ليس لهافانا رب يحميها، ياسمينة خضرا (الجزائر)، رواية ترجمة - دار هاشيت انطوان (نوفل) - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة الأيام الفلسطينية


موقع جريدة الأيام الفلسطينية
السبت 11-12-2018
الأيام - أدب وفن
كتبت بديعة زيدان


"ليس لهافانا رب يحميها" لياسمينة خضرا .. معزوفة أدبية متأنقة تنتصر للإنسانية والحياة


فجأة ينتقل خوان ديل مونتي خونافا الملقب بـ"دون فويغو" (سيد النار) من صفوف نجوم الغناء لينضم إلى قائمة العاطلين عن العمل، هو الذي كان يلهب بأغنياته الملاهي والحانات، سائراً على درب والدته الملقبة بـ"الحورية الصهباء"، المنشدة في جوقة الغناء، وهي التي أرضعته الموسيقى مختلطاً بحليبها.

كل ذلك ليس إلا أنه تم بيع ملهى “بوينا فيستا”، الذي كان يغني فيه كما مشاهير الغناء، بعد قرارات الخصخصة التي أصدرها الحزب الحاكم في العاصمة الكوبية هافانا، فينتقل للعيش في بيت شقيقته التي تكبره سناً، ليبدأ صاحب الصوت المخملي والتسعة وخمسين عاماً رحلة البحث عن عمل جديد.

هكذا صيغت حبكة الرواية الجديدة لياسمينة خضرا، الصادر عن دار هاشيت انطوان (نوفل) في بيروت مترجمة عن الفرنسية، وتحمل عنوان “ليس لهافانا رب يحميها”.

قبل ما يزيد على العشرة أعوام، قررّ الروائي الجزائري ياسمينة خضرا مفاجأة مزدوجة الكشف المدوّي في الساحة الأدبية الجزائرية والفرنسية خاصة، والعالمية عامة، حين أعلن أنه ليس امرأة، وإنما كاتب رجل، اسمه الحقيقي محمد مولسهول، من مواليد العام 1955 في ولاية بشار الجزائرية.

وكان والد محمد مولسهول ضابطاً في جيش التحرير الوطني أثناء الحرب ضد الاحتلال الفرنسي ثم في صفوف الجيش الوطني الشعبي بعد استقلال الجزائر فيما والدته بدوية، وفي عمر التاسعة التحق بمدرسة أشبال الثورة بتلمسان بالغرب الجزائري، وهي مدرسة تديرها وزارة الدفاع الوطني الجزائرية، والحياة فيها شبه عسكرية، وتخرج منها متحصلاً على الباكالوريا (الثانوية العامة) في العام 1974 للالتحاق بالأكاديمية العسكرية لمختلف الأسلحة التي تخرج منها برتبة ملازم العام 1976 ثم التحق بالقوات المحمولة جوّاً.

خلال فترة عمله في الجيش قام بإصدار روايات موقعة باسمه الحقيقي. وفي العام 2000 وبعد 36 عاماً من الخدمة قرر ياسمينة خضرا اعتزال الحياة العسكرية والتفرغ للكتابة، واستقر لاحقاً مع أسرته في فرنسا.

في العام التالي نشر روايته “الكاتب” التي أفصح فيها عن هويته الحقيقية وتليها “دجال الكلمات”، وهو كتاب يبرر فيه مسيرته المهنية.

وتبلغ شهرته حد العالمية حيث تترجم وتباع كتبه في 25 دولة حول العالم، فيما تتطرق أفكار ياسمينة خضرا إلى مواضيع تهز أفكار الغربيين عن العالم العربي، حيث ينتقد الحماقات البشرية وثقافة العنف، ويتحدث عن جمال وسحر وطنه الأم الجزائر، ولكن أيضاً عن الجنون الذي يكتسح كل مكان بفضل الخوف وبيع الضمائر متذرعاً بالدين ومخلفاً وراءه حماماتٍ من الدم.

وكان ثاني سرّ باح فيه أنه كان ضابطا عسكريا في الجيش الجزائري خلال فترة “العشرية الحمراء”، وهو الاسم الذي أطلق على فترة التناحر بين الجيش والجماعات المسلحة، وأعلن الضابط حينها عن “غيرته” الكبيرة من الحياة العادية التي يعيشها الكتّاب من سفر وكتابة وشهرة وتوقيع كتبهم للجمهور فيما يعجز هو عن تسلم جائزة نالها.. فقط لأنه كاتب كان قدره التخفي.

