قراءات

مطبخ الحب، عبد العزيز الراشدي (المغرب) ، رواية Matbakh Al Hûbb, Abdelaziz Rachidi (Maroc), Roman

, بقلم محمد بكري


 "مطبخ الحب" لعبد العزيز الراشدي : عن الذات المعطوبة وأقنعتها السردية


23-01-2013
جريدة القدس العربي
عبد المنعم الشنتوف


جريدة القدس العربي


لا يمكن الاقتراب من المنجز المغربي في خصوص السرد الروائي والقصصي بمعزل عن إبلاء أهمية خاصة لإسهام الكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي. وحقيق بالتنويه التشديد على القيمة الخاصة لتحققات هذه التجربة والتي تتمثل في الاحتفاء الذي أولته للمغرب بما هو جغرافيا وتاريخ وهوامش نائية. يمكننا أن تفترض في هذا السياق ارتباط التحققات النصية لهذه التجربة في القصة والرواية ومحكيات السفر بهاجس رد الاعتبار لمتخيل الجنوب بشكل عام والصحراء بشكل خاص علاوة على تخصيب تجربة الكتابة بمغامرة السفر بما هو كشف وانفتاح على الآخر. ويكفي للتدليل على هذا الافتراض الإشارة إلى روايته ’بدو على الحافة’ ومجاميعه القصصية ’زقاق الموتى’، ’غرباء على طاولتي’ و ’طفولة ضفدع’ و’وجع الرمال’ التي استلهمت بطريقة أو بأخرى متخيل الجنوب و فضاء الصحراء بمختلف إيحاءاته المعرفية والجمالية. وقد أثرى الكاتب أدب الرحلة بكتابه الموسوم ’يوميات سندباد الصحراء’ الذي يحوي المحكيات التي تخلقت غب رحلاته إلى عواصم عربية وعالمية مختلفة.

يهمني في هذا المعرض أن أقترب نقديا من روايته الأخيرة ’مطبخ الحب’ الصادرة في بحر السنة الفارطة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت والتي اجترح فيها مسارا سرديا مغايرا لما اعتمده في تحققاته السابقة؛ إذ لا يفوت الذات القارئة الإحاطة علما بحرص السارد على الإنصات إلى التحولات السوسيو اقتصادية والثقافية التي عرفتها الذات المغربية في العقود الأخيرة من خلال التشديد على شريحة الشباب. وسوف نعثر في غمرة سيرورة الفعل السردي على جماع الأعطاب التي حفت بكينونة هاته الذات والتي حملتها بعنف الإكراه المادي والرمزي على الركون إلى الهامش.

تتأطر أحداث الرواية في مدينتي الرباط والدار البيضاء، لكنها تتموقع عبر وسيط الاستعادة التخيييلية في أمكنة أخرى مثل سلا وطنجة ومناطق نائية من المغرب السحيق. وسوف أسمح لنفسي بافتراض تعالق هذا الاختيار بالمقصدية التي توجه فعل السرد والتي تتحدد في خلخلة ثنائية المركز والمحيط وتبعاتها الثقيلة. تستعيد الذات الساردة حكاية الحب التي جمعتها بسهام والتي انتهت بالإخفاق بسبب وطأة العطالة والاضطرار إلى خوض مغامرة الهجرة غير الشرعية إلى أوربا بحثا عن الخلاص الوهمي علاوة على سطوة الموروث الرمزي الشعبي. وفي غمرة اطراد السرد تكتشف الذوات المتلقية حالات من البوح الشفيف ومظاهر الشعور بالخيبة ومرارة الفقد والانتهاء وتعاظم الشعور بتفاهة الوجود واستشراء داء الزبونية والعلاقات المشبوهة وانهيار فادح في رؤية الذوات إلى القيم وتداولها في المجتمع وبنياته وفضاءاته المادية والرمزية. تشكل الاستعادة السردية الحميمة التي خوضها الذات لحكاية حبها مع سهام محاكمة للتشوه الذي طال حضور الذات الإنسانية في مجتمع شوهته الأزمة وسطوة المال المشبوه والتشعبات السرطانية لسلطة مستبدة لا تؤمن بغير منطق الإكراه بالعنف المادي وتجذير سطوة التناحر بين المركز الذي يهيمن على كل شيء والهوامش المنذورة للتلف والضياع والاستقالة القسرية من دائرة الفعل الإيجابي. ينبغي لنا أن ننوه بركون الذات الكاتبة إلى استعمال ضمير المتكلم والذي يكشف رغبة في تكثيف الفعل السردي وإسباغ الحميمية على اشتغاله. يقول السارد:

