ما ودّعك صاحبك، لينا كريدية (لبنان)، رواية دار النهضة العربية للنشر

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأربعاء، ١ يوليو/ تموز ٢٠١٥
جريدة الحياة
سارة ضاهر


رواية لينا كريديه تواجه الانهيار العربي


«ما ودّعك صاحبك» (دار النهضة العربية) هو عنوان الرواية الثالثة للكاتبة اللبنانية لينا كريدية، وهو يبدو ملتبساً ومبتور الأطراف كسائق التاكسي الذي يظهر في مستهل الرواية، فاقد اليدين، حيث لا أصابع على المقود! ولعلها إشارة ربما إلى حال المجتمع العربي الذي يسير فاقد الحركة والإرادة والرؤية. وهي تختلف في أجوائها عن روايتيها السابقتين، بحيث تنطلق من المواطن الفرد للبحث في الراهن سياسياً، اجتماعياً واقتصادياً، وتطرح مسألة الانتماء سواء الديني أو المكاني، مستخدمة صيغة المتكلم التي تلغي الحدود بين الواقع والمتخيّل.

في روايتها السابقة «خان زاده»، تناولت كريديه بيروت بوجهيها القديم والحديث، من خلال ثلاث بطلات: «جيهان» الفتاة الجميلة، التي لا تزال تحيا وهم أيّام «غيفارا»، لكنها تعود رويداً رويداً إلى التعصّب والمذهبيّة، و «روعة» التي تعيش على هامش أسرة لا تهتمّ إلاّ بالمظاهر وتنصاع لأمّها وحماتها، و «راوية» امرأة على مشارف الخمسين، لا تعرف الوسط من الحلول، تختبر سلسلة إخفاقات، وتضيع هويتها بين عمّها «أسامة» الذي رافق «صحبة السوء» وعاش حياة الحرّيَة، وعمّتها خان زاده القدّيسة، التي طوت قصّتها ورحلت من دون أن تترك أثراً يذكر. هي رواية عن روح بيروت المسلوبة، التي كلّما سعت إلى الإنفتاح والحرّيّة، أضحى أهلها أكثر انغلاقاً على أنفسهم.

أما «نساء يوسف» فتناولت فيها الكاتبة تفاصيل حياة أسرة خليجية من خلال كشف الخادمة السوداء الضخمة «دادا نعيمة» لأسرار سيدتها «نوال» وللمجتمع النسائي الذي تنتمي إليه. وتسرد «الدادا» العائدة إلى أرضها السمراء بعد زمن من الخدمة لدى تلك العائلة حكايا مدهشة عن «يوسف»، إبن الستّ نوال، الهارب من أحلامه والتائه في حيوات نسائه.

في عملها الأخير «ما ودّعك صاحبك» تتخطى كريديه الروايتين السابقتين، من حيث مقاربة الموضوع، والدخول عميقاً في معاناة المواطن العربي عموماً. ومنها السعي إلى المال الذي، يرى البطل أنه لا يستحق هدر سنوات شباب لن ترجع، وتحمّل حنين موجع. ولا يستحق مفارقة أزقة الطفولة وديار الأهل والأصحاب. ولكن هل يدرك الشباب ذلك قبل فوات الأوان؟ لا أجوبة شافية في الرواية، وإن تخلّص البطل كليّاً من حالة الانبهار بالضخامة، ومن كل ما يمتّ إلى أفعل التفضيل بصلة.

جاء السرد مباشراً، سلساً، وغير مقيّد، قريباً من النفس المتقلبة، الساعية إلى الحرية والتغيير والهدوء. هذه هي حال البطل، الذي كلما اقترب من نفسه أكثر، ابتعد عن العالم من حوله، وسعى إلى مدن جديدة وعلاقات أخرى، ليدخل فضاء الرواية في جو من المقارنات، لا تنتهي، سواء على صعيد الشخصيات، أو الأمكنة، رغم الهدوء النسبي للأحداث. وهنا تكمن المفارقة.

الوالدان هما «هدى» و «سراج الدين». ويدخل الواقع ليلتبس بالمتخيّل من خلال ورود عائلة الكاتبة الحقيقية «كريديه» حين تصف والدها بأنه صلب وحقيقيّ، لا يحب السياسة لأنها نفاق – حسب رأيه – يركّز في عمله، وأولويّته عائلته. في حين أنّ ابنه البطل هو «أوس سراج الدين كريديه»، متردّد حائر خائف، هارب من كوابيسه وتائه وراء أحلامه.

