’الحلقة في دائرة الحكواتيين’ للمخرج الالماني لادنبوركا

مبادرة سينمائية لحماية القصص المتوارثة شفاهيا من الضياع

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


السنة الخامسة والعشرون ـ العدد 7702 الجمعة 28 آذار (مارس) - 27 جمادي الأولى 1435 هـ
جريدة القدس العربي
برلين ـ من ادريس الجاي


هو عنوان الفيلم الوثائقي للمخرج الالماني توماس لادنبوركا. انه دراما فنية زمنها الحاضر ومكانها مراكش، دراما ترشح بلغة العين، حيث تحل الصورة محل ساعة عد تنازلي، تقرع ناقوس السنوات الاخيرة من عمر فن الحكي، فن يحتضر مختنقا في حشرجة انفاسه المعدودة.

انه فيلم يرصد حركة وحياة ساحة فنية، قوية الحضور في يوميات مدينة تستقي شعاع صيت جاذبيتها من هذا الفضاء ومع ذلك يعيش مبدعوها في طيات الهامش وثنايا’الغياب. الفيلم يتتبع′تساوق مهرجان ذائب يوما على يوم وفصلا على فصل منذ عصور من الزمن، يتتبع هذا الارث المتواجد والمهدد في ذات الوقت بالتواري والغياب الابدي .

انه يغوص في فصول من الدراما اليومية والتراجيديا الفنية لاحد افضل الحكواتيين في مجموع المغرب وبوجه خاص في جامع الفنا في مراكش. عبد الرحيم المقوري المعروف ‘بالازلية’ وابنه زهير. حيث يرغب الاول جادا في ان يرثه هذا الاخير البالغ السادسة عشرة من العمر مهنته ويحمل مشعل صيته الفني ومراس خلقه وابداعه الشفاهي، الذي عرفته البشرية كأقدم الفنون وابقاها، الى الاجيال القادمة.

فقد صاحب المخرج لادنبوركا عبد الرحيم المقوري مدة أربع سنوات، استطاع فيها اظهار قدرة هذا الاستاذ في فن الحكي، الذي يجذب بقوة شخصيته وجاذبية خطابه مستمعيه الى الولوج في عالمه الثر المرصع بألوان الخيال الفياض يوم على يوم سنة على سنة. كيف يستدرجهم بتشويق حكاياته، التي من خلالها يجدون انفسهم في النهاية اسرى’في اصفاد سراديب قصصه الطالعة من عوالم فيض خيال متموج لا ينضب. كيف تتفاعل قدراته الفنية، التي خضبتها تجربة السنين والموهبة مع مشاعر مستمعيه، ما إذا كانوا لا يزالون متحمسين لسماع حكيه ام لا.

ومع ذلك فالمخرج لم يرد لفيلمه ان يكون: ‘تحليلا لفن حكاية القصص، بقدر ما’هو رجوع الى الاصل ومحاولة لربط الحكي بالحياة، ربطه بيوميات الناس في المغرب واعتقد ان’هذا ما يعطي للحكي معنى وهو على ما اعتقد ما جعل الفيلم مهما’. فهذه الاهمية، التي اشار اليها المخرج ترجمها الناقد السينمائي الالماني بيتر كوتنك بقوله : ‘ ففيلم الحلقة – في دائرة الحكواتيين، يجذب المشاهد تماما كما يفعل عبد الرحيم فوق الساحة. الفيلم يشد بشخصية ‘ الحلايقي’ اللامعة، بخبرته الواسعة، بوجوده المشوق وسلطته الهادئة. حيث نتعرف على عائلة عبد الرحيم، ظروفها المادية المحدودة وثروثها الروحية الكبيرة، التي تجعل هذه الحياة عجيبة جدا’.

