مسرحية “أميال غالية” لفرقة “زقاق” المسرحية اللبنانية تراجيديا ملحمية حول نساء الشرق تأليف مايا زبيب وإخراج عمر أبي عازار

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الإثنين 08-04-2019
المدن - ثقافة
منى مرعي


"أميال غالية" لـ"زقاق".. ملحمة عربية في الطريق إلى أوروبا


مع كل امرأة نسمع مآسي نساء وحكايا بلاد


لا فكاك بين الفعل المسرحي والسياسة في مجمل أعمال “زقاق”، وهنا أتحدث عن السياسة كمكوّن أساس للنص ولانشغال الفرقة بهموم تتعدّى السياق المحلي لتطاول مفاهيم عامة، تنحو دائماً نحو طروحاتٍ فكرية وفلسفية كونية. يكفي النظر إلى ريبرتوار الفرقة، منذ “لوركا”، التدخل الفني الأول الذي وقعّة جنيد سري الدين ذات صباح من أكتوبر2005، حيث يعود الشعر الى شوارع بيروت على لافتات. ثم العمل على الذاكرة الفردية والجمعية معاً منذ عمل “صندوق الموسيقى”، الذي كتبته مايا زبيب، والانهماك في طرح تساؤلات حول تركة الحروب والصراعات التي مرت على لبنان منذ الاستقلال، والتي ظُهّرت أكثر فأكثر في أعمال “مارشال العبادية” (2011)، “خيط حرير” (2012)، “مشرح وطني” (2012)، “جنة جنة جنة” (2013)... كل هذه العروض شكلت جبهة تحدٍّ لكل العنف المنهجي المتأتي عن النسيان والتناسي اللذين تحوّلا محرّكاً أساسياً لاشتغال الفرقة.

حتى اذا ما نظرنا الى الأعمال التي لم تُعرَض في بيروت، نجد مساءلات لمفاهيم قيمية مرتبطة ارتباطاً جذرياً بالسياسة كممارسة: في عرض “إعادة التمثيل Re-enactment” الذي ُقدم في ماساتشوسيتس في أميركا، طُرح سؤال تلاعب الميديا بالأحداث وإمكانية إعادة تمثيل المجريات التاريخية ومدى قربها من معنى الحقيقة. “عنف بريء” هو عرضٌ آخر قدّمه طلاب جامعة هيوستن، حيث حاولوا رسم صورة عن العالم اليوم، بينما تبرز أصوات مغايرة تُسائل الخطاب السياسي القائم. كذلك حضرت تيمات الجندرة (The jokers) الموت والخلود والعنف وفعل استهلاك الصورة، في عروضٍ كان أبرزها “الموت يأتي من العيون”، و"هو الذي رأى"، و"مسرح المعركة". منذ مسرح المعركة، تناولت فرقة “زقاق” ملامح المأساة الأبرز في السنوات الأخيرة: أتحدث هنا عن مأساة اللجوء وقوارب الموت. تم التعمق أكثر في تلك الملامح في عرض Limbo of the white sea (الذي قُدم في مسرح Royal Court في لندن،2016) والغوص في متلازمة الهروب الى الغرب عبر البحر منذ العام 1890 حيث عملت الفرقة على جمع سرديات عائلية. وها هو عرض “أميال غالية” يقتفي أثر شابة لبنانية صالت وجالت آملةً الهروبَ الى أوروبا.