’.. أرصد وأحلل تأثير الجسد في حياة الناس وأحاول إعطاء معنى لكل حكاية وتفسيرها. اتجهت كذلك إلى قراءة ومراجعة الدراسات التي تتأمل كيف يمارس المغاربة اللذة، وكيف تؤثر العلاقات الجنسية على تطور المجتمع، وهل يمارس المغاربة اللذة أكثر من الشعوب الأخرى...’ الرواية، ص، 65-66

تؤشر الأغلال التي تقيد الجسد وتحظر الرغبة وتعبيراتها على اختلال يسم الذات في علاقتها بالمكان والوجوه التي تعمره. وتشكل الاستعادة السردية لتفاصيل العلاقة الشهوية التي وصلت بين السارد و سهام في إحدى فترات حياته قرينة دالة على الموت والتشوه اللذان يحيطان بكينونته. يكف الإيروس بما هو تعبير عن غريزة الحياة عن كونه مؤججا للذة ومحرضا على اهتبالها ليشكل والحالة هاته تعبيرا عن الفقد والضياع وسطوة واستبداد السلطة بمختلف تمثيلاتها. وسوف تستشف مع تنامي السرد أن التقابل الذكي بين انحسار الفضاءات المفتوحة لصالح شراسة الاسمنت وما يوحي به من انغلاق وتحنيط للوجود يؤشر بدوره على اضطرار الحب بما هو تعبير عن الحياة إلى اللياذ بالهامش والاكتفاء بكونه رديفا للحرام.

تحتفي الرواية بمعضلة اجتماعية ينوء تحت وطأتها السارد وتكرهه على الركون إلى هامش الوجود الإيجابي في الفضاء. يتعلق الأمر بأزمة العطالة عن العمل والتي عصفت بجيل بكامله من الشباب المغربي وأسفرت عن ظاهرة الهجرة السرية إلى أوربا. ولئن كان التراكم السردي المغربي قد احتفى ولو بطريقة خجولة بهذه المعضلة ونشير تحديدا إلى بنسالم حميش في ’سماسرة السراب’، فإن ما يسم الاقتراب السردي منها في نص ’مطبخ الحب’ يتمثل في سعيها إلى القبض على الجذور العميقة لهذه المعضلة وتبعاتها الكارثية على حاضر المجتمع ومستقبله من خلال التركيز على شريحة الشباب. وتتمثل فرادة هذا الاقتراب حسب تصوري في احتفائها السردي بفعل ’الاحتجاج’الذي تقدم عليه الذوات المعطلة ضد هذا الوباء الذي يعزلها عن دائرة الفعل الإيجابي ويرغمها على الإقامة في مناطق الظل والعتمة. تلفى الذات القارئة نفسها مشدودة إلى العنف المادي الذي تفصح عنه السلطة كي تقمع هذا الاحتجاج والذي يوازي العنف الرمزي الاجتماعي الموروث من الماضي:

’.. ورجال الأمن يقفون صفا طويلا أمام البناية لمنعنا من أي تقدم، وحين تجيئهم أوامر الضرب يتجهون صوب الجمع بسرعة وينهالون دون رحمة على الأجساد... نسيت النعيم الذي كنت أعيش فيه خلال سنوات الدراسة، حين كنت مختبئا في شرنقة بدعوى التعلم، وعرفت وضعي جيدا؛ كنت عالقا في ممرات الحياة’ الرواية، ص، 37