يختار محمد مولسهول اسم زوجته “يامينة خضرا” التي عبّرت له قائلة: “أعطيتني اسمك مدى الحياة وأنا أعطيك اسمي للخلود!”، إلا أن ناشره الفرنسي اقترح إضافة حرف السين، فأصبح الاسم نهائياً “ياسمينة خضرا”، عرفاناً بجميل زوجته من صبر ودعم، وتقديراً للمرأة بشكل عام.
وتمسّك الكاتب بهذه الكنية حتى بعد تخليه عن رتبة ضابط، وكشفه هويته الحقيقية، وبعد قرابة 36 عاما في صفوف الجيش يغادر الجيش ليكرّس بقية حياته للأدب والكتابة كقرار نهائي لا رجعة عنه.

وبالعودة إلى رواية “ليس لهافانا رب يحميها”، فياسمينة خضرا، ومن خلال حكاية “خوان”، يسلط الضوء بعدسة مكبّرة، وبطريقة إبداعية تتعمد اللاتعقيد، التحوّلات التي طرأت على المجتمع الكوبي، وفي العاصمة هافانا، على وجه الخصوص.

“خوان” هو الراوي الذي يحكي لنا قصته، فيعود لطفولته تارة ولشبابه تارة أخرى وحكاياته في الجامعة وزواجه الذي لم يدم طويلاً بعد أن أنجب ابناً وابنة، إلا أن زوجته، وبسبب تعلقه بالغناء والموسيقى، طلبت الطلاق وأخذت ابنتها وتزوجت من رجل آخر، وبقي هو وابنه يعيشان مع شقيقته.

ولم تكن علاقته طبيعية بعائلته، فابنته لا تتقبله وابنه يعيش مع نفسه، ولا أي تواصل بينهما، فيما طليقته وبعد زواجها بآخر تعيش بعيداً عنه.. له صديق موسيقى هو “بانشيتو”، الذي تصلب قلبه بسبب إخفاقاته المتتالية، فعندما مات كلبه رغم تعلقه به لم يظهر أي تأثر، إلا أن جميع سكان الحي سمعوه يعزف مقطوعة الحزن وكانت من أجمل الموسيقى.

تنقلب حياة الراوي بمجيء فتاة تدعى “مانسي” إلى هافانا بحثاً عن العمل.. ظهور هذه الفتاة التي التقاها “دون فويغو” (خوان) في محطّة القطارات المهجورة يسرقه من حياته ليقع في حبها غير عابئ بفارق السنوات بينهما، فهي عشرينية هاربة من أهلها وفقرهم، وجغرافيتهم المهملة البعيدة، يحميها ويحبها ويعالجها نفسياً، دون أن يعرف قصتها وما وراء هروبها من أهلها.

يبحث خوان طوال الوقت عن عمل جديد في ملاهي المدينة ويحاول استعادة علاقاته شبه المقطوعة بأصدقائه القدامى لعله يعثر عندهم أو من خلالهم على عمل يعيل به نفسه ومحبوبته الجديدة، فيصطحبها ذات مرة، إلى حفلة “راقية”، يحضرها نخبة من “صفوة المجتمع” ورجالاته .. أحد هؤلاء يحاول التحرش خارج الحفل فتقتله، وهنا تبدأ حكاية هروب جديدة في حياة هذه الفتاة الغامضة، لدرجة أنها تهرب من خوان نفسه، بل إنها، وبعد أن يحاول منعها من الهرب أو إلقاء نفسها في البحر، تضربه عدة طعنات بالسكين. كادت تودي بحياته.

“في المستشفى، أطلقوا عليّ لقب الناجي بأعجوبة.. أنقذتني دورية شرطة وجدتني ممدداً على قارعة الطريق.

فقدت الكثير من دمي.. رصد فريق الطوارئ جروحاً عديدة وخطيرة، وإصابة بالغة في إحدى كليتيّ.

بقيت مدة ست ساعات متواصلة في غرفة العمليات، وكاد قلبي الضعيف يتوقف عن الخفقان. بعد أسبوعين من الغيبوبة، رجعت إلى الحياة.

