محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد، محمود عوض (مصر)، سيرة

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8622 الجمعة 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 - 20 محرم 1438 هـ
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي


محمد عبد الوهاب : نعرفه جميعا ولا يعرفه أحد


إنه عبد الوهاب، الموسيقار الذي وضع بصمة لن يمحوها تعاقب الأجيال، فهو ببساطة لم يكن موسيقيا لجيل واحد، كان يكتب للمستقبل، ليظل فيه، وهكذا حفظته الذاكرة ليس في لحظتها، بل في سجلها الأكثر نصاعة، لأنه سجل الإنسانية والحضارة.

منذ فترة وأنا أقرأ كتابا بعنوان : «محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد» لمؤلفه محمود عوض، وفي الكتاب نتعرف إلى الجوانب الإنسانية الخفية من حياة الموسيقار الراحل، وتلك الجوانب حسب المؤلف تعرفنا إلى «فن الشخصية» لدى عبد الوهاب، تلك الشخصية التي يديرها مخرج بارع تماما، إلى درجة أن الموسيقار يستطيع أن يلبس أكثر من قناع في أقل وقت ممكن، ويستطيع ببساطة أن يغيّر تقاسيمه من متجهم إلى فرح إلى ضاحك أو حزين.

الجميل في ما كتبه عوض أنه كان يتابع كل حركة أو نأمة أو تعبير في وجه وجسد عبد الوهاب أثناء حديثه معه، أو مع آخر على الهاتف مثلا، يرصد انطباعاته وحتى حركة رموشه وأصابعه، يدقق في كل شيء كأنه سيقف على المسرح بعد قليل كممثل فنان ليؤدي شخصية الموسيقار، لا ينسى عوض حتى مخارج الألفاظ أو الأنفاس التي تصدر مع كل تنهيدة أو كلمة للموسيقار. بأسلوب يكاد يشبه رواية متسلسلة ينقل عوض كل ما كان يدور بينه وبين عبد الوهاب، يسأله ويرد سريعا، يحاوره وبين هذا وذاك يراقب متى يكون الموسيقار صادقا ومتى يلبس قناعا ومتى يتنازل عن القناع لمصلحة الحقيقة. يسأل عوض: من هو الفنان؟ ويرد الموسيقار: «الفنان نوعان: فنان مثل ورق النشاف، يلتقط كل شيء وفنان مثل ورق الجلاسيه لا يحتفظ بشيء». «أنا كان عندي عقدة من الستات، هممممممم.. عقدة أعرف سببها جيدا وسوف أخبرك تفصيلا».

عبد الوهاب شخصية مجاملة جدا، ومع هذا يقوم دائما بعملية جرد لحمولاته من العلاقات الإنسانية والأصدقاء لأنه يعتبرها أحيانا حملا ثقيلا، فنه يأتي دائما في المقام الأول، ومع هذا نجد بين أصدقائه من لا يمثل أكثر من شخص مسل بالنسبة له، الأصدقاء في دائرته ينتمون إلى كافة الاتجاهات وهم أيضا متنوعون إلى أقصى درجة، ولكن يبقى أن الحمولة يجب أن تتخفف دائما حتى يستطيع الموسيقار أن يمنح فنه أكبر قدر ممكن من حياته، فحياته في النهاية هي تلك الأنغام التي يصنعها بمخيلته وروحه وعقله وجسده مجتمعة.

«احترم نفسك أولا حتى يحترمك الآخرون» ربما كان هذا الشعار الملازم لعبد الوهاب في مسيرة حياته، فالإنسان الذي لاقى في حياته طريقا صعبا ووعرا، وعانى من الفقر والذل، وضع بينه وبين الناس مسافة تكفي كي لا يتعدوا على حياته، وكي يبقى الاحترام قائما، رسم بدقة كل شيء حوله حتى يبقى في صومعته الفنية، شخصا بهالة كبيرة ومع هذا يبقى شخصا في منتهى الود واللطف.

ويسرد عوض حادثة حيث ذهب عبد الوهاب مرة ليغني في أحد الأفراح بمرافقة فرقته الموسيقية في إحدى القرى المجاورة لبنها «وقبل الغناء دعاه صاحب الفرح للعشاء على مائدة المدعوين، في حين اختار لأفراد الفرقة الموسيقية مكانا في حظيرة البهائم، لحظتها انصرف عبد الوهاب مع فرقته احتجاجا على هذا التصرف. وفعلا عاد الجميع ليلتها بدون أن يقوموا بإحياء الحفل». كان عبد الوهاب يكتسب احترام نفسه أولا بهذا التصرف ومن ثم احترام من هم حوله.