يهمني أن أشدد على القيمة المعرفية الدالة لهذا الاهتمام السردي بفضاء الجامعة المغربية ليس بوصفه قرينة على العلم والكشف والحرية وإنما باعتباره منتجا لجحافل العاطلين المنذورين بقوة الإكراه إلى مكابدة الحرمان والعجز والتشوه. ولن يعجزنا ان نحيط علما والحالة هاته بالتردي الذي طال هذا الفضاء المنتج للقيم والمعرفة بفعل نزوع السلطة المستبدة نحو الالتفاف على استقلاليته وتضييق الخناق على اشتغال قيمة ’الحرية’ داخله:

’... محترفو النضال، الذين عمروا في الجامعة لسنوات، تحسروا على الزمن الماضي أمامنا وتوعدونا بضيق الأفق، إن لم نناضل. كان العالم متخما بالخيبات واللاجدوى في أعينهم. أما نحن، ففتحنا أعيننا على بداية الألفية ولم ننتبه لما يجري؛ كان المعسكر الشرقي قد سقط قبل سنوات وجاء من يبشر بموت السياسة والإيديولوجيا ثم جاءت حرب العراق واتفاقية أوسلو التي وقعها الفـــلســـطينيون بعد أن تعبوا من النضال. أما في البلد، فقد دخل المعارضون القدامى في اتفاق مع الدولة وشاركوا في الحكم...’ الرواية. ص، 73.

تؤرخ الرواية على طريقتها لمرحلة رئيسة في تاريخ المغرب المعاصر استشرى فيها الفساد داخل أوصال المجتمع المغربي وأنذر بتحولات مأساوية على راهن ومستقبل الذوات. وقد أفلحت الرواية في التأريخ لانتظارات وأسئلة ومخاوف الشباب المثقف الذي كان الضحية الرئيسة لهذا الاندحار والذي أقصي بطريقة مقصودة وعبر وساطة العنف المادي والرمزي من إسماع صوته ورفضه للسياسة المتبعة والتي عمقت من فداحة الهوة الفاصلة بين طبقة الأغنياء بالصدفة وقطاعات عريضة منذورة للفقر المدقع وأقنعته أوالهجرة غير الشرعية. ولأن سرطان الفساد يمحق أي طموح إلى التقدم والعقلنة، فإن الخرافة سرعان ما تقوى وتشتد وتبسط سيطرتها على جل الأصعدة. وقد عبرت الرواية عن ذلك بموازاتها بين اندحار مستوى البحث العلمي في الجامعة وعودة تيارات الإسلام السياسي.

في غمرة هذا السرد الشفيف الذي يتوسل لغة تنأى من حيث الاشتغال عن الغنائية والاكتفاء بمجرد العرض المحايد والبارد للحالات والمواقف، تنفتح الرواية على تعدد درامي يتعالى عن الأحادية وتعبيراتها يتعلق الأمر بسرد دينامي يعتمد ضمير المتكلم كما سبقت الإشارة إلى ذلك ويتسمت النقد والفضح وخلخلة الجاهز والمألوف. وسوف نعثر في الفصل الذي خصصه لسرد مغامرة الهجرة غير الشرعية إلى إسبانيا على التمثيل الجلي لهذه الدينامية التي تحث القارئ على المشاركة الفاعلة في سيرورة التأويل والخلوص إلى المقصديات المتعددة التي تؤسس لها الرواية.

