ليلى ماحي 1932، ديديي بلوند (فرنسا)، تحقيق سيرة Laïlah Mahi 1932, Didier Blonde - Gallimard 2015

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأربعاء، ١٨ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٥
جريدة الحياة
باريس - أنطوان جوكي


ليلى ماحي روائية لبنانية مجهولة تكتشفها باريس


ما برح الكاتب الفرنسي ديديي بلوند، منذ تحقيقه في قدر نجمة السينما الصامتة سوزان غراندي التي سقطت كلياً من ذاكرتنا («حب بلا كلام»، ٢٠٠٩)، أو في قدر الغريقة المراهقة التي تسلّط وجهها على الكثير من الفنانين منذ مطلع القرن الماضي («مجهولة نهر السين»، ٢٠١٢)، أو في العناوين وأرقام الهاتف المذكورة في عدد من الروايات القديمة («مفكّرة»، ٢٠١٠)، يتتبع آثار الماضي وأشباحه، مستكشفاً ذلك الفاصل الهزيل بين واقع وخرافة، ومحاولاً مدّ جسور بينهما.

أثناء تنزّهه يوماً في مقبرة «بير لاشيز» الباريسية، اكتشف بلوند على شاهدة بورتريه فوتوغرافياً لامرأة يعلو رأسها وشاحٌ. بورتريه نقرأ تحته اسم «ليلى ماحي» وتاريخ ١٢ آب(أغسطس) ١٩٣٢. من هي تلك المرأة ذات الوجه الجميل والعينين الساحرتين، التي تمثل في الصورة بوضعية مغرية؟ خدعة فبركها السورّياليون وتركوها خلفهم؟ امرأة قاتلة من حقبة ما يسمّى «السنوات الجنونية» (العشرينات)؟ ممثّلة؟ موحية ألهمت فناني المحيط البوهيمي في زمنها؟ الأكيد هو أن الكاتب افتُتن بهذه الرؤية إلى حد قرر فيه فك لغزها.

وكان يمكن للتحقيق الذي قاده حولها، وصدر حديثاً عن دار «غاليمار»، أن يكون مثل تحقيقاته السابقة لولا أن الواقع لم يقاومه ويهزمه. فبعد بحثٍ مضنٍ على شبكة الإنترنت، في المكتبات العامة والخاصة، في الدوائر الرسمية، وباختصار في كل مكان يُحتمل أن يجد فيه معلومات تبدد ولو قليلاً الغموض الذي يلف هوية هذه المرأة، لم يعثر بلوند على أي شيء يشفي غليله ويريحه من هذا الهاجس الذي تسلّط عليه.

ولكن ما هو سر تلك الفتنة التي تمارسها هذه المرأة على كل من ينظر إلى صورتها؟ هل هو الألق السوداوي للشغف الذي يفوح منها؟ أم إشراقة الجنون التي تلمع في عمق عينيها المكحّلتين؟ أم تلك الابتسامة الساخرة الخفية التي لا تتراءى إلا لمن يحدّق ملياً في شفتيها؟

الشيء الوحيد الذي وصل إليه بلوند بعد سنوات من البحث والتقصّي هو أنه لم يكن الشخص الوحيد الذي وقع في شباكها، وأن ثمة أساطير كثيرة تدور حولها، يغذّيها عدد لا يحصى من المفتونين بها. ومن بين هؤلاء، صديق له اتّضح أنه يحتفظ بصورتها ويرى فيها صنواً لامرأة أحبّها حتى الجنون، وفنانة أميركية رسمت لها سلسلة بورتريات، وشخصاً التقى به صدفةً في مقبرة «بير لاشيز» وروى له واحدة من تلك الأساطير التي حيكت حولها، وتصوّرها كراقصة هندية بريطانية حضرت إلى باريس لتقديم رقصات دينية هندية على أحد مسارح المدينة، قبل أن يقتلها عشيقها لعدم وفائها له؛ من دون أن ننسى العجوز أندريه ب.، الذي يُعتبر مرجعاً في ميدان السينما الصامتة، وتعرّف إلى ليلى ماحي، ما أن نظر إلى صورتها، باعتبارها داينة زيركا التي عُرفت بـ «داينة الملوّنة» وخطّت مسيرة سينمائية مثيرة قبل أن تُقتل في حادث خلف مقود سيارتها.