يكشف عوض في كتابه عن جوانب ثرية جدا من حياة موسيقار الأجيال، ولا يتوقف عند المساحات الإنسانية، بل يستكشف علاقاته بالفنانين الذين جايلوه، ولا يترك سطرا في مسيرة الموسيقار من غير أن يبحث فيه، فتلتقط أذنيه مكالمة هاتفية مع المطربة فايزة أحمد، ويحفظ تماما طريقة حواره معها على الهاتف وتقاسيم وجهه وهو يستمع إليها، يكشف عن علاقته بالموسيقار سيد درويش وكذلك بالشاعر أحمد شوقي وغيرهما.

وقد ظلّ المال شيئا أساسيا في حياة الموسيقار الذي عانى من الفقر، وقد كان هذا المال بالنسبة له ضمانا لاستمرار عمله في الموسيقى، واستمرار تأليفه ووضعه للألحان، «إن عبد الوهاب رجل رأسمالي جدا في عواطفه، ولكنه رأسمالي للغاية في أمواله». وكلما سمع عن مشروع يبادر بسؤال جاهز: كم مربحه؟ وكم هي الفترة التي سيثمر المشروع بعدها أرباحا؟ بعضهم كان يصف الموسيقار بالبخل، ولكن عوض يرى أن هذا حرص، وحقيقة الأمر أن المعاناة التي مرّ بها عبد الوهاب في طفولته وشبابه لا بد أن تجعل منه شخصا حريصا، فالخوف من المستقبل سيظل موجودا لمن اختبر العوز والحاجة. وعبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد شخص بسيط كما يظهر من سطور الكتاب، ومع هذا فهو شخص دقيق، مواعيد الطعام عنده «أكثر دقة من جامعة القاهرة» وفي الوقت نفسه حريص على صحته، يحب الطعام ولكنه أيضا ينتبه لفوائد الأطعمة، يحرص على أن يكون طعامه مفيدا، ولا يشغله شيء عن مواقيت السفرة، فهو محب للطعام.

التجوال في صفحات الكتاب يعطينا متعة كبيرة، ليس فقط في الدخول للغرف الخلفية من حياة موسيقار الأجيال، بل أيضا متعة القراءة نفسها التي استطاع المؤلف أن يجعلها رحلة سلسة لا تكتفي بالحوار، بل تستغور وتستكشف لتلقط في عدستها ما لا تراه العدسة العادية.

لن أتوقف هنا، ففي مقالتي المقبلة سأتابع رحلة الموسيقار مع زملائه والعلاقات الجمـــيلة والإنسانية التي ربطت بينهم.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8629 الجمعة 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 - 27 محرم 1438 هـ
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي


الموسيقار الذي يجرد خصومه من ثيابهم


في الأسبوع الماضي توقفت عند كتاب محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد لمؤلفه الكاتب محمود عوض، وفي الكتاب الذي ما زال بين يدي مراحل كثيرة من حياة الموسيقار ووقفات عند الجانب الإنساني في شخصيته والذي يجهله عدد كبير من محبيه.

إلى جانب الإنساني العميق في تكوين شخصية الموسيقار، الذي اختلط فيه حبه للمال مع عشقه للموسيقى، واختلطت فيه حياته التي عانى في بدايتها الكثير بحياته عندما نال الشهرة، وانعكاس ماضي طفولته على شبابه ومن ثم كهولته، إلى جانب كل هذا كان هناك شق علاقاته الإنسانية التي ربطته بموسيقيي جيله من الكبار، فقد كان الموسيقار متشعب العلاقات جدا، محبا لأصدقائه، وفي الوقت نفسه كان يجد في عزلته إبداعه، لكن عزلة المبدع لا تعني أبدا انقطاعه عن الناس، بل التحكم بما يشبه عملية القط والفأر، فهو يريد الأصدقاء من حوله لأنه أيضا يغتني بهم، لكنه يريد صوت السكون القوي الذي لا تخلقه إلا وحدته مع نفسه ليبدع بمؤلفاته الموسيقية.