ثمة في السياق ذاته تلكم الرغبة في إسباغ الطابع المغربي على فعل السرد؛ وهو ما يشي بذلك الوعي المتزايد بضرورة الالتزام بمسافة جمالية ومعرفية عن النموذج المشرقي في الكتابة الروائية. سوف نستشف تمثيلات هذا الوعي بالإضافة إلى نوعية الحدث والتوظيف العميق للفضاء بما هو جغرافيا وتواريخ ومتخيل ونظام رموز في الاستخدام الواعي للدارجة المغربية في نسج الحوارات وتوظيف الغناء الشعبي. ربما في هذا المعرض نستشف هذا الاهتمام بأغنية المطرب الشعبي الستاتي الموسومة ’الفيزا والباسبور’ بما هي أيقونة دالة على محنة جيل بكامله اضطرته السياسات الجائرة لسلطة غير وطنية إلى الاحتماء بالرحيل إلى أوربا واعتباره الحل الأول والأخير لكينونة مدموغة بالأعطاب القاتلة وعاجزة عن الفعل الإيجابي في الحاضر واستشراف المستقبل:

’... ثم إني بعد أن أغرمت بموسيقى ’الستاتي’، وبأغنية ’الفيزا والباسبور’ التي كادت تشكل شعارا لجيل كامل، أصبحت أحمل مسجلة صغيرة وأتوجه نحو البحر لأسمعها وأحاول من وحيها أن أكتب عن البلد وعلاقات الناس’. الرواية، ص97.

يعود السارد خائب الوفاض من تجربة الهجرة ليستقر ردحا من الزمن بين الرباط وسلا ثم ما يلبث أن ينتقل إلى الدار البيضاء ليشتغل في الصحافة. وسوف يشكل هذا الانتقال السردي إن صح هذا التعبير فاتحة رحلة في العوالم السفلى للمغرب تكشف عن المسكوت عنه بتأثير وطأة الحظر الديني والاجتماعي وتحاكم بطريقة تتوخى التحليل النقدي مظاهر التشوه والاختلال. سوف نكتشف باعتبارنا ذواتا متلقية تكثيف مقصودا للوحات سردية تصور عزلة الجسد بما هو صبوات ونوازع طبيعية داخل مجتمع لا يعترف بغير منطق الحلال والحرام وشرعية الصدفة والمال القذر والعلاقات الملتبسة والمشبوهة. سوف نلمس في غمرة هذه الرحلة الاستكشافية هذا البحث اللحوح عن الهوية المغربية التي تتقلص وتتوارى تحت تأثير المشرق العربي والغرب ونماذجهما المتعالية والجاهزة, يتعلق الأمر بسفر مقصود صوب هذا ’الآخر’ المغربي المنكوب أو غير النافع من منظور المركز.

تشكل رواية ’مطبخ الحب’ محاكمة إبداعية لزحف الموت على الحياة والانسحاب المأساوي للجسد بما هو حضور إيجابي في المكان والزمان وتحوله من ثم إلى جثة منذورة للعفن علاوة على العودة القوية للتبرير الخرافي للأزمة ضدا على التفسير العقلاني. تهجر سهام شقة السارد عبد الحق ثم ما تلبث أن تزوره صحبة عرافة ’شوافة بالتعبير المغربي’ تخبره بالسبب والذي يتمثل في عثورها داخل مطبخ الشقة على جثة وبأنه يعاني من ’التابعة’. وسرعان ما يكتشف السارد بنفسه أنه لن يتأخر في التحول حثيثا إلى جثة بتأثير عطالته المزمنة وإدمانه الجلوس على كرسي المطبخ والتأمل غير المجدى في الأشياء والظواهر:

’... فكرت أنها قد تكون على حق في ما تقول. ربما كانت الجثة فعلا موجودة، وربما كانت جثة الصراحة والصدق المفقودين في حياتنا المشتركة، وربما كانت جثتي بمعنى آخر مختلف. هل يكون الرجل المعطل غير جثة عطنة لا يرغب فيها أحد؟’ الرواية. ص،189.