ولكن، حتى حين ظنّ بلوند أنه عثر على عنوان المنزل الذي قطنته في باريس، ثم حين اكتشف أنها كاتبة نشرت روايتين: «على هامش السعادة» (١٩٢٩) و «الكاهنة العديمة الإله» (١٩٣١)، نجحت هذه «الأيقونة» في الإفلات منه. وفقط حين يئس من بحثه، استلم رسالة من بلدية الدائرة الخامسة في باريس كشفت له أن ليلى ماحي هي في الواقع لبنانية، عزباء، ولدت في بيروت عام ١٨٩٠، وتوفيت في عيادة «جوفروا سان هيلير» في باريس، في ١٢ آب ١٩٣٢.

وعلى خلاف جميع كتبه السابقة، يشكّل كتاب بلوند الجديد اعترافاً بفشلٍ وإقراراً بعدم إمكان هزم التواري، وبالتالي بعبثية السعي إلى إعادة إحياء الأموات. فبعد تكريسه سنوات طويلة لإعادة تشكيل هوية وحياة لنساءٍ يلفّهن الغموض، يتبيّن له في النهاية أن ثمة محرّكاً عميقاً لم يكن يعيه من قبل ودفعه إلى إجراء تحقيقاته هذه، وهو إبقاء أمواته على قيد الحياة، وخصوصاً والده الذي لم يشعر بإمكان التواصل معه إلا في اللحظات الأخيرة من حياته، ووالده الروحي، الكاتب والفيلسوف والناشر جان برتران بونتاليس الذي اختطفه الموت عام ٢٠١٣، ولطالما شجّعه على المثابرة في الكتابة. وما أن ينكشف هذا المحرّك له حتى يتوقف عن تغذية هاجسه بهوية ليلى ماحي، مبرراً قراره بأن الأموات يبقون أبداً صامتين. وفي هذا السياق، يقود تأمّلاً مثيراً حول الزمن العابر والامحاء التدريجي والحتمي للقصص والهويات.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو التالي: ألا يرى بلوند أن تأمّله هذا - على أهميته - يأتي على حساب الشخصية التي يحمل كتابه الأخير اسمها وصورتها؟ ففي اللحظة التي أصبح بإمكانه نبش حياة ليلى ماحي والتقدّم في بحثه، بعدما انكشفت له هويتها، يقرر بأنه وصل إلى نهاية هذا البحث ولم يعد من ضرورة لمعرفة المزيد عنها! أكثر من ذلك، نراه لا يتوقف إطلاقاً عند روايتيها ولا يستثمر مضمونهما، برغم تمكّنه من إثبات طابع السيرة الذاتية لهذين العملين! كما لو أنه كان يفضّل اكتشاف ممثّلة أو امرأة بسلوكٍ وحياةٍ أكثر شذوذاً، يتناسبان مع الصورة الفوتوغرافية المغرية التي بقيت من ليلى ماحي، وحين تبيّن له غير ذلك، انطفأ اهتمامه بها.

طبعاً، يمكننا تفهُّم أن موضوع كتابه يتركّز على سلطة الصورة في المطلق، ولكن حين يصنّف هذا الكتاب كتحقيق أدبي ويركّز في سرده على وصف المراحل والمصاعب التي عبرها في هذا التحقيق، لا يعود بإمكانه إهمال مضمون روايتَي ليلى ماحي وإبقاؤها سجينة صورتها الفوتوغرافية التي فتنته وتسلّطت عليه.

وبالتالي، نعتبر أن نصّ بلوند - الذي لا يتجاوز ١١٠ صفحات - بقي على سطح موضوعه ولم يفكّ لغز ليلى ماحي. ولذلك، لا بد لغيره من متابعة التحقيق.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)