عبد الوهاب كما كتب عوض شخص يفكر كثيرا قبل أن يجيب عن سؤال، فهو يخاف دائما فكرة أن يتورط في رأي ما، خصوصا عندما يكون هذا الرأي يخص موسيقيا آخر، لكن الموسيقار الذي لا يتورط كما يقول عوض «يفعل ما هو أسوأ من ذلك، أسوأ وأذكى، إنه يكتفي بأن يجرد خصومه من ثيابهم.. ويتركك تحكم عليهم كما تحكم على اللوحة العارية تماما. إنك في النهاية تكتشف أنه لم يقل شيئا مع أنه في الواقع قال كل شيء». مع عمق الصداقات الكثيرة التي أثرت في حياة عبد الوهاب يرى المؤلف أن علاقته بالشاعر أحمد شوقي كانت الأكثر انعكاسا على شخصيته «إن كثيرا من ملامح عبد الوهاب التي نراها اليوم – ملامح شخصية وفنية- تعود في أصلها إلى نتائج صدام الشخصيات الذي تم بين الاثنين». «إن أحمد شوقي كان يعد عبد الوهاب جزءا من مستقبله هو، ووسيلة لتخليده، وامتدادا لكلماته بالصوت والأنغام» فقد كانت الأحوال في ذلك الزمن ليست كما هي عليه الآن، فلم تكن هناك وسائل التواصل الاجتماعي، كما كان دور الإذاعة بالنسبة للشاعر محدودا، وكذلك الصحف فليس الجميع يقرأها، وليس كل من يقرأها يهتم بالشعر، وهذا ما دفع شوقي ليقول لعبد الوهاب «أرجوك يا محمد ألا تهمل شعري بعد أن أموت.. وتبقى دايما تغني قصايدي». وكان شوقي بدوره مصدرا ملهما لعبد الوهاب، وكان لا ينفك يعطيه الدروس في الحياة درسا بعد الآخر، وقد صادف أن توفي والد الموسيقار وهو في لبنان وقرأ خبر الوفاة في الصحف وهو يستعد لإقامة حفل فقرر أن يلغي حفلاته، وجاءه شوقي مواسيا ثم اصطحبه لزيارة طه حسين الذي كان أيامها في عاليه، حيث جاء عبد الوهاب.. هذه المرة كان الدرس على لسان طه حسين الذي سأله لماذا تلغي حفلاتك؟ هل الغناء للفرح فقط، ألا تغني في حزنك؟ «بدلا أن تعبر عن حزنك بالدموع عبر عنه بالغناء».. وليلتها نظم شوقي وغنى عبد الوهاب «الليل بدموعه جاني.. يا حمام نوح ويايه.. نوح واشرح أشجاني».

محمد عبد الوهاب يتكلم: «في أثناء انهماك سيد درويش في إجراء بروفات أوبريت شهرزاد، قابلني أحد الزملاء الممثلين ـ ولعله الأخ فهمي أمان- وعرض عليّ أن أصحبه لسماع بروفات وألحان الرواية، فذهبت معه وفي نفسي سرور لا يوصف بهذه الفرصة الفريدة، وجلست في صالة المسرح أستمع إلى الألحان، كنت في هذه اللحظة أجلس في خشوع وإنصات كما لو كنت في معبد أصلي فيه صلاة روحية، وكانت الأنغام تصل إلى أذني كأنها أوامر مقدسة لا ترد، وكنت بالجملة قطعة ترمز إلى الأعجاب والتقديس لهذه الموسيقى التي تهدهد النفس. وهنا حدث حادث ربما لا يحدث مثله إلا في دنيا المجاذيب.. ومع ذلك وقع بالضبط كما أرويه، فقد بدأت الفرقة تؤدي بروفة لحن في رواية شهرزاد مطلعه «أنا المصري كريم العنصرين». وجلست أستمع إلى ذلك اللحن ذاهلا عن كل ما حولي.. كما لو كان فيه سر يصل ما بينه وبين إحساسي بشيء يسلب إرادتي، وما أن انتهى اللحن حتى رأيت نفسي أجري بكل ما أملك من قوة. وظللت أجري حتى وصلت إلى ميدان باب الحديد، ثم جلست على أحد الأرصفة ألتقط أنفاسي وأمعن الفكر في السبب الذي دفعني إلى هذا التصرف الغريب. لم يكن ثمة سبب واحد أراه معقولا لتفسير ما فعلت، كل ما استطعت أن أصل إليه هو أنني سمعت لحنا خارقا لم أتعود سماعه، وأنني جريت بكل قوتي كما لو كان شيء مخيف يطاردني».

كان الموسيقار على ثقافة موسيقية واسعة، والفنان الحقيقي هو الذي يثقف نفسه تثقيفا شاملا وليس بآليات عمله وحده وحسب، فالفنان الحقيقي يدرك تماما أن نصف إبداعه مرتبط بكمية الثقافة التي دخلت رأسه واحتلت زواياه. ومع سيد درويش الموسيقار العظيم الذي جرى عبد الوهاب كالمجانين بعد أن استمع إليه كان نصيب عبد الوهاب الفشل في أول عمل مشترك بينهما.. حينها كانت كثير من الأقلام تحاول أن تحلل ظاهرة سقوط الأوبريت.. وبعضهم قال إن العمل نجح لكن «الجمهور هو الذي سقط».. هل يسقط الجمهور؟

لي وقفة في الأيام المقبلة مع هذا السؤال.

لن أتوقف هنا، ففي مقالتي المقبلة سأتابع رحلة الموسيقار مع زملائه والعلاقات الجمـــيلة والإنسانية التي ربطت بينهم.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عن الصورة

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)