نفترض في ختام هذا الاقتراب النقدي من رواية ’مطبخ الحب’ لعبد العزيز الراشدي قطيعتها المقصودة مع جزء كبير من التراكم الروائي ’المغربي’ لم يتمكن من أن يتخلص من ارتباطه المرضي بالذات بما هي كتلة من النوازع النرجسية والاعترافات التي تغلب عليها الطهرانية والتعاطي السطحي مع الفضاء. يتعلق الأمر برواية تتوسل بلغة أنيقة وموحية وسرد يتشعب وينمو في تناسق مع المقصديات التي تدافع عنها. ولعل ما يميز هذا النص قدرته على أن يطرح الأسئلة الأساسية والمحرجة وأن يحفر في الطبقات العميقة للمجتمع المغربي أو ما يمكن وصفه بمناطق الظل والعتمة. وإجمالا، فإن الرواية تحتفظ بأواصر قربى بالذات، لكنها تنأى بها عن التوحد بالسرة وتكسبها رحابة ضرورية من خلال وصلها بأسئلة وتحولات وأعطاب المجتمع.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf



 مطبخ الحب... مطبخ الاحتراق


13-12-2012
جريدة القدس العربي
محمد العنّاز، ناقد مغربي


جريدة القدس العربي


لم يوقف الروائي المغربي عبد العزيز الراشدي منظاره السردي عند حدود الصحراء كما في روايته’ بدو على الحافة’، بل فتحه نحو آفاق شاسعة هي أفاق المدينة بكل ما تحمله من صراعات وأزمات، حيث يعود في روايته الجديدة ’مطبخ الحب’ الصادرة عن دار ثقافة ببيروت ودار الأمان بالرباط، إلى المدينة ليكيف أسئلته القديمة وفق مناخ مغاير ورؤية مختلفة مما يعني أن المبدع طور تجربته في السرد وفي الحياة.

رواية عبد العزيز الراشدي هي رواية المدينة المغربية، والتحولات التي لحقتها جراء انبلاج أسئلة جديدة جاءت مع ما يسمى بمغرب التحولات، وهو المغرب الذي منح الفرصة لعبد الحق بطل الرواية ليطالب بالعمل باعتباره حاصلا على شهادة عليا، وهذا المطلب نفسه دفعه لكي يختبر أسرار الحياة، وأن يستنطق الظروف الاجتماعية القاهرة التي جعلته ضيفا عليها، حيث يمكن القول إن السارد عاش متاهات متعددة في كل مدينة يلتقيها في طريقه، وفي هذه المدن بنى معان جزئية سرعان ما تعاضدت فيما بينها لتترابط مع مدلولات أخرى ليتشكل لنا معمار الرواية، فمدينة سلا شكلت للسارد مكانا للإيواء، والنقاشات الساخنة بين طلبة يفرقهم الانتماء السياسي ويجمعهم حق العمل، أما الرباط فشكلت للسارد مجالا للاحتجاج والمطالبة بالعمل، وأحيانا مكانا للهروب من هراوات المخزن، أما الدار البيضاء فهي ملاذ الهاربين، فر إليها السارد ليمتهن مهنا وضيعة توجته ليكون أحد مسحوقيها، لكن القدر الروائي سرعان ما رماه في أحضان امرأة قوية اسمها ’الشعيبية’ التي ستعطف عليه، وتمنحه جسدها ليبحرا معا إلى أقاصي اللذة وهناك سيصبح عبد الحق ضيفا عزيزا على جسد الشعيبية وممتلكا لمفاتيح لذتها، هي الأخرى ستحاول أن تفكر في تحسين وضعية مالكها الاقتصادية حيث انتهت إلى أن رغبته لن تتحقق إلا بالهجرة نحو الخارج، وفي هذا المرقى الدلالي سوف تتوسط الشعيبية للسارد كي يسافر إلى الخارج عبر قوارب الموت إلا أن تجربة السفر ستنتهي بالطرد من المدينة الغربية نحو مدن المغرب ليستعيد السارد عذاباته وصراعاته من أجل الكرامة والعمل والحرية.

