مدن الصحراء في الشرق الأوسط القديم

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 16-04-2019
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي


عولمة مدن الصحراء في الشرق الأوسط القديم


<article5163|cycle|docs=6215,6216,6217,6218,6219>


تحت عنوان “العالم بين امبراطوريات”، يقيم متحف المتروبوليتان في نيويورك، معرضاً كبيراً يطرح مسألة “الفن والهوية في الشرق الأوسط القديم”، بحسب الإعلان. تُسلّط هذه التظاهرة الضوء على الفنون التي نمت في مدن نشأت في المناطق الحدودية التي تفصل بين الامبراطوريات العظمى، وتميّزت بطابع تعدّدي يعكس موقعها الجغرافي الأصلي.

يضمّ هذا المعرض قرابة 190 قطعة، تعود إلى الفترة الممتدة من القرن الأول قبل الميلاد إلى منتصف القرن الثالث بعد الميلاد، اختيرت من عشرين متحفاً في العالم. مصدر هذه القطع، مواقع أثرية تقع في زمننا في سوريا والعراق واليمن، وهي في الأصل مدن صحراوية ازدهرت، ثم اندثرت، وتحولت مع الزمن إلى أطلال إلى أن أعاد أحياءها علماء الآثار. أهم هذه المدن “بالميرا”، وهي تدمر، واحة بادية الشام في شرق حمص؛ “دورا أوروبوس” التي تُعرَف اليوم بصالحية الفرات، وتقع على الضفة اليمنى لهذا النهر على مسافة تسعين كيلومتراً من مدينة دير الزور؛ “هيثرا الفرثية”، وهي إمارة الحضر في الصحراء العراقية جنوبي الموصل؛ و"بترا"، أو البتراء، صخرة الأنباط المرتفعة في جنوب الأردن، وسط الرمال الممتدة بين البحر الميت وخليج العقبة.

من القطع الفنية المختارة في هذا المعرض، نقع على قطعة عاجية منمنمة فارسية من محفوظات فرع الميداليات في المكتبة الوطنية الفرنسية تعود إلى القرن الثالث، وتمثّل فارسين يتقاتلان، هما، كما يشهد زيّ كل منهما، الأمبراطور الروماني فاليريانوس الأكبر والملك الساساني سابور بن أردشير الشهير بسابور الأول. على خطى أسلافه، واجه الملك الإيراني أعداءه الرومان، وهُزم في الحسكة، في البادية السورية، إلا انه عاد وانتصر عليهم في الأنبار، نواحي الفلوجة. وواصل الحرب، ودخل في معركة ضروس مع فاليريانوس الأكبر، وانتصر فيها، وألقى القبض على غريمه بنفسه في العام 260. عند الحدود الفاصلة بين الامبراطوريتين المتنازعتين على حكم الشرق الأوسط القديم، نشأت مدن عمرت في خضم هذا الصراع، وتميّزت بتعدديتها الثقافية التي تجلّت في الآثار الفنية، وأشهر هذه المدن “دورا أوروبوس”.

على مدى العصور، كانت دورا أوروبوس مطمعاً للدول الكبرى، بسبب موقعها المطل على طرق القوافل التجارية، إضافة إلى ما تتميز به من دفاعات حصينة وقوية. شيّد المهندسون المقدونيون هذه المدينة في القرن الثالث قبل الميلاد، في أعالي الهضبة السورية، عند منحدر صخري يمتد في اتجاه الفرات، وجعلوا منها حصناً هلنستياً. دخل هذا الحصن في كنف الأمبراطورية الرومانية، وازدهر ازدهاراً كبيراً، وعكف أهله على طمر معابدهم يوم وصل جنود سابور إلى مشارف مدينتهم، فحموها من الدمار الذي أوقعه الملك الفارسي بالمدينة حين دخلها العام 256 ودمرها بعدما قاد كل سكانها إلى الأسر. غابت “دورا أوروبوس” عن الخريطة إلى أن أخرجها المنقبون إلى النور في عشرينات القرن الماضي، وتبيّن أن هذه المدينة التي لم يتجاوز سكانها الخمسة آلاف فرد، تميّزت بتعددية دينية استثنائية كما تشهد معابدها المطمورة، ومنها معبد أدونيس، معبد زيوس تيوس، معبد زيوس ماجيستوس، معبد ميثرا، معبد أتارغاتيس، معبد بل، ومعبد أرتميس نانايا. إلى جانب هذه المعابد “الوثنية”، شُيّد كنيس يهودي فريد نُقل إلى متحف دمشق، ومصلّى مسيحي نُقل إلى متحف جامعة يال في مدينة كنتيكت الأميركية.

