مجلة الجديد الثقافية الشهرية اللندنية صدر العدد الأول في لندن في فبراير / شباط 2015

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 08-02-2015، العدد : 9822، ص(15)
الصفحة : ثقافة
العرب - كندن


البيان التأسيسي لمجلة “لجديد” الشهرية الثقافية العربية


صدور مجلة ’الجديد’ في هذه اللحظة العربية العصيبة والفارقة هو في حد ذاته تحد كبير للقائمين عليها، ولكل من سيشارك في رفدها بثمرات فكره وإبداعه من حملة الأقلام العرب.

صدرت مطلع هذا الشهر في لندن مجلة “الجديد” معلنة عن نفسها منبرا ثقافيا عربيا جامعاً. المجلة التي يرأس تحريرها الشاعر نوري الجراح، ويرعاها د. هيثم الزبيدي تعهدت مواصلة ما بدأته منابر ثقافية عربية ظهرت ولعبت أدوارا طليعية على مدار عقود الماضية. ننشر هنا البيان التأسيسي للمجلة المنشور في عددها الأول.

I

تولد هذه المجلة في خضم زمن عربي عاصف شهد زلزالاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً مهولاً، ضرب أجزاء من الجغرافيا العربية، وبلغت تردداته بقية الأجزاء، وأسمعت أصداؤه العالم‭.‬ وعلى مدار أعوام أربعة منذ أن خرج التونسيون يرددون “الشعب يريد” باتت الوقائع اليومية لما سيُعرَّف لاحقاً بأنه “ربيع عربي” خبراً عالمياً يومياً، وموضوعاً مغرياً للسبق الصحافي نصاً وصوتاً وصورةً‭.‬

في هذا الخضم العارم ولدت ثقافة الشارع، ويا لخطر تلك التسمية والتباسها، ثقافة الشارع، هل هي حقاً ثقافة شارع أم ثقافة شعوب‭.‬ الهتاف واللوحة والملصق واللافتة والأغنية، والشذرات المكتوبة بلغات عربية شتى تتراوح بين الفصحى المربَكة والمصدومة بالوقائع الجلل المتلاحقة، والعاميات الطليقة الصارخة بكلمات الغضب والدعوة إلى التغيير، منبرها ومسرحها المبكران كانا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ثم ظهرت في الشوارع، وفاضت في المجتمعات‭.‬

وفي الحالتين كان الشباب وراء كل هذا، بينما الثقافة العربية الكهلة تتمطى في منابرها، وتدرج في سياقاتها المعتادة، نزيلة قلاعها الوهمية‭.‬ ثم ما أن اهتزت هذه القلاع حتى تشقق اليقين، وعم القلق، ووقع شيء كثير من الفرز في صفوف الحركــة الثقافية، فبتنا بين موقن بأن شيئا جديداً يلوح ولابد من الانتساب إليه، وشاك بأن شيئا لن يتغير، وأن على هذه الثقافة أن تحفظ نفسها، كما عهدت نفسها، أمام رياح عاتية، لكنها غير مواتية للمراكب‭.‬

في ظل هذا العصف ولد شيء جديد معلنا موت أشياء كثيرة تقادم عليها الزمن (في احتدام التناقض ما بين ثنائية ثقافة العامة وثقافة النخبة، وسعي كلّ منهما لجرّ الآخر إلى لحظته التاريخية)، في اللغة وفي التفكير، في التخاطب وفي الخطاب‭.‬ كتبت المقالات والبيانات والنصوص نصّاً اجتماعيا وسياسيا، وأدباً يحاول القبض على اللحظة الحارة، ليعيد صياغة الجمال الأدبـــي، ويبني في وهجها لغة جديدة للفن‭.‬

حدث كل هذا، بعدما كانت الثقافة العربية قد ودّعت منابرها الطليعية، الرصينة والمغامرة، وكادت أن تنقرض آخر المجلات التي شكلت منابر تلاقت على صفحاتها الأقلام المبدعة والأفكار القلقة والجديدة التي طرحت الاسئلة الجارحة وبشرت بالرؤى الحديثة وبالأفكار المتفاعلة مع معارف العصر وعلومه ومغامراته الأدبية والفكرية، فتحاورت وتساجلت، وأسهمت في تشكيل الوعي العربي المعاصر‭.‬ وكانت عواصم هذه المنابر هي العواصم التي انتفضت اليوم وغامرت بالاستقرار في ظل القمع والفساد والتقهقر، لتتجدد، فنجت أو احترفت، أو وقعت تحت نمط جديد من الاستبداد والاحتلالات، بغداد، القاهرة، بيروت، دمشق، وغيرها‭.‬