يعود السارد إلى وطنه وهو مثخن بالجراح، جرح الوطن الذي صدّره كسلعة فاسدة إلى الغرب، وجرح الحب الذي جعل قلبه ينفطر، فالوطن لم يقدم للسارد فرصة لكي يعيش الاستقرار، ويحلم بمستقبل هادئ، والتحولات التي لحقت هذا الوطن لم تستجب لطموحاته وآمانيه، لنقل إنها أتاحت له الفرصة أن يصرخ عاليا دون أن تستجيب لصرخاته. أما جرح الحب فوزع قلبه إلى جزيرتين متنافرتين، جزيرة الرغبة الجامحة التي كان يطفؤها في جسد الشعيبية وأجساد أخرى مشابهة، وجزيرة سهام المرأة التي توجها ملكة على عرش قلبه لكنها هي الأخرى ترفض هذا العرش؛ لأنها تعيش جزرا مغايرة، حيث فرضت عليها سبل الحياة أن تنهي حسابها مع السارد لأن علاقتهما لا يباركها الواقع، حيث ستسحب معطفها وتتذرع الطرقات والمدن بحثا عن الآمان والاستقرار، هكذا ستشهد الدار البيضاء على لحظة الوداع الباردة وكيف أن سهم سهام سينغرز في قلب السارد، ويفتح جرحا عميقا لن يندمل. هكذا تتجلى البيضاء باعتبارها رمزا للفراق والتطويح بالذات نحو المجهول.

يعود عبد الحق من غربته مشتت الذهن مبعثر الأفكار، يحمل دفتره الذي يدون فيه حكايته مع الزمن المغربي وتفاصيله، لينتشله صديق الدراسة المهدي الذي يعرض عليه العمل كصحفي بجريدته، وفي هذه اللحظة السردية ستنمو الحكاية لتورق من جديد أحداثا مفصلية ستشكل عمق الرواية وأساسها الفكري، حيث سيستعيد السارد توازنه النفسي والعاطفي والاجتماعي؛ فالعمل شكل للسارد نقطة تحول جعلته يحس بقيمته كفرد داخل دوامة المجتمع، ووفرت له دخلا قارا يؤمن له الاستقرار، ومكنته من أن يستعيد تجربته مع سهام ليعيشا من جديد فصولا ربيعية لن تنتهي بموسم قطف الورود ولكنها ستنتهي نهاية سحرية. ففي مدينة البحر التي لا نظفر لها باسم سيسعى السارد نحو حكايا الجسد بإشكالاته العويصة فيقيم نوعا من الحميمية معه بهدف فهمه واستيعابه ومحاولة الإجابة عن أسئلته، هكذا سيكلف بصفحة الإبداع والمشاكل العاطفية، والسارد لن يوقف منظاره في مكتبه بل سيسعى إلى موضوعه السردي في تمثلات مختلفة في الشوارع، والحانات، والدروب الشعبية، ودور الدعارة، ومطبخه، وعبر متخيله الثقافي، ليدون موادا كثيرة سيؤطرها ضمن بحث أكاديمي، والبحث عن الجسد واللذة سرعان ما سيصطدم بإكراهات الواقع وتحولاته ليكتشف الخدعة التي وقع فيها؛ وهي خدعة مغرب التحولات التي اختزلها عمله، حيث سيظل السارد منخدعا في جريدته التي يعمل بها وفي شخص صديقه الحميم صاحب الجريدة ليكتشف أن الحرية التي منحها مغرب التحولات هي حرية رمزية، حيث منع من نشر مواد ذات رائحة سياسية، كما لم توضح الصورة بشكل دقيق حول خط الجريدة ولمصلحة من تعمل وحول مواردها، هكذا يكتشف السارد حقيقته المؤلمة وكيف أنه كان يؤثث مشهدا ملغوما فرضته عليه مطبات الحياة، بل الأنكى من ذلك، أن موضوعه الذي لطالما تحاور فيه مع المهدي وصديقه عثمان الذي يشتغل معه في الجريدة نفسها سيفجأ أنه قُدِّم كموضوع أكاديمي لتتشكل الصورة الكلية، وتدشن بذلك بداية انهيار السارد، لنقل إن انهيار السارد في نهاية الرواية جاء كتتويج لجملة من المعطيات التي تآزرت فيما بينها لتشكل نهاية عبد الحق المواطن المخدوع في الوطن، فسهام هي الأخرى ستفر بالكيفية نفسها لتترك قلب السارد معلقا بين أسئلة حائرة محرقة، لكنها تعود في النهاية لتبرر هروبها بحكاية قد تبدو سحرية، لأنها اكتشفت عن طريق أحلامها ومناماتها أن طريقهما مختلف، وأنهما إذا اصرا على المضي معا فإن عبد الحق لن يعيش طويلا.