يتميّز الكنيس بجدارياته الموزعة على أربعة صفوف متوازية. وفقاً للتقليد المتبع في الحقبة الرومانية، تزيّن الصف الأسفل صور حيوانات ووجوه مجردة من أي دلائل أدبية. وتزيّن الصفوف الثلاثة العلوية سلسلة من المشاهد التوراتية يحضر فيها عدد كبير من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وداود والياس. كذلك، يتميز المصلّى المسيحي بجدارياته التي تشكل إلى يومنا هذا المثال الوحيد على تبني الصور في دار مسيحية مخصصة للعبادة. على صعيد الأسلوب الفني، تتبنّى كل هذه الجداريات التقاليد الفنية التي سادت في مختلف معابد “دورا أوروبوس”، ويتميّز هذا النمط بدمجه بين التقاليد الرومانية والتقاليد الفارسية في حلّة جامعة متقنة تشهد على تلاقح حضاري ثري يتردّد صداه في تدمر، كما في سائر المدن الصحراوية المعاصرة.

اشتهرت تدمر بأطلالها وآثارها منذ القدم، كما تشهد كتب التراث. اعتمدت الروايات العربية القديمة على القصص الشفهية التي تبدأ بشكل وتتطوّر بأشكال متعددة، واعتمدت الأبحاث الحديثة على النصوص التدمرية المنقوشة والمصادر المكتوبة. وبات لتدمر تاريخ أدبي لا يمت إلى الحقيقة إلا بصلات واهية، وتاريخ علمي يعتمد على الشواهد التاريخية والكتابات الأصلية. أعاد المتخصصون كتابة تاريخ تدمر، وحدّدوا موقعها السياسي والاجتماعي والديني في الحقبة الرومانية التي شهدت نموّها وأفولها. غاص أهل الاختصاص في كتابة هذا التاريخ، واستعرضوا نشوء تدمر ونموّها من الألف الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي السابع، وعادوا إلى سوريا القديمة بقوافلها الآرامية والعربية، وتعرّفوا على تدمر في نشأتها وتحوّلاتها في زمن الرومان والفرس، يوم كانت ميناء الصحراء وبوابة المرور بين امبراطوريتين عدوّتين تتقاسمان الشرق وتتحاربان على حكمه.

وخلف المستعمرة الرومانية، برز وجه مدينة مشرقية أخرى بتقاليدها ومعتقداتها وديانتها الخاصة. تضمّ “بالميرا” شارعاً طويلاً محاطاً بالأعمدة يمتد لمسافة كيلومترات، وهو “الشارع الأعظم”. كما تضم مسرحاً، وآغورا، وبوابة على شكل قوس نصر، ومعسكراً، ومجلساً للشيوخ، وحمامات، وسلسلة من المعابد، أشهرها معبد بل، ومعبد نبو، ومعبد معلشمين، ومعبد اللات، ومعبد يلحمون ومناة. وتضمّ مدافن برجية وأرضية وبيتية، أشهرها “ضريح الأخوة الثلاثة” الذي يتميز برسومه الجدارية البديعة. وفي فنون الشرق القديم، يرتبط الفن التدمري بالدين ارتباطاً عضوياً وثيقاً، ويترجمه في صوره ونقوشه رسماً ونحتاً. في تصويره الموتى كما في تصوير الآلهة، يخضع الفن للدين وينهل من رؤياه لخلق الأسلوب الخاص به. جعلت تدمر من مقابرها هياكل تعلن حلول الحياة الأبدية، هذه الحياة “الأخرى” حيث تعيش النفس في عالم الخلود. تجلّى هذا الطابع في عشرات التماثيل التي أخرجت من أطلال تدمر، وأغلبها تماثيل جنائزية اعتمدت في الأصل كشواهد للقبور التي صُنعت لأجلها. كما في “دورا أوروبوس”، جمع الفن التدمري بين التقاليد الرومانية والتقاليد الفارسية، وأعاد قولبتها في حلة خاصة تميّزت بتناسقها ومتانتها وطابعها التعبيري الخلّاب.