حدث ما حدث من وقائع، تاريخية بامتياز، والثقافة العربية يتيمة من المنابر الأدبية التي يمكنها أن تحتضن المخاض التاريخي وتشكل موئلا جامعاً للقاء الأفكار، واستكشاف الأسئلة الجديدة، واحتضان المغامرة الأدبية والفكرية المقبلة‭.‬

II

على خلفية هذه اللوحة السريعة، تولد مجلة “الجديد” لتلم بالجديد المغامر والمبتكر، أدباً وفكراً، وتكون منبره، لئلا تبقيه يتيماً، تعطيه الفرصة التي يستحقها المستقبل من الحاضر، وتؤدي له واجب الجديد نحو الأجدّ‭.‬

لن تكون “الجديد” منبراً يعيد القديم، أو يبشّر به، وإنما هي منبر يدعو إلى استئناف المغامرة الفكرية والجمالية الخلاقة التي بدأتها الثقافة العربية في أبهى لحظاتها، وأكثرها عصفاً فكرياً، ونزوعاً جمالياً نحو التجديد والابتكار خلال قرن من مسارات الحياة الفكرية والأدبية العربية، ومن خلال احتضان الكتابة الجديدة والتسليم بحرية الكاتب وجرأة البحث، وحوار الأفكار‭.‬

ستعمل “الجديد” في خطتها الشهرية على نشر المقالة الفكرية والأدبية والرأي والدراسة النقدية والفنية، والشعر والقصص واليوميات، وغيرها من ألوان الكتابة، وتتضمن حوارات مع كتاب ومفكرين عرباً وأجانب، في الثقافة والفكر والفنون البصرية والسمعية‭.‬ وستسعى ما أمكنها إلى حض الكتاب على مباشرة سجال حول شتى القضايا الشاغلة في الفكر والأدب والفن والاجتماع، فلابد لثقافتنا العربية أن تغادر كسلها وقعودها وتنتقل من “ثقافة المونولوغ” إلى “ثقافة الحوار”، ومن التقوقع على الذات إلى الانفتاح على الآخر، داخل الثقافة العربية وخارجها‭.‬

“الجديد”، إذن، ستستأنف وتواصل، ولن تدّعي أنها ستفتتح وتبدأ، لكنها ستقطع مع أخلاقيات العُصَب والزُمَر والجماعات المنغلقة على نفسها‭.‬ لن تكون مجلة تيار واحد في الثقافة، أو منبر جماعة أو “شلّة” أدبية أو فكرية واحدة، لن يقتصر تطلعها على إقليم أو جغرافية ثقافية، ولن تقسم الثقافة العربية إلى مشرق ومغرب، فهي “منصّة” من شأنها أن تحتفي بالجديد المكتوب باللغة العربية، أدباً وفكراً، أيا كانت إقليميته‭.‬

ومن المهام التي ستضعها على عاتقها، العمل على المزيد من ربط المشرق بالمغرب، ووصل المقيمين في الأوطان بالمهاجرين عنها وقد كثر عددهم في الآفاق، قسرا واختياراً‭.‬

III

لن تكون “الجديد” حكراً على الأسماء الشهيرة المعروفة، لمجرد أنها كرست نفسها عبر الزمن، لكنها ستسعى إلى أن تكون منبراً للنصوص والمنجز الفني والبحثي الرفيع قبل الأسماء، للخيال الطليق، وللجديد في كنهه وبنيته وتطلعه، سواءً كان مصدره كاتب راسخ الاسم أو مغمور أو مجهول، فالمعيار هو الجدّة، فكراً مقروناً بالرصانة والنزاهة والجرأة، وإبداعا يطلع من أرض المغامرة ويتسم بالابتكار‭.‬ الجدارة الفكرية والأدبية هي الفيصل‭.‬

