Article de presse - مقال صحفي

لقاء مع الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ في صالون الكتاب الفرنكوفوني في بيروت Rencontre avec la romancière libanaise Hanan el-Cheikh

, بقلم محمد بكري


الأحد، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2011
جريدة الحياة
بيروت - مايا الحاج

الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ

هي اليوم في بيروت. سعيدة بالمدينة التي هجرتها قسراً. سعادتها تبدو مرسومة في عينيها العميقتين. هي فرصة لها أن تلتقي الزملاء ورفاق الدرب في مهرجان ثقافي كبير «صالون الكتاب الفرنكوفوني». وفرصة لنا أيضاً أن نلتقي الكاتبة المثيرة للجدل في ما قالت وكتبت.

الروائية الجريئة حنان الشيخ تعود إلى الواجهة لتُثير الجدل مرّة أخرى بعد ضجة «حكايتي شرح يطول». وهذه المرّة عبر إعادة كتابة «ألف ليلة وليلة»، أكثر الكتب الإشكالية روائياً وفكرياً وثقافياً في تاريخ الأدب العربي والعالمي. كانت صاحبة «حكاية زهرة» في هذا اللقاء كما عرفناها دائماً في كلّ كتاباتها. صادقة، واضحة، شفافة كالماء. تسيل كلماتها بعذوبة من دون تردّد أو حَرَج. جلست بعفوية. ضحكت وأدمعت. تحدّثت بإسهاب عن همومها الفكرية والثقافية وعن أدبها وأسرار عائلتها وآرائها الوطنية، وعن جديدها «صاحبة الدار شهرزاد».

 الحرب والثورات العربية

حنان الشيخ : مجرمو الحرب طردوني من وطني... والثورات العربية جعلتني أندم

> تُشاركين كضيف شرف في صالون الكتاب الفرنكوفوني في بيروت، الذي استوحى عنوان دورته الحالية «كلمات الحريّة» من أحداث الربيع العربي. كيف قرأت الثورات العربية من منفاك الاختياري لندن؟

 عندما شاهدت الشباب يثور مطلع هذا العام في تونس، لمت نفسي وتساءلت عن السبب الذي منعني ومنع الشباب اللبناني قبل 36 عاماً من القيام بمثل هذه الثورة. لماذا هاجرنا وتركنا وطننا يتقاسمه مجرمو الحرب؟ لماذا أعطيناهم الفرصة لأن يقولوا هم الكلمة الأخيرة؟ لماذا لم أشارك ونساء الحيّ الذي كنت أقطن فيه ولو بتظاهرة واحدة قد تُغيّر مجرى الأحداث؟ لماذا لم نقل كلمة «لا» و «كفى»؟ لمت نفسي كثيراً. شعرت بأنني هربت وتركت وطني يتمزّق ويتألّم. أحسست بعجزي وذنبي لأنني تخاذلت عن نُصرة وطني وهو ينزف. علّمني الربيع العربي أنّ الشعب أقوى من أي حاكم ومتغطرس. علّمني أنّ لا وجود للمُستحيل. من هؤلاء الشباب والنسوة والأطفال تعلّمت أنّ كلمة الشعب وإرادته فوق أيّ شيء.

> هجرت وطنك في الحرب. والحرب انتهت منذ سنوات... ألم يحن موعد العودة؟

 أشتاق إلى لبنان. والشوق يؤلمني أحياناً. أنا اليوم سعيدة لأنني موجودة في بيروت كمُشاركة في فاعليات مهرجان ثقافي مهم. للأسف زياراتي باتت قليلة وخاطفة. ولا أدري ما إذا كنت سأعود أم لا. ولكني أعرف أنني أشعر بالحنين الدائم إلى هواء لبنان وترابه. عندما أتيت السنة الماضية مع زوجي إلى لبنان، كنت أقف على الشرفة وإذا بنسمة هواء تلفح وجهي. صرخت. سألني زوجي عمّا أصابني فقلت له إنّها النسمة نفسها، الهواء نفسه الذي كان يلامس وجهي في طفولتي ومطلع شبابي. تحسّرت على هذا الشعور الجميل. ارتفع صوتي وقلت لزوجي إنّهم طردوني من وطني. ابتسم وأجابني بأنّي أنا من خاف وجبن وترك لبنان في الوقت الذي بقيت عائلات أخرى تُعاني من ويلات الحرب. غصّت الكلمات في حنجرتي وأخبرته أنّ القَتَلَى هم الذين اختلقوا الحرب ليطردونا ويبقى لهم لبنانهم يُقسمّوه كما يشاؤون.

