محمد مندور (1907 - 1963)، مصر

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الثلاثاء، ١٧ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«في الميزان الجديد» لمحمد مندور : حين يكتب الكلاسيكي عن الناقد الحديث


يحدث أحياناً أن تتخطى النظرة الى كاتب أو تيار إبداعي مسار الزمن، فيخيّل الى المرء أنه من المحال منطقياً أن يكون مفكران كبيران ينتمي كل منهما الى زمن مختلف عن زمن الآخر، قد التقيا. وفي حالتنا هنا، قد يصعب تصوّر التلاقي بين الكلاسيكي المخضرم إبراهيم المازني، والناقد مفتتح الحداثة العربية محمد مندور. ومع هذا، سنكتشف ليس فقط أن اللقاء قد تم، بل كذلك أنه بمقدار ما كتب الأحدث عن الأقدم فإن هذا الأخير كان لديه من الوقت ما يكفيه ليكتب عن الآخر. وطبعاً من ناحية السن والزمن الذي عاش الاثنان فيه، ليس الأمر غريباً. لكن «الغرابة» تبدأ حين ندرك الفوارق المدرسية والأسلوبية بين الرجلين. مهما يكن، يمكننا أن نجد متعة هنا في قراءة بعض ما كتبه المازني عن مندور، وكان هذا عائداً لتوّه من باريس حيث كان يدرس، وراح يصدر كتبه ودراساته تباعاً محدثاً نوعاً من ثورة تجديدية في النقد العربي.

فتحت عنوان «ثلاثة كتب للدكتور محمد مندور»، كتب المازني في جريدة «البلاغ» يوم 27 آب (أغسطس) 1944: «ثلاثة كتب أخرجها الدكتور محمد مندور وألقى بها الى الناس دفعة واحدة، وكفى بهذا دليلاً على أنه أديب وعالم، لكنه ليس بتاجر ولا علم له أو خبرة بالسوق وأحكامها، وما أنا بخير منه (...). أول هذه الكتب «من الحكيم القديم الى المواطن الحديث»، وهو عبارة عن دراسة في الثقافة الأخلاقية لخمسة من أساتذة الجامعات الفرنسية (...) وأنا لم يسبق لي أن أقرأ لهؤلاء الخمسة أي شيء من قبل، فأنا جاهل بأقدارهم ولا أحسب أن هذه المحاضرات كافية لتعريفي بهم تعريفاً صحيحاً، لكني أفدت منها معارف جمة. وقد علق عليها الدكتور مندور تعليق تفسير وتعريف ليزيد الانتفاع بهذه الدروس القيّمة...». والكتاب الثاني، كما يكتب المازني، هو «نماذج بشرية» ومقدمته «بقلم السيدة الأديبة الفاضلة ملك عبدالعزيز، زوجة المؤلف.(...). والنماذج في الكتاب عديدة، وقد تناول في جملة ما تناول روايتي «إبراهيم الكاتب»، فله مني الشكر على هذا التقدير الكريم الذي لم أكن أطمع فيه، ولست أقول هذا تكلّفاً مني للتواضع (...) لكن لأني أنا مؤلف الرواية، فأنا أعرف الناس بمواطن الضعف والقصور فيها...». أما الكتاب الثالث الذي يتناوله المازني، فهو: «في الميزان الجديد» وهو «مهدى الى الدكتور طه حسين اعترافاً من المؤلف بجميله عليه وحسن صنيعه معه ومعاونته على إتمام دراسته في أوروبا. والكتاب كما يدل اسمه، في النقد، وقد تناول فيه الأدب المصري المعاصر وأدب إخواننا اللبنانيين في المهجر وأنصفهم إنصافاً جميلاً. كما أفرد باباً لمناهج النقد وتطبيقها على أبي العلاء، وباباً آخر للتكلم على الجرجاني وثالثاً للمناقشات اللغوية...».

والحال أن كتابة المازني عن مندور ساهمت في إضفاء الشعبية على ذلك الكاتب الكبير الذي يحدثنا عنه مبدع مصري آخر قائلاً: «حين التقيت في باريس بمحمد مندور سنة 1937، وكنت يومئذ في طريقي الى مقر بعثتي في إنكلترا، لازمني يومين أو ثلاثة ليطلعني على معالم باريس، فكان يتنقل بي من السوربون الى البانتيون الى نوتردام الى الأنفاليد وغير ذلك من الآثار الباقية ويشرح لي تاريخها ويحلل لي قيمتها. وفي الطريق، كنا نتجادل في الأدب والفن والسياسة والاجتماع، فأدركت للوهلة الأولى أنني إزاء شخصية خطيرة تختلف عن شخصيتي في الطباع وفي السلوك وفي التكوين النفسي والعقلي وفي المرامي القريبة وفي بعض المعتقدات المهمة، لكن يجمعنا على رغم هذا شيئان: إيمان عميق بالإنسان ومستقبل الإنسان يجري في نفوسنا مجرى الدم في العروق، وإيمان عميق بالحضارة الإنسانية الأصيلة في أي ثوب تجلت: في الآداب وفي الفنون وفي العلوم. فأدركت للوهلة الأولى أن بيني وبين هذا الشاب الذي يكبرني بسبع سنوات آصرة قوية ستربطني به بوثاق شديد».

