مدن الملح، عبد الرحمن منيف (السعودية)، رواية

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السبت 6 نيسان (ابريل) 2019
يمنى العيد


ذاكرة ترحال أدبية: عبد الرحمن منيف وتيه الشخصيات في مدن الملح


بعد الرحيل يأتي دورُ الذاكرة… هو الفقدان يُذْكيها، فنستعيد حضور مَنْ فقدنا.

أتذكّره في مناسبات عديدة التقيتُه فيها، وفي حوارات متنوِّعة دارتْ بيننا، ولا أدري من أين أبدأ. هل أبدأ من ذاكرة الأكُفِّ التي صفَّقتْ له طويلا في قاعة الأوبرا في القاهرة يوم منحه المجلس الأعلى للثقافة الجائزة الأولى للرواية العربيّة، وكنتُ عضواً في لجنة التحكيم!

تتزاحم الذكرياتُ في رأسي… تعود بي إلى يوم لقائي به في تونس، بمناسبة مشاركتي في ندوةٍ عن «الخطاب الروائي العربي المعاصر»، عُقِدتْ في المكتبة العامَّة بمدينة قابس، الذي دعتْ إليه وزارة الشؤون الثقافيّة في جمهوريّة تونس. في نهاية هذه الندوة التي شارك فيها روائيّون ونقاد من أكثر من بلد عربي، ذهبتُ برفقة عبد الرحمن منيف ومحمود أمين العالم إلى مدينة جرجيس، بطلب خاصّ من أحد المسؤولين عن المهرجان (الروائي محمد الباردي)، وذلك بهف إقامة ندوة إضافيّة عن الرواية العربيّة.

ما أزال أذكر جمال هذه المدينة السياحيّة التي استغربتُ اسمها، جرجيس. اسم فينيقي، قال محمد الباردي، كأنّه ينسبها إلى تاريخ لبنان القديم ليعبِّر لي بذلك عن قرابة بيننا، ثم أضاف: هي من أهم المدن الساحليّة. وقفنا نتأمل مياه البحر الصافية وأمواجه الهادئة، وواحات النخيل التي تمتدُّ على طول الساحل الرملي. كلُّ هذا الجمال الذي يتناغم فيه الأزرق مع الأخضر والرملي! وكل هذه المقاهي التي تقدِّم الطعام، خُصِّص بعضُها للفرنسيّين والبعض الآخر للألمان. فرنسيّون وألمان ينتمون معا إلى أوروبا، ولكن ما زالوا، بسبب عداوتهم التاريخيّة، يرفضون الجلوس قرب بعضهم البعض.

سحرني جمال جرجيس، وأنساني تعبَ رحلة القطار إليها من تونس العاصمة (540 كلم)، وجعلني أردِّد: يا إلهي كيف لا نعرف، نحن العرب، هذه البلاد العربيّة، ولماذا نقصد بلاد الغرب للسياحة بينما يأتي الغرب إلى هنا! وتذكرتُ المثل الشعبي الذي يقول «بنت الدار عورة».

حين عودتنا إلى تونس العاصمة، كان علينا أن ننتظر، في أحد فنادقها، الموعدَ الأسبوعي لإقلاع الطائرة، كلٌ إلى بلده. هكذا وبهدف الإفادة من وقت الانتظار، توافقتُ مع منيف على أن أُجري حواراً معه.

سألته: «ما هو تبريرك الفنّي لرحيل شخصيّة مُتعَب الهذاّل الفذّة [في رواية «التيه»، الجزء الأول من خماسيته «مدن الملح»] قبل ان تنتهي الرواية؟».

أجاب: « كنت مقتنعاً أثناء كتابة هذه الرواية أنها تسجِّل لمرحلة تاريخيّة معيّنة، وأنّها تشبه بشخصياتها سياق التتابع، فالشخصيّة التي تملأ المسرح، إذا صح التعبير، خلال فترة معيّنة، لا تلبث أن تخلي المسرح لغيرها من أجل أن تتواصل الحياة، وأن تكتمل دورتها، وهي بهذا المعنى استمرارٌ للحياة بصورة عامة، ولحياة الصحراء بصورة خاصة».