ما من اشتراط على الأقلام التي ندعوها إلى المساهمة في الكتابة على صفحات “الجديد”، بعد شرط الجودة والموضوعية، إلا شرط احترام الاختلاف والالتزام بالرسالة التنويرية‭.‬ فنحن نؤمن بحق الكاتب في التعبير عن آرائه من دون قيود، وبقدرة الأجيال الجديدة من القراء على تلقي الافكار الجديدة، لها الحق في الاطلاع ولديها القدرة على الاختيار‭.‬ هذه القيم والمعايير هي، في نظرنا، ضوء السبيل الذي ينبغي علينا أن نجترحه ليكون لنا، نحن المثقفين، دور حقيقي في إنارة الطريق، ودحر موجات الظلام التي تدفقت تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وأسر الحاضر في ماض متوهم، واختطاف حركة المجتمعات إلى سكونية قاتلة، عبر تسييد فكر نكوصي نرجسي مريض بذاته، ولا تاريخي، من حيث غفلته عن الزمن ومعاندته التغيير، يظهر مرة في صورة حاكم شمولي مستبد لغته الاستعباد أو القتل، وأخرى في صورة مسخ خرج من عباءة المستبد يريد دمغ المجتمع بطابع ديني متطرّف، ولغته هو الآخر إخضاع الناس أو قتلهم‭.‬

على الثقافة، وهي تعنى بقراءة الحاضر، وهذا بعض دورها، أن تحلّل من مواقعها هذه الصورة المزدوجة لوجهي عملة الجريمة، فلا خلاص لمجتمعاتنا من دون تطوير وعي نقدي موضوعي وجريء، يبدأ بقراءة عناصر الخلل وأسبابه الكامنة في الثقافة العربية نفسها، وبشخصية المثقف وأدواره الاجتماعية، وبعلاقة الثقافة والمثقف والنخب بالناس، من دون ذلك لايمكن جسر الفجوة الكبيرة بين ثقافة النخب، وثقافة الناس‭.‬

ندرك، بداهة، أن هذه مهمة تاريخية تتجاوز طاقة منبر أو مشروع واحد، أو حتى منابر ومشاريع كثيرة، وهي بالتأكيد لا يمكن لها أن تتحقق وتحقق بعض مراميها من دون تحرير النخب نفسها من أوهامها عن نفسها وعن الجموع والمجتمعات‭.‬ من دون ذلك لا يمكن خض شجرة الثقافة، لتطرح أوراقها الصفراء، ناهيك عن أنه من المستحيل على ثقافة بلغها أنها تشكلت، فآثرت السكون على الحركة، أن تخاطب الحياة العارمة، وتبلغ الناس، وهي عاجزة عن إضاءة النصوص التي يمكن لها أن تسهم في فتح رتاجات الأذهان‭.‬

IV

صدور مجلة “الجديد” في هذه اللحظة العربية العصيبة والفارقة هو في حد ذاته تحد كبير للقائمين عليها، ولكل من سيشارك في رفدها بثمرات فكره وإبداعه من حملة الأقلام العرب، لكونها عنوان دعوة إلى استئناف المغامرة على أرض الفكرة الجامعة والأفكار المختلفة‭.‬ وما نراه أن ولادة منبر جديد إنما يحمل في دلالته تقديراً للرواد الذين سبقوا إلى تأسيس منابر طليعية عاشت زمنها، وأدت رسالتها، ثم احتجبت‭.‬

ولابد لنا هنا من أن نذكر بعضا من تلك المنابر غير الرسمية التي لعبت أدواراً في الثقافة العربية، كـ"الرسالة"، و"الأديب" و"الثقافة"، و"الآداب"، و"شعر"، و"الناقد"، و"الكاتبة"، وغيرها‭..‬من تلك المجلات الطليعية التي أثارت الحياة الثقافية وحرّضت على الكتابة الجديدة، والخيال الطليق، وكانت بمثابة رافعات للحياة الثقافية، فليس ثمة ما يعوض عن المجلة في مجتمعات منتجة للثقافة خصوصا في المنعطفات التاريخية الكبرى‭.‬ ونحن في منعطف لا سابق له ولا شبيه، بعضها حاول ونفدت عدّته فتوقف، وبعضها الآخر ما يزال يقاوم رياحاً عاتية وظروفاً صعبة في وجه الاستمرار‭.‬

لا نعرف، من الآن، كم يمكن لهذا المنبر أن يستمر في الصدور، لكننا ندرك، حقا، بأن اللحظة العربية الراهنة التي أوجبت وجوده، هي من الخطورة إلى درجة أنها تقتضي من ثقافتنا العربية تأسيس العديد من المنابر الفكرية والأدبية لمواجهة تحديات وجودية يتعرض لها العرب ثقافة ومصيراً.

“الجديد”: لندن في مطلع فبراير 2015

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


موقع مجلة الجديد

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)