ملحمة الأمل

للمرة الأولى في مسار أعمال “زقاق”، أقلّه تلك التي عُرضت في بيروت، يحضر الحب كخلفية أساسية، تفجرّ تاريخ المنطقة العربية بأكملها وراهنها الحافل بدوامة الإنكسارات التي يفاجئها دوماً أملٌ ما. عرض “أميال غالية” مبني على نص كتبته مايا زبيب، وأخرجه عمر أبي عازار، بينما تولى تمثيل الأدوار المتعددة للعرض كل من ريم مروة (غالية)، جنيد سري الدين، لميا أبي عازار، رائدة طه ومايا زبيب. وغالية هي الأمل الفريد بسذاجته وبراءته. السذاجة تتبدى كفعل تمسّكٍ سياسي آخر بقيم ومفاهيم، تتعدى مجرد حكاية حب فتاة جنوبية في السابعة عشرة من العمر بشابٍ فلسطيني وحَملِها منه. هذا الحمل سيدفعها إلى الهروب الى أوروبا. على غرار أفلام road movies، سيجد المُشاهد في مسرحية الطريق الشاقة هذه، أميال غالية التي تُحتَسَب بالحكايا وباللقاءات، وترسم مسار فتاة تركت قريتها الجنوبية الى صور متنقلةً منها، الى صيدا وشاتيلا فالبقاع، فسوريا، فبغداد، فصحراء الخليج، فليبيا، فالبحر الأحمر، فالغردقة فالقاهرة وصولاً الى قوارب الموت.

للمرة الأولى أيضاً في أعمال “زقاق”، تحضر الحبكة المسرحية في مسارها الكلاسيكي والتي تتمحور حول تطوّر أحداث شخصية واحدة، من دون الإبتعاد عن أدوات “زقاق” المعتادة المتمثلة في اعتماد الجوقة واللجوء الى الموروث الشعبي في الحكي والموسيقى والرقص، الاحتكام الى الأساطير ومساءلة عناصر الحكاية. غالية التي هربت من قريتها لأن عائلتها تسعى الى تزويجها من رجلٍ لا تريده، تترك قريتها أيضاً سعياً إلى الحرية ولإكتشاف الكون: “غالية كانت صغيرة، دنيتها كبيرة ومش سايعتها”. هي تؤمن بأنها قادرة على تحقيق أي أمرٍ تريده. ذهبت في بداية العرض الى بيت الست جميلة، الراقصة المتحررة في القرية لتكتشف أنها تركته، اعترضت. جنّ جنونها حين عبّرت لها ديبة، خالتها ومثلها الأعلى، عن ندمها لأنها تمردت ولأنها تمسكّت بأحلامها الرومانسية، ولأنها سمعت خطابات عبدالناصر، ولأنها تمسكت بالقضية. لم تهرب لأنها اكتشفت حملَها، أو لأنها ذهبت بحثاً عن حبيبها الذي اختفى فقط، بل لأنها تؤمن بأن هناك حياةٌ أفضل في مكان ما، وهذا المكان هو أوروبا. رحلتها هذه ستكون عابقة بحكايا نساءٍ أخريات، وبلاد حيث تظل ابنة السابعة عشرة متمسكة بالأمل. لن تثنيها الشكوك حول الإحتفاظ بالجنين أم لا، أو الإنتقال من الحب الأول الى الحب الثاني. فالخيارات هذه ليست سوى امتدادات لبعضها البعض.

غالية تقع في الحب بين مأساتين، إذ كان حبها الأول شاباً فلسطينياً وحبها الثاني شاباً سورياً، والجنين الذي في لحظةٍ ما قرّرت الإحتفاظ به، شرط أن تتخلص من الطفل الحزين الذي يبكي دوماً والذي أنقذته في مسيرتها، ليس الا صورة مستقبلية لهذا الطفل الذي كانت تود التخلص منه. طفل صادفته لا يتكلم، يبكي دوماً ويركض كالبطريق المكبل. وحكاية المرأة الأولى التي صادفتها وأخبرتها عن الثور الأبيض الذي خطفها وصولاً الى الجنود الإسرائيليين، ليست سوى تصرف آخر بأسطورة أوروبا التي خطفها زيوس متنكراً بالثورٍ أبيض. كل هذه إحالاتٌ ترتفع بحكاية غالية، التي تمسكت بالحب حتى اللحظة الأخيرة وهي تتعرف على حكايا نساء نَسَجن من أجسادهن خريطة العالم العربي.

