفياء الكرمة وفي ظلال الزيتون والسرو والكازورينا، وبمباركة الشربين المعمرة منذ عام 1870، يأتي الرواد الى هذا المقهى من “تل الرمل” الذي عبّد بدرج يقود الى احدى المداخل الأربع لـ"التل العليا" الممتدة على حيّز 4550 متراً. مساحة خضراء واسعة تشرف على قلب طرابلس: مبنى البلدية والمنشية وأوّل مشارف شارع “عزمي”. هدوء داخل الضجيج، تقتطعه زقزقة العصافير وصوت ملاقط الألمنيوم الذي يطلقه أولاد يحملون “شعالات” الفحم، متنقلين بين الطاولات التي يشغلها عادة هواة الورق والنرد من الرجال العجائز.

يقول صاحب المقهى الحاج محمود عابدين أنّ هذا القسم استحدث في أوائل السبعينيات من القرن الماضي الذي شهد ما يسميه بموجة “التحرر الوافد من الغرب”. المقهى الذي ورث خدمته عن أبيه كان ملتقى لحلّ المشاكل الاجتماعية، ومساحة للحلقات الدينية. الى جانب المشروبات تستمر “التل العليا” في تقديم المشاوي على أنواعها، فقد كان هذا المقهى-البستان متنفساً لعائلات طرابلس تقيم فيه ما كان يعرف بـ “سيران رمضان”. في مشاهداته الأخيرة لـ"التل العليا" يتحسّر الحاج عابدين على انحسار الكلام والتواصل بين زبائنه “يأتي أحياناً شاب وشابة للتلاقي هنا على إحدى الطاولات. أجدهما صامتين، كلّ على هاتفه المحمول، يخاطب عالمه الخاص”.



الشيوعية في “البينكي”

قبل الحرب الأهلية بثلاث سنوات دخل الشيوعي “العتيق” غابي سرور قهوة البينكي، يقول “أنا هنا منذ عام 1972”. بقي هنا، مرابضاً في القهوة، في انسجام تام بينه وبين المكان فكلاهما يشكلان آخر متروكات الشيوعية في المدينة. يغادر غابي طاولته من الطابق الثاني للمقهى حيث كان يتناول الكحول مع أصدقائه. ينزل الى الطابق السفلي ليعطي شهادة، بمثابة مسامير يدقّها المتحدث في مؤرخات الشيوعية الطرابلسية التي نشطت حركتها في هذا المقهى لمؤسسه الراحل “خليل خزامي”.

“سهرات، حفلات موسيقية، كيف وبسط” يستتبعها غابي بعد صمت قصير بعبارة “... وإجت الحرب”. ينقّل لسانه بين لفظتين “انضربت” و"انقرضت" الشيوعية مشيراً الى مفاعيل حرب التوحيد الاسلامي في طرابلس. ويستطرد في تشخيص “هزائم” الشيوعيين في منطقته قائلاً: بقي خمسة شيوعيين في طرابلس، اثنان في الميناء وثلاثة في أميون.

كأن الحديث عن تاريخ “البينكي” يشعل قدح الزناد في ذاكرة غابي سرور الذي يسترجع حادثة عام 1982 حين رمت حركة “التوحيد الاسلامي” قنبلتين على المقهى العاجّ برواده “لمّا لمع في عيني بريق القنبلة الأولى صرخت بالجميع أن ينزلوا تحت الطاولات. الزجاج كله انهمر فوقنا”.

لا ديكور يميزه ولا طبيعة تخلّده. كينونة “البينكي” اليوم تحفظها ذاكرة الرواد. يستمدّ هذا المقهى استمراريته من أمجاد شيوعيّة يجترّها مؤيدوها القلّة المستمرين في ارتياد ركنهم الخاص الى جانب ندمائهم من الصحافيين والنقابيين.

"مقهى فهيم"

بعد أربع سنوات من المفاوضات، نجح خضر شعراني في إقناع ملّاكة مقهى “فهيم” في استثمار المقهى. الموافقة جاءت حين أيقن أصحاب المقهى “آل عز الدين” أنّ هذا المشروع لن يُفقد المقهى طابعه التراثي. الضوء الأخضر “خلق ستة ورش في المقهى كنت أتولى التنسيق فيما بينها”، يقول شعراني الذي افتتح قهوته في رمضان الماضي معلناً استقطابه للسيدات بعدما مكث فيه لعقود طويلة الرجال الطاعنون في السن، المتقاعدون والعاطلون عن العمل، يدخنون النرجيلة ويسلون أنفسهم بألعاب الورق والطاولة. اعتمد المستثمر على ما يسميه بـ"فطرته" و"ذوقه" الخاص. فالأثاث الرث وكل البنى التحتية قد أكل الدهر عليها وشرب منذ عهد العثمانيين الذين بنوا “البنك العثماني” في وسط المدينة ليتحول عام 1906 الى مقهى “فهيم آغا”.

ما يعترف رجل الاعمال الطرابلسي به “استثماراً مربحاً جداً” ما كان ليلقى النجاح لولا “القيمة المضافة” التي سعى الى ادراجها في المقهى لتواكب احتياجات الشباب “يقضي القسط الأكبر من راحتهم في المقهى. كل الاجتماعيات في طرابلس تحدث في المقهى، أعياد الميلاد والدردشات والمواعدات. حتى رجال الأعمال صاروا يتداعون الى المقهى لترتيب شؤونهم” يقول المستثمر الذي كشف أنه رفض الاستثمار في مجال المقاهي الحديث في “الضم والفرز” لأنه يريد صناعة “صرح طرابلسي” أصيل.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)