سارد الرواية يعيش حالة من الصراع الخارجي والداخلي؛ فالصراع الخارجي الذي قد يبدو واضحا يتجلى في أعلى تمثلاته في الصراع من أجل البقاء ومن أجل الحياة، الحياة التي وضعت في طريقه فخخا متنوعة، فخ الحب الذي لا يكتمل، فخ العمل المزيف، وفخ العلاقات المتصدعة، إنها رواية النقص، واكتمالها يعوضه الغياب، بينما الصراع الداخلي تمثل في التحولات النفسية التي عاشها السارد وهو في طريقه للبحث عن قيم إنسانية متعالية، قيمة الحب والصدق والحق، وهي القيم التي ظلت معلقة ومؤجلة، لنقل إن هذه القيم تجسدت وهي لابسة لأقنعة هشة صورة الواقع صورة وردية لكن هذه الصورة سرعان ما انهارت وتشقق قناعها، لتنبري صورة الواقع الصارخ الذي لا يؤمن بأي قيمة ثابتة، وإنما التحولات جعلت الواقع يغير من قيمه، ويؤسس لقيم جديدة، قيم الزيف والكذب والنفاق والكراهية، وهي كلها قيم جعلت نفسية السارد متدبدة لينتهي به المطاف طريحا في باب منزله يبتلع مرارته، ويحلم بيد حنونة تنتشله من مستنقع الظلام لترمم خسارته. ظلت اليد مؤجلة، وظلت الحقيقة غائبة، ليكتشف السارد عمق الخدعة التي حيكت حوله، وكيف أن المحيطين حوله أتقنوا أدواره وأجلوا معرفته بالحكاية.
إن مطبخ الحب الذي تتأسس عليه الرواية هو مطبخ الاحتراق، ففيه تدون حكايات السارد مع الحياة والحب والجسد، هو كنيسة السارد الذي يعترف داخلها بما مر معه من انعطافات ومطبات، هو المطبخ نفسه الذي شهد لحظات التماهي بينه وبين سهام، لكن هذا المطبخ الذي ظل بؤرة الحكي، هو الآخر مطبخ الاحتراق، لأن كل ما دونه هو في كرسيه الوثير سوف ينضج ليصل إلى مرحلة احتراق الحكاية، حكاية عبد الحق القاضي الذي يقيم تجربة جيل بأكمله، والمتهم الذي يحاكم بتهمة انتمائه للحياة وبحثه عن الحقيقة الماثلة أمام أعينه، والتي لن تحتاج إلا إلى إبرة دقيقة لتنفجر أمامه كما انفجرت دودته الزائدة، وهو المطبخ نفسه الذي أحرقه، وجعله مضطرا أن يتركه إلى الأبد بعدما انتشرت رائحة الحريق قبل أن تشب في الحي بأكمله.

إن الرواية هي دعوة صريحة لتأمل تجربة مغرب التحولات، والتفكير مليا في أثر هذه التجربة على حياة الفرد والمجتمع، قد يبدو الروائي وكأنه عالم اجتماع؛ لأنه وجّه عدسته لنقد المجتمع وعلاقاته، وقد يبدو كمحلل للاختلالات النفسية دون أن يصلح إلى الحقيقة، لكن عبد العزيز الراشدي تعالى عن هاتين الوظيفتين ليُكيِّف نقده وتحليله ضمن امتداد تخيليي يوهم بالحقيقة. ومن ثمة يكون قد نجح في توزيع روايته على الثنائية الصعبة القائمة على ربط الواقعي بالخيالي.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)