ثم أضاف، وكأنَّ الكلام مرآة الذات البشريّة في قدومها إلى الحياة ورحيلها عنها: «وعلى غرار مُتعَب الهذّال تولد الشخصيات، تمارس حياتها ثم لا تلبث أن تخلي المكان لغيرها… أعتقد أني كتبتُ حتى الآن روايتيْن، الأولى هي «الأشجار واغتيال مرزوق»، والثانية هي «مدن الملح»، الأولى كانت تحمل بذور معظم الروايات التي تلتها، ولذلك كانت تلك الروايات ترجيعاً لنغم أساسي كان قراره رواية «الأشجار واغتيال مرزوق». أعتقد أنَّ الروايات اللاحقة تكمن معظم جذورها في رواية «مدن الملح» أكثر من أية رواية أخرى، هكذا وبعد عشر سنوات على صدور آخر أجزاء «مدن الملح»، أصدرتُ رواية «أرض السواد» بأجزائها الثلاثة «، 1989.

كان منيف يعمل طيلة هذه السنوات على تأكيد ملامحه التي وجدها، كما قال، في «مدن الملح»، أي كان يسعى إلى نفسه وإلى تحقيق غبطته. كان يكتب رواية «أرض السواد» التي جاءت ترسيخاً لجذور غرسَها في رواية «مدن الملح»، كما جاءت ترجيعاً لنغم أساسي تمثل بتجاوز البطولة الفرديّة والثنائيّة الحادّة، كما تمثّل بالشخصيات العديدة، المتنوعة، المحيلة على أناس بغداد العاديّين، والمهمّشين الذين أحبّوا بصدق أرض السواد (العراق) وصنعوا، شأن أناس «مدن الملح»، تاريخاً أغفله مؤرِّخون كثر ولم يحفل به المبدعون.

سألته عن هويّته وانتمائه وقد حرم منهما بسبب مواقفه وأفكاره الوطنية، فقال: «هويتي هي أن أكون روائيّاً يحكي ما عشنا ونعيش، ويفسح للناس العاديين مكاناً هو لهم في هذه الحياة، ويعطيهم الفرصة لأن يقولوا همومهم وأحلامهم لأنهم، في نظري، هم الأجدر باهتمام الرواية، وهم الذين يجب أن يلتفت إليهم كتابها».

تعددت لقاءاتي بعبد الرحمن منيف، وصار يزورني في بيتنا في بيروت برفقة زوجته السيدة سعاد القوادري، المرأة المثقفة، رفيقة منيف الروائي، وأمّ أولادهما المثاليّة. كان منيف في تلك الزيارات يجلس على كنبة منفردة في صدر الصالون، يتكلّم قليلاً وينفث دخان غليونه الذي لا يغادر شفتيْه. دخان مثل غيمة، مثل ضباب الصحراء قبيل الغروب، ضباب يتراءى لي في فضائه «شخصُ» مُتعَب الهذّال جالساً مكان منيف… ينبّهني صوتُ الصديقة سعاد من شرودي، تسألني: ماذا تكتبين في هذه الأيام، ويُعقِب منيف: لماذا لا تكتبين عن صيدا. جميل نصُّكِ المنشور في مجلّة «المدى» والذي تحدثتِ فيه عن معبد أشمون في صيدا، أشمون الإله الذي كان يشفي المرضى…

فيما بعد افتقدتُ حضورَ عبد الرحمن منيف إلى بيروت، كان ذلك بسبب مرضه، فسعيتُ مع بعض الأصدقاء لزيارته في بيته في دمشق. سألنا زوجته:

– ما مدى تحمّله للزيارات.

– الجلوس مع الأصدقاء سعادته، خاصّة في هذه الأيام.

يخرج لاستقبالنا، يقف عند أعلى الدرج، يبتسم مرحبا بنا. يدور الحديث، من ثم، بعيداً عن المرض. نصغي لنبرته العراقيّة، يسألنا عن شغلنا، يبدو حريصاً على معرفة ما نكتب، وحين نسأله رأيه عن عمل روائي جديد، يأتي كلامه هادئاً لا يخفي عدم حماسه لأساليب التجريب الروائي. ينتقد التقليد ومحاكاة الرواية الغربيّة، وبالمقابل يدعو إلى اجتراح أساليب فنيّة تصل بالرواية العربيّة إلى أن تقول الأشياء بشكل جميل، وبصوتها الخاصّ. وكان يعني بالصوت الخاص، هويّة فنيّة لخطابٍ روائي لا يتنكر لمرجعيّاتٍ في الواقع الاجتماعي والتاريخ.