مقارنة أخرى بين شخص «أوس» وعائلة حبيبته «دانية»، وهنّ ثلاث نساء فرقتهنّ سبل الهروب. «دانية» متخوفة من المستقبل، تهرب من حرمانها عطف الأبوّة إلى حلم العائلة السعيدة. «منى» مشحونة بغضب الماضي، تهرب من صورة إذلال أمها إلى تشييد إمبراطورية القوة. «ليلى» قابضة على جمر خيبتها، تهرب من فشل زواجها إلى حلم تزويج ابنتيها!

أما «أوس»، وسط هذه الحلقة النسائية، فتتأرجح علاقته بدانية بين الأمل والخوف. هي تأمل أن يكون الشريك في تأسيس العائلة الحلم وهو مثقل بأحلامه وكوابيسه وخوفه من الارتباط. فكانت النتيجة أن يتهرّب منها ولا يجابهها بموقفه، ليجسّد بذلك الأسباب الحقيقيّة وراء مأساة المواطن العربي، النامية على الخوف وتطويق المسكوت عنه أكثر فأكثر.

مقارنة من نوع آخر، وهذه المرة بين الأماكن التي زارها البطل، وزارتها الكاتبة في الحقيقة. كريديه الشغوفة دائماً بالبحث والتجربة، تخوض عبر بطلها مغامرة السفر من بلد إلى آخر، والسياق مقنع ومنطقي: فرصة عمل. بدءاً من «السعودية» حيث فخامة الأمكنة وهيبة الأبراج والأبنية التي تناطح السماء، تـخفـف وهـج الشمس الحـارقة، وتضفي شيئاً من الرهبة. مدينة اختارت الحداثـة وجهاً لها، الأعمال والاقتصاد، وثمّ السيارات الفخمة التي يـظلّل زجاجها السواد تعزّز هذا الشعور. وبـيـروت التي تربـى «أوس» في أزقتها الضيقة والقديمة، واعتاد الروائح المتصاعدة من محلاتها الصغيرة المنتشرة على جانبـي الطريق وهو يجتازها يومياً. ننتقل إلى «أربيل» وهي مديــنــة لها تاريخ عريق. ثم «بالي» ذات البيوت الصغيرة التي تخــتــبئ في اخضرار الطبيعة، أشجار باسقات ومتسلّقــات ونباتات... لا ناطحات سحاب ولا أبنية شاهقة ولا أبراج.

وفي ظل هذه المقارنات، تتسلسل الأحداث ويتقدّم الزمن، ويبقى الإنسان في حال عودة بالتاريخ إلى الوراء، يعيش واقعاً يسوده اللامنطق وفعل الحراك العكسي. تعرض الكاتبة لغيبوبة شعب لبنان، لا بل كلّ الشعوب العربية، حيث الجميع يغرق في بحر لامتناه من التقهقر والدمار وهم في غفلة ساهون، كل على طريقته. في لبنان يتعالى صوت المذهبية والطائفية وينشط الفساد على أشكاله وأنواعه؛ فينهش جسد الوطن المنهك بأبنائه. وليس العالم العربي أقلّ سوءاً من لبنان، فذاك بلد يحكمه «ديكتاتور» مجنون يمتصّ وعائلته وزبانيته خيراته، وذلك بلد تحكمه «مومياء» يرزح تحت سوء الإدارة والسرقة.

وتطرح الرواية الأزمة الحقيقية، وهي أزمة الشعب العربي وموقفه مما يحدث معه: هل نحن بشر أحياء؟ كيف نرضى بسجون تعذيب؟ كيف نرضى بقتل أو اعتقال أهل الرأي؟ كيف نرضى بمشاهدة السرقة والإذلال ولا يرفّ لنا جفن.

بدأت المطحنة بالعمل. تونس تكسر القيد. تونس الممسوكة بيدٍ من حديد تنفلت ويحاول جاهداً دكتاتورها أن يستعيد ما ظنّه قطيعه إلى الحظيرة، فزار البوعزيزي في المستشفى، لكنّ البوعزيزي مات ومات معه أمل الدكتاتور بإسكات الصوت الذي هدر. يعتذر ويعتذر ويعتذر ولكن، لات حين مندم. فالقيد قد انكسر والشعب يريد الحياة! زاد سعير النار وتأجّجها ولم تعد قابلة للانطفاء! وعام جديد يبدأ مختلفاً عن كل الأعوام. ثم مصر، ليبيا، اليمن، سورية...

تلك المطحنة لن تنتهي يوماً، ستهرس كل العابرين، وفي النهاية لن يحدث أي فرق، كل الأحداث المهولة ستكون يوماً ما صفحة في كتاب تاريخ، أو مقطعاً من بحثٍ على النت، لذلك لا شيء يهم.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)