الحكي متاهة ثرية

منذ سنة 2005 ولدنبوركا يقوم برحلات الى المغرب يسجل فيها مادة الفيلم مع جل حكواتيي جامع الفنا، فالجزء الاول من الفيلم التسجيلي عن فنون ساحة جامع الفنا ‘الحلقة، في دائرة الحكواتيين’ وحده استغرق خمس سنوات من العمل. وكثمرات لهذا العمل فقد تم عرض الفيلم في كثير من المهرجانات الدولية كما نظم له المعهد الثقافي الفرنسي في نهاية السنة الماضية جولة في اكثر المدن المغربية. فعن هذا الاقبال على الفيلم’يقول لادنبوركا: ‘كان له الاثر الكبير على نفسي وذلك منذ العرض الاول في المغرب. فقد كانت القاعة ممتلئة تقريبا عن اخرها وهذا يكشف عن اهتمام الجمهور بهذا الفيلم’. فحيثما عرض فيلم لادنبوركا إلا وينظر اليه كعمل ملي بالاسرار، غير ان سر اهتمام المخرج بفنون الحلقة لا يجد له’هو نفسه العبارات الوافية غير قول:

‘ربما لان صناعة الفيلم هي صورة حكي مختزلة ومحددة يستعمل’فيها المخرج لغة العين والسمع، بينما الحكواتي يوظف لغة خيال تتشكل من خلالها الصور الذهنية والاشارات. ان الحكي هو متاهة ثرية لا تتوالد، رائعة قل ما يمكن التكهن بمسارها وهذا ما طرح بالنسبة لي صعوبات في التصوير. حيث ان عمل المخرج هو جد محدد في استعمال المادة بينما عمل الحكواتي ينساب ويتشعب ولا يخضع لمقاييس الضبط السينمائي، مع هذا فقد تولد لذي المزيد من الاهتمام مما جعلني اصور’عددا كبيرا من مادة فن الحلقة، التي وصلت الى اكثر من مئتي ساعة من التصوير’.

في البدء كانت الحكاية

لقد اثار فيلم’الحلقة’بشكل مباشر او غير مباشر ردود فعل واهتمام عدد من’الجهات الاعلامية في المغرب، التي خصصت برامج لهذا الفن، غير ان بداية اهتمام مبدع الفيلم نفسه بفنون الشارع وفي مقدمتها فن الحكي تعود الى سنة 2004 حين كان يهيئ لتصوير فيلمه الوثائقي ‘من اجلي ومن اجل الاخرين’، حول رحلة’البالغة السبعين من العمر انذاك الكاتبة الالمانية واستاذة الفنون باولا بأتي فون بوكلر (1929 -2011) الى مصر. فقد سافرت باولا بأتي الى مصر، بهدف اقتفاء أثر احد اجدادها الامير هيرمان فون بوكلار ـ موسكو (1785-1871) مهندس، كاتب ورحالة، الذي زار مصر سنة 1853 حتى وصل الى جنوب الخرطوم سنة 1838، غير انها وجدت نفسها غارقة في ماضيها الذاتي حيث عاشت قبل أكثر من 30 عاما في مصر مع زوجها وابنتيها وحيث انه كان عليها أن تفر من قيود زواجها وحياة البذخ التافهة. ‘فقد قرأت عن فن الحكي في الاسواق والشوارع في احدى الروايات المصرية، غير انني حين حاولت العثور على حكواتيي الشارع في مصر، لم اعثر لهم على أثر، فقد انقرض هذا الفن من مصر تماما. من هنا وبعد عدد من البحوث والاستشارات توصلت الى ان البلد الوحيد، الذي مازال فيه فن الحكي في الشارع حيا هو المغرب. توجهت الى المغرب في رحلة مغامرة قوامها منحة شحيحة’من وزارة الثقافة والاعلام الالمانية وبمساعدة استشارية لمعهد كوتي للثقافة، استطعت ان اربط اتصالات مع عدد من الحكواتيين، الذين كانوا لا يزالون يعملون في ساحة جامع الفنا’.

آخر الحكواتيين

لقد كان من حظ لادنبوركا، أن زهير ابن الحكواتي عبد الرحيم يرغب في أن يصبح ممثلا وممثله المفضل هو حسن الجندي ولذلك لا يقف موقف رفض تام تجاه مهنة والده. وعلى الرغم من أن زهير لا يزال تلميذا في المدرسة، فقد كان يرافق والده الى خشبة عروضه في ساحة جامع الفنا، بل حتى انه بدأ هو نفسه يحكي احيانا القصص. فالاب يشرح لابنه مبادئ الحكي، يرشده في مزيج مثير للإعجاب من الصرامة والتساهل. بهذه الطريقة، امكن توماس لادنبورغا’إثارة الموضوع المركزي، معضلة استمرارية فن الحكي كمثال على تلك العلاقة المثيرة والمؤثرة بين الأب وابنه : ولاجل دعم قوة موقف الابن تمت’زيارة الممثل والحكواتي حسن الجندي، الذي يؤكد على ‘ان اهمية دور الحكواتي لا تقل قيمة عن دور الممثل’.