كان بانشيتو يجلس قرب سريري. هو الذي أبلغ الممرضة حالما فتحت عينيّ. خلال الأيام الأولى من قيامتي، كنت أجد صعوبة في التعرف إلى الوجوه المشوشة والمعالم التي كانت تطل عليّ. كنت أحس بصقيع دائم، وأرتعد لأدنى حركة كما لو مسّني تيّار كهربائي”.

وجاء في وصف الرواية على غلافها الخلفي: نظام كاسترو يتقهقر، ودون فويغو لا يزال يغنّي في كباريهات هافانا. لطالما ألهب صوته الذهبيّ الجماهير وغذّى شعلة الأمل في القلوب. لكنّ كلّ شيء من حوله تغيّر. لقد آن الأوان لينحني سيّد الرومبا أمام تبدّلات الزمن... في عزلته الباردة، يلتقي دون فويغو صهباء ساحرة دافئة كاللّهب، ما ينسي اليافعة، حبّ حياته. لكنّ الغموض الذي يحيط بتلك الفاتنة يهدّد عشقهما شبه المستحيل. الزمن... هذا ما يُغرق خضرا في تأمّله، نوستالجيا السنوات الضائعة، الشباب الهارب، الأيّام التي تمضي من غير عودة/ وتعويذتنا لمواجهته: تلك البهجة حين نغنّي، حين نرقص، وحين نؤمن بسعادة ستأتي لا محالة.. “ليس لهافانا ربّ يحميها” هي رحلة كلّ الرحلات إلى بلاد التناقضات والمفارقات والأحلام والوعود. هي أنشودةٌ مهداة إلى كلّ مصيرٍ واعدٍ ولو عاندته الأقدار، وإلى كلّ حبٍّ خالد ولو عاش في الذكريات.

وفي الوقت الذي كانت تعيش فيه هافانا حرائق كثيرة غير مرئية كما حال دواخل “دون فويغو”، وبينما استسلمت المدينة ربما لقدرها، يعود هو إلى الغناء مجدداً، وتبلع شهرته أقصاها بفعل القصيدة التي كتبتها له “مانسي”، الفتاة الغامضة التي أحبته كما تحب الشعر، وكادت تقتله حين منعها عن قتلها لنفسها.
في الرواية التي يبدع فيها ياسمينة خضرا معزوفة أدبية فائقة الجمال، متأنقة دون تكلف أو بهرجة زائدة، أنيقة حد الإبهار، يجرنا إلى الإبحار معه في رحلته نحو الانتصار للإنسانية وللحياة رغم روائح الموت البطيء التي تحيط بنا كما بـ"خوان" أو “دون فويغو”، الذي لربما كان يمثل صاحب الرواية نفسه، أو الكثيرين من قرائه أو من غير قارئيه، حين قال ذات صفحة، بل ذات عبارات .. “كان بانشيتو يقول: من يحلم كثيراً ينسى أن يعيش. أما أنا فإنني حلمي مجسّد، ومع ذلك، فأنا أعبّ الحياة عبّاً حتى آخر قطرة (...) ليس على العالم أن يكون مثالياً إلى حد الكمال، وإنما يتعين علينا نحن أن نجد له معنى يساعدنا على بلوغ شيء من السعادة. حتماً، ثمة سبيل للخروج من كل مأزق. يكفي الإيمان بذلك. وأنا أومن بذلك. أرعى التفاؤل كما أرعى أي وردة في بستاني”.

عن موقع جريدة الأيام الفلسطينية

شروط الاستخدام

يشير البند السادس من شروط الاستخدام بأنه لا يحق للمستخدم نسخ المادة الموجودة على الموقع أو إعادة إنتاجها أو نشرها أو إذاعتها أو استغلالها بأي طريقة مهما كانت من دون ذكر الموقع والاشارة الى الموقع كمصدر لهذه المواد بوضوح، وفي حال تم التعديل بالحذف والإضافة والتحليل يجب الإشارة إلى موقع “الأيام” كمرجع للمادة التحليلية، ويستثنى من ذلك أغراض الاستعمال الشخصي غير التجاري. لقراءة المزيد عن شروط الاستخدام.

جريدة الأيام يومية سياسية تصدر عن شركة مؤسسة الأيام للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)