وتمثّل آثار مملكة الحضر، نموذجاً آخر من نماذج هذا التلاقح، كما تشهد تماثيلها ونقوشها العديدة. تُعتبر هذه المملكة من أقدم الممالك العربية في الجزيرة الفراتية، وتقع في السهل الشمالي من وادي الرافدين، غربي العراق وشرقي سوريا، وقد تميّزت بموقعها التجاري والعسكري، فضلاً عن وفرة مياهها العذبة وأراضيها الخصبة. كما في تدمر ودورا اوروبوس، جمعت الفنون الحضرية بين أساليب الأمبراطوريات الكبرى، وابتدعت أسلوباً يماثل إلى حد كبير النمط المتبع في المدينتين السوريتين. من هذه المملكة، أخرج المنقبون مجموعة من التماثيل دخلت متحف الموصل في 1972، ومنذ بضع سنوات رأى العالم بأم العين حفنة من الملتحين ينقضّون بالمطارق على هذه التماثيل لتدميرها وتفتيتها، في مشهد يذكّر بمشهد تدمير تمثالي بوذا في بابيان. تهاوت أنصاب ملوك الحضر وتحوّلت إلى فتات، ومنها تمثال الملك أثال الذي يعرفه كل محبي آثار بلاد ما بين النهرين.

في العام 1860، عهد نابليون الثالث، إلى العالم إرنست رونان، مهمة إعداد تقرير حول المواقع الفينيقية الأثرية في “سوريا الكبرى”. تواصلت أعمال الباحثين الفرنسيين على مدى سنتين في صور وصيدا وجبيل وأرواد، وصدر التقرير العلمي العام 1864 في مجلد موسوعي عنوانه “بعثة في فينيقيا”. رأى العالم الفرنسي في تقريره أن الفنون الفينيقية هي أقل فنون العالم القديم أهمية، ووصفها بـ"المفتّتة" و"الهجينة". في العام 1988، أشرف العالم الإيطالي سابينو بوسكاتي على تنظيم معرض خاص بالحضارة الفينيقية في قصر غراسي في البندقية، وجاء هذا المعرض بمثابة إعادة الاعتبار إلى هذه الحضارة المتوسطية التي اختلفت الآراء في تقييمها.

في العام 2007، بالتعاون مع متحف اللوفر، أقام معهد العالم العربي في باريس، معرضاً خاصاً بهذه الحضارة التي عُرفت بطابعها “الانتقائي”، ورأى البعض في هذا الطابع وجهاً من وجوه “العولمة” في العالم المتوسطي القديم، وحاول أن يحمّل هذه “العولمة” القديمة رسالة معاصرة من خلال الربط بين تجربة الفينيقيين التي قامت على التبادل التجاري والثقافي، ومشروع الاتحاد المتوسطي الذي ينادي به عدد من الزعماء الأوروبيين. عبّر وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، عن هذه الرؤية عند افتتاح المعرض، وتحدّث عن “الطابع العصري للحضارة الفينيقية وتقاطعها مع مشروع الاتحاد المتوسطي الذي تبناه الرئيس نيكولا ساركوزي”.

يتبنّى معرض “العالم بين امبراطوريات” هذه الرؤية اليوم، ويحيي المدن التي نشأت وازدهرت على طول الحدود المشتركة بين روما وبارثيا الإيرانية، في مساحة جغرافية تغطّي طرق التجارة القديمة التي حملت اللبان والمر إلى الشمال، ومن ثمّ إلى العالم الأوسع، وصولاً إلى الصين. امتدّ أثر هذا التلاقح الحضاري إلى الجزيرة العربية، كما تشهد القطع المختارة التي تعود إلى اليمن، ومنها تمثال يوناني الطابع يمثل ديونيسوس ممتطياً أسداً كبيراً، مصدره عاصمة مملكة قتبان، وهي مدينة تمنع التي شكّلت مركزاً مهماً لاستراحة القوافل على طريق البخور التجاري الذي امتد من الهند حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط.

في رسالة تربط الماضي الذهبي، بالحاضر البائس، يستعيد هذا المعرض تاريخ مدن الشرق الأوسط القديم التي نشأت في زمن القوى العظمى، في فيلم قصير يستعرض من خلاله ثلاثة خبراء، حجم الدمار الذي شهدته هذه المدن خلال السنوات الأخيرة. ويرى أحد القيّمين أن محو هذا التاريخ يعدّ تهجّماً على الذاكرة والهوية، بل إنه في الواقع “شكل من أشكال الإبادة الجماعية”.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


عن صورة المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)