نفتقد اليوم عبد الرحمن منيف، نحن أصدقاءه، فنستعيد حضوره في الكلمات التي أرادها أن تنسج، كما كان يقول، حياة من «لا أسماء كبيرة أو لامعة لهم»، وأن تحكي روائياً، «كيف عاشوا وماتوا وهم يحلمون».

أستعيد حضوره في الأمكنة، في الكلمات، في بيته البسيط الذي له رهافة روحه وجمال طويّته. أستعيده في اللوحات الفنيّة المستقرّة على جدران غرفة الاستقبال، والتي دخلتْ اليوم، شأننا، في التذكُّر. تفتقده هذه اللوحات، أفكِّر، فتستعيد حواراته معها، تستحضر أصالة ذوقه، وتحكي صداقاته لفنانين كثر بينهم صديقه الحميم مروان قصّاب باشي الذي لا نعرفه كما يعرفه الغربيّون، ويقدّرون فنَّه.

فنان هاو كان عبد الرحمن منيف، يرسم شخصيات رواياته قبل أن يبدأ الكتابة عنها، يرسمها بهدف بلورة ملامحها، وناقد فنّي كتب عن تجربة صديقه مروان قصّاب باشي أجمل ما قرأتُ عن الفن التشكيلي. كتب كتاباً مشتركاً جمع بين اسميْهما، بين السيرة الفنية التي كتبها منيف وبين صورٍ للوحات الفنان قصاب باشي. (صدر عام 1996، تحت عنوان: «مروان قصّاب باشي. رحلة الحياة والفن»).

لا أزال أتخيّلُ حضوره في مكتبه في آخر لقاء لي معه، متوحداً في رحابته وهدوء الفضاء فيه. مكتبُه البعيد عن ضجيج الشارع الدمشقي، المحاط بالخضرة وروائح الورد والياسمين… مكتبه الذي لاذ بصمت القلم. صمَتَ قلمُ منيف، وبقي الروائي حاضراً لدى قرائه الكثر وفي كلِّ ما كتب، في الرّواة، رواة رواياته الذين غالباً ما بقي خلفهم… لا يدعهم يستأثرون بالكلام.

رحل عبد الرحمن منيف… لكنه ترك للتاريخ، لتاريخ المدن والناس، ولتاريخ الرواية العربيّة وزمنها، مكاناً سيبقى خالداً فيه.

* عبد الرحمن منيف (1933ـ2004): ولد في عمّان لأب نجدي وأمّ عراقيّة، وفيعا أنهى دراسته الثانويّة، وأتمّ الجامعيّة في بغداد التي أُبعِد عنها بقرار سياسي، فذهب إلى القاهرة، ثم إلى بلغراد حيث حصل على الدكتوراه في اقتصاديات النفط. عمل في سوريا بين 1963 و1973، ثمّ في بغداد بين 1975 وحتى 1981 حيث أصدر مجلة «النفط والتنمية». تفرغ بعدئذ لكتابة الرواية، وأقام في فرنسا بين 1981 و1986، ثم عاد إلى دمشق ليقيم فيها حتى وفاته. بقي إلى آخر حياته معارضاً للإمبرياليّة العالميّة، وظلَّ رافضاً للغزو الأمريكي للعراق عام 2003 رغم معارضته لنظام الرئيس صدّام حسين. ترك ما يزيد على ثلاثين مؤلفاً، بين أعمال روائيّة، ومؤلفات فكريّة ونقديّة في فنون الرواية والتشكيل والسير الذاتيّة. بين أعماله، غير ما سبقت الإشارة إليه: «سباق المسافات الطويلة»، «قصّة حب مجوسيّة»، «شرق المتوسط»، «النهايات»، «حين تركنا الجسر»، و»عالم بلا خرائط» بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا، و»أم» النذور» التي نُشرت بعد وفاته.

عن موقع جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.


على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)