ان اعلان اليونسكو سنة 2001 عن عالمية جامع الفنا وحلقاتها تراثا ثقافيا عالميا، لا يحول دون توقف عدد من اعلام هذا الفن عن الحكي مثل عبد الرحيم، الذين مع اختفائهم يختفي تراث ثقافي بلا رجعة او يجعل مهارة فن الحكي الشفوي تنطوي على نفسها في عالم معولم. فهذا الاعلان من ناحية هو عزاء، ولكنه يعكس ايضا التهديد بالانقراض. فتوماس لادنبوركا،’الذي كرس عمله لثقافة الحكي وللفنون الاخرى التي تمارس فوق الساحة، من خلال الصورة، لا يهدف الى تصبير هذا الفن حتى يبقى أثرا ثقافيا، بل ينتقل بفيلمه الوثائقي الى مهمة الحفاظ على القصص المتوارثة شفاهيا من الضياع. فعلى هذا المنوال واصل انتاج الجزء الثاني من الحلقة السنة الماضية 2013 تحت عنوان ‘الحلقة، آخر الحكواتيين’. وهو فيلم يتناول عددا من فناني ساحة جامع الفنا النساء منهم والرجال’مثل حلقة الراقصين، البهلوانيين، مروضي الافاعي، الحكواتيين، مبتلعي الخناجر والالعاب السحرية وكذا المواهب الشابة. فهذه الاعمال، التي سيتم نشرها في اطار مشروع واسع ككتاب وكتاب سمعي، غير ان المخرج يريد أكثر من مجرد الحفاظ، لذلك: ‘على الارادات من المشروع ان تخدم، تمويل تدريب الحلايقية الشباب. فالانسان لا يحصل في النهاية على كفاية من رواة القصص الجيدين. فالابداع في المغرب متوفر في هذا المجال والحكواتيون لهم نفس الرغبة في مواصلة تقديم عروض فنهم للجمهور، لكن ما يحتاجونه هو اعتبارهم والاعتراف بهم كفنانين وكذا تغيير تلك النظرة الى الحلايقية على انهم مجرد متسولين’.

المحيط والنهاية

فنظرا للصخب الكبير، الذي اصبح يهيمن على فضاء جامع الفنا والمنبعث من حولها، لم يعد يسنح للحكواتيين بامكانية التركيز، الذي يتطلبه الحكي. حيث تختلط اصوات السيارات والدراجات النارية مع اصوات الباعة وموسيقى الشارع. انهم في حاجة، كما عبروا عنها بانفسهم: ‘الى فضاء للحكي مثل خلف مسجد الكتبية كما كان بعضهم يعمل سابقا’الى حدود نهاية التسعينات او في عرصة مولاي عبد السلام’.

ان لادنبوركا يرى مثل ما يرى عدد غيره من المهتمين بهذا الفن: ان امكانية توفير تمويل مشروع استمرارية وتطوير فن الحلقة ممكنة. فلو قامت الجهات المسؤولة بتخصيص درهم الى درهمين فقط لكل سرير سياحي في مراكش لفائدة فناني جامع الفنا، الذين يمثلون في واقع′الامر نواة جاذبية المدينة السياحية سواء بالنسبة للسياحة الداخلية او الخارجية، فستكون هناك امكانية وافرة لضمان استمرارية عروض هذا الثرات الانساني.

‘في السنين الاخير’، يقول توماس لادنبوركا، ‘لم يعد تقريبا يظهر الرواة بعد فوق الساحة. أنهم ما زالوا فعلا موجودين، لكنهم لا يكسبون الا القليل وعليهم أن يزاولوا نشاطات أخرى ليسدوا رمق العيش.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)