النساء واللهجات، خبزُ المآسي الحزين

من الممكن القول أن أميال غالية هي تراجيديا ملحمية حول نساء الشرق. كل ميلٍ قطعته غالية حكى حكاية امرأة: من الست جميلة الراقصة المتحرّرة التي تركت قرية غالية، الى المرأة التي ساعدتها في صور، الى سائقة التاكسي الفلسطينية وحكايا نساء مخيمي صبرا وشاتيلا، الى أم مروان البقاعية، مزيجٌ من امرأة مافيوية وداية في الوقت نفسه، وصولاً الى بيت العرابة – أي بيت الدعارة حيث تعرفت على آمنة العراقية وجوديت التونسية وماري السورية، والعرافات اللواتي التقت بهن في مسار رحلتها، والراقصة فضة في مصر... المرأة هي المضطهَدة في هذا العمل، لكنها أيضاً مضطهِدة. مع كل امرأة، نسمع مآسي نساء وحكايا بلاد، حرب الخليج، المأساة السورية، شهداء البقاع في سوريا، الإتجار بالبشر وبالسلاح والزواج المبكر، 11أيلول2001.. الخ. وعلى تماس من هذه الحكايا، تجتمع لهجات وعاميات المنطقة العربية، تتوحد في سياق المآسي. خيار العمل على اللهجات التونسية والعراقية والسورية والفلسطينية والمصرية، وغيرها من اللهجات، هو هنا خيارٌ جمالي وسياسي في الوقت نفسه: فضاء البلاد ينتفي، ولا وجود له، إلا من خلال أجساد النساء واللهجات. كأنه سعيٌ بصريٌ من “زقاق” لكسر صورة الحدود والجغرافيا.



بين التوثيق والشعر

ما من تفصيل في الحكاية التي نسجتها مايا زبيب إلا وهو مبني على بحث معمق، وغالباً ما يكون مرتكزاً على حيوات أفرادٍ وعلى وقائع حقيقية. ليست حكاية الست جميلة الراقصة الجريئة التي هربت من والدتها وبَنَت نفسها بنفسها، إلا حكاية مستقاة من حياة بديعة مصابني. الحديث عن حَرق “داعش” للمكتبة المركزية في الموصل، الطيارة بلا طيار التي قتلت عائلة في بغداد تعود الى وثائق ويكيليكس، الفتاة التي سُحلت وعُرّيت من ملابسها في شوارع مصر والتي ترتدي حمالة صدرٍ زرقاء، تُعرَف بفتاة التحرير المسحولة وأصبحت حمالة الصدر رمزاً للعنف الذي مارسه النظام المصري.

بموازاة الجانب التوثيقي يحضر الشِّعر. الحلاج كان حاضراً، كذلك كان أمل دنقل، ولعل أكثر اللحظات تأثيراً هي حين ردّدت غالية قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” صارخةً الى حد البكاء “أيتها العرافة الزرقاء جئت إليك… مثخناً بالطعنات والدماء... تكلمي أيتها النبية المقدسة، تكلمي.. بالله... باللعنة.. بالشيطان. لا تغمضي عينيك، فالجرذان تلعق من دمي حساءها… ولا أردها!”

تضاف الى ذلك شاعرية النص بحد ذاته، الصور التي كونتها مايا في الحوارات اليومية ومونولوغات سرد الجوقة لمسار الرحلة وخطاب غالية وخلاصاتها. كلها عناصر عُمل عليها من دون مغالاة أو افتعال، مع بناء تباين أسلوبي في تلك الشاعرية. مثالان بارزان على هذا الإشتغال هما مونولوغ الجوقة الذي سبق دخول غالية الى القاهرة، ومونولوغ غالية التي تحدث ابنتها. هاتان لحظتان من أقوى لحظات العرض. في فجاجة المونولوغ الأول، الذي قدّم وقائع سحل المتظاهرات، وظواهر التحرش بالنساء في الفضاءات العامة وفي ميدان التحرير، نسق شاعري يتأتى من شاعرية وبراءة أمٍّ تعِد ابنتها بأنها ستفسّر لها كمّ أن الحياة صعبة من دون أن تحميها منها: “بوعدك ذكّرك أديش أنتي قوية، بوعدك ما فسرلك عن الحب والزعل والوحدة لأن هول اشيا رح تكتشفين عالطريق، بوعدك خليكي تلاقي معنى لكل اللي عم تعيشيه بل ما اتمسخر على براءتك”.