هذه العبارات التي كتبها لويس عوض عن محمد مندور، تكاد تختصر منذ وقت مبكر الصورة التي تركها ذلك الباحث والناقد المصري الكبير في نفوس كل الذين عرفوه وكانوا أصحاباً أو تلاميذ له، أو حتى خصوماً. فمحمد مندور، الذي غادر دنيانا، باكراً، عام 1965 كان من الحيوية بحيث أنه أضفى على الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي طوال سنوات نشاطه النقدي والأدبي جزءاً من حيوية أثارت الكثير من السجالات وأضفت على لعبة النقد الأدبي أبعاداً قلما أضفتها حيوية أي ناقد أو باحث آخر من أبناء جيله.

ولد محمد مندور عام 1907 وتلقى علوماً اقتصادية وأدبية في مصر قبل أن يتاح له أن يسافر في بعثة الى فرنسا، حيث درس الأدب ومناهج النقد الأدبي حتى عام 1939 حين عاد ليعمل أستاذاً جامعياً في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) والمعهد العالي للصحافة الملحق بها، ثم في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية. غير أن محمد مندور لم يكن من الذين يرغبون في أن ينحصر نشاطهم داخل جدران الجامعة والعمل الأكاديمي، وهكذا ما إن صار له اسم في الحياة الأدبية وفي عالمي نقد الشعر والمسرح حتى بدأ يبتعد من العمل الجامعي لينصرف الى الصحافة ثم الى المحاماة من دون أن يفوته أن للعملين بالسياسة علاقة وثيقة. والحال أن محمد مندور مثلما اعتبر النقد والدراسة الأكاديمية رسالة من أجل الشعب والمجتمع، كذلك فعل مع الصحافة، حين ترك العمل الجامعي في عام 1944 ليرأس تحرير صحيفة «المصري» المناصرة لحزب الوفد ثم صحيفة «الوفد المصري» الوفدية، ومن بعدهما صحيفة «صوت الأمة»، وهو حين وجد في عمله من خلال تلك الصحف قيوداً تكبله، أصدر مجلة «البعث» التي راح يخوض على صفحاتها - ووفق تعبير فؤاد دوارة - «أشرف المعارك وأكثرها ضراوة ضد أعداء الشعب ومستغليه وناهبي أقواته». ويقول دوارة أن تلك المقالات التي كان ينشرها في «البعث» بلغت من الشعبية وقوة التأثير في القراء، بحيث أن باعة الصحف كانوا ينادون باسمه قبل اسم الجريدة التي يكتب فيها.

وذلك كله سبّب لمندور متاعب كثيرة وأشعل نار حرب خفية ضده، حتى داخل حزب الوفد الذي كان ينتمي إليه، وكان يُحسب على جناحه اليساري. أما من شن تلك الحرب هذه فكان «جناح الباشوات الإقطاعيين المسيطرين على الحزب آنذاك» كما كتب مندور نفسه وأضاف: «... وعلمت أخيراً أن بعض هؤلاء الباشوات كان يحرض الشبان الوفديين على الانفضاض من حولي ومحاربتي، في الوقت الذي كنت أحمل فيه مسؤولية المعارضة كلها، وذهبت بسبب كتاباتي الى الحبس الاحتياطي ما يقرب من عشرين مرة بين 1945 و1946، حتى كانت الحملة البربرية التي شنها اسماعيل صدقي في يوليو 1946 باسم محاربة الشيوعية، إذ أغلق ذات مساء 12 جريدة ومجلة، وأطلق رجال البوليس في ظلام تلك الليلة ليلقوا القبض على مائتين من الكتاب والصحافيين، كنت من بينهم...».

لكن لئن كان مندور قد اشتهر كصحافي وبعد ذلك كمحام، حين استفاد أوائل الخمسينات من دبلوم حقوق كان حازه في الماضي ففتح مكتباً للمحاماة، فإن مكانته الأساسية تظل مكانة الناقد الرائد، فهو ابتداء من كتابه الأطروحة «النقد المنهجي عند العرب» وبعد ذلك وصولاً الى كتبه الأساسية «الأدب وفنونه» و «الأدب ومذاهبه» و «الشعر المصري بعد شوقي» و «النقد والنقاد المعاصرون»، أثرى الحياة الأدبية بأول كتب تناولت النقد ومناهجه بأساليب علمية، هذا إضافة الى دراسات مهمة وضعها عن «مسرح شوقي» و «مسرحيات عزيز أباظة» و «المسرح النثري» و «مسرح توفيق الحكيم» والعديد من الترجمات ومن بينها ترجمته رواية «مدام بوفاري».

كان محمد مندور شعلة حياة وحركة، وهو منذ اندلاع الثورة المصرية (1952)، كان يحضر نفسه للعديد من الأعمال والنشاطات الفكرية، لولا أن الموت داهمه مبكراً، فقضى عليه وعلى ما كان، وفق لويس عوض، من معركته الدائمة ضد «الرجعية في كل صورة من صورها: رجعية الفكر ورجعية السياسة ورجعية المال ورجعية النظم الاجتماعية». ويمكن أن يقال أن محمد مندور جعل من حياته كلها معركة ضد التخلف، وكان يرى أن الأدب والفن يقفان في خط الدفاع الأول ضد ذلك التخلف.

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عن الصورة

محمد مندور على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)