هناك جهدٌ سخّرته فرقة “زقاق” في تقديم عرضٍ يمتد أكثر من ساعتين، بهذا الإتقان وهذه الحِرفية. يتخفى خلف النص، بحث معمّق ودراية وإلمام بأصغر التفاصيل السياسية والإجتماعية في المنطقة العربية، وهذا السعي للفرقة، للعمل دائماً مع أفراد جدد، يضيف دينامية إبداعية جديدة لصلب العمل. التعاون الأول لفرقة “زقاق” مع السينوغراف اللبناني حسين بيضون، الذي عمل على متلازمة الأقفاص الخانقة. التأليف الموسيقي لليال شاكر، وعزفها على الكمان مع سيمونا عبدالله على الإيقاع، أضافا إلى ملحمية النص والمشهدية. التعاون مع ممثلات من خارج الفرقة، نَكَّه العرض ببراءةٍ ريم مروة الإستثنائية (وإن انزلق أداؤها أحياناً)، وبحِرفية رائدة طه... وتلك المرأة منجم شخصياتٍ فريد على الخشبة. مايا زبيب وجنيد سري الدين المتألقان دوماً. ولميا أبي عازار، سند الفرقة. جنيد الذي يفاجئنا بإشتغالات على تفاصيل الشخصيات التي يجسدها يبحث دائماً عن جستوس مختلف.

المشهدية البصرية، شكلها عمر أبي عازار على شاكلة صور فوتوغرافية، تجمدّ الزمان والمكان والحدث في لحظات الذروة، لكن مهلاً… مع كل هذه الإيجابيات والجهود المبذولة، قد يشعرك هذا العمل بالحيرة وبالتعب: ليست المشكلة في طول النص على ما أعتقد... انما في المنطق المعتمد في التعاطي مع النص بحد ذاته، وهو ما لم نعتَده في أعمال “زقاق” من قبل. كما لو أن النص الذي أتى نتاج ورشة عمل “رويال كورت”، فرض منطقاً سردياً لم نعهده سابقاً، وقد يُنظر اليه على أنه كلاسيكي الطابع، إذا ما قورن مع الأعمال السابقة للفرقة. بدلاً من العمل على الإيحاءات، واعتماد الحكاية كرمز للفكرة العامة التي يشتغل عليها العرض، والتي تُكتشَف وتُبنى تدريجياً مع المُشاهد، برزت الحكايا في نص “أميال غالية” كمفسّر سببي يربط السياقات السياسية ببعضها البعض، في محاولة لإثبات أن كل المآسي نابعة من تاريخ مرتبط ومتشابك وله المنابع والمظلوميات نفسها. وهنا يُطرح تساؤل حول هذا الفائض في اعتماد السببية (الذي أدّى الى خطابات مباشرة أحياناً) وأثر ذلك في المتلقي.

وزاد من هذه الحيرة، إعتماد صيغة إخراجية جامدة، تريح الجمهور عبر الفواصل الموسيقية حتى شُكلت مشهدية من الصور، من دون تداخل وتفاعل بين مساحات العزف الحي، ومساحات التمثيل والسينوغرافيا، بالشكل الذي يكفل خلق أبعاد وطبقات جديدة في مسارات التلقي. لكن، أيحق لنا كمشاهدين أن نحبس “زقاق” دوماً في هامش أدوات وكودات جمالية، اعتدناها، من دون أن تسمح توقعاتنا بمساحة مختلفة من التجريب، وإن أدى ذلك الى مقاربة كلاسيكية نوعاً ما؟ البعض يقول نعم. البعض الآخر يقول لا.

(*)"أميال غالية" عمل مسرحي لفرقة “زقاق”، عرض في هامبورغ، وفي برلين.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)