> هل الكلمة قادرة على أن تصنع حريّة؟

 حتماً. والتجربة حيّة أمامنا. القصّة بدأت بكلمة. الشباب التونسي لم يستخدم رصاصة بل كانت الكلمة سلاحه الوحيد. لقد تبادلوا الرسائل القصيرة ووضعوا شعاراتهم على الـ «فايسبوك» واتفقوا ثمّ تظاهروا. وها قد أتى التغيير بقوّة الكلمة وليس السلاح. ما حصل في تونس ومصر وليبيا وغيرها من الدول العربية إنجاز كبير لم يسبق أن حصل حتى في أكثر الدول الأوروبية تقدّماً. أن تسقط أنظمة وزعماء وتُلغى قوانين وتُعدّل دساتير عبر تظاهرات شبابية سلمية لا تحمل سوى الكلمات الحقيقية والشعارات اللاذعة أمر في غاية الأهمية. إنه درس كبير للإنسانية جمعاء. والشباب في الغرب انتبه جيداً إلى ما حصل في الدول العربية وبدأ يتعلّم من تجربة الشباب العربي بدليل أنهم بدأوا يتظاهرون في بريطانيا وإسبانيا والصين وفي كلّ مكان. الثورات الشبابية عدوى تنتقل في زماننا بسرعة الضوء من بقعة إلى أخرى.

> هل أثّرت بك نهاية الحكّام المتسلطين العرب؟

 الشباب العربي حاربهم بالشغف وحبّ الحياة بعزّة وكرامة. قلبهم كان سلاحهم. وأعتقد أنهم نجحوا في ما أرادوه. هناك من يعتقد أنّ التغيير يُمكن أن يؤدي للأسوأ ولكن كيف يُمكن أن نعرف ما الذي ينتظرنا ونحن نلتزم أماكننا من دون أن نُحرّك ساكناً. هل نقبل بالظلم خوفاً من المجهول؟ وهل ثمة ما هو أسوأ من الأوضاع التي كانت تعيشها هذه الشعوب؟ إنّ المصير الذي لاقاه الزعماء العرب هم الذين قرّروه لأنفسهم. ماذا يعني أن يحكم فرد شعباً كاملاً ما يُقارب نصف قرن؟ وماذا ينتظر من يقبع في الحكم ثلاثين وأربعين عاماً والبلاد تغرق في القمع والفقر والجهل؟ شعبه لن يُكرّمه في النهاية ولن يموت طبعاً ميتة الأبطال. هؤلاء الأشخاص عاشوا جنون العظمة ونسوا الحياة بصورتها الطبيعة، تجاهلوا دورة الكواكب ووجود الشمس والقمر واعتقدوا أنّ كلّ شيء يدور في فلكهم وأنّهم سيبقون إلى الأبد. وهذه الكذبة التي صدّقوها هي التي أودت بهم إلى هذه النهايات المخذية.

 شهرزاد بعين جديدة

> في كتابك الجديد «صاحبة الدار شهرزاد» الذي يصدر قريباً عن دار «الآداب» تُعيدين بطلة «ألف ليلة وليلة» الشهيرة إلى الواجهة. هل أردت إصدار مُحاكمة جديدة لشهرزاد؟

 في الحقيقة لم أقرأ يوماً كتاب «ألف ليلة وليلة» من ألفه إلى يائه. كنت قد قرأت بعضاً من قصصه المجموعة في أجزاء مختلفة. قراءتي القصصَ لم تكن أبداً متّصلة ومتسلسلة. الكتاب يتضمن ألفي صفحة وهذا ليس بقليل. كما أننا كنّا نقرأ في صغرنا قصصاً معينة من ألف ليلة وليلة مثل «علي بابا والأربعون حرامي» و «سندباد»، وإنما ليس كما وردتا في الكتاب الأصلي، بل بطريقة مُجتزأة موجّهة للأطفال. كانت مغامراتهما ورحلاتهما مُصغّرة لتناسب سنّنا وعقلنا. ولكن بعد انتشار رواياتي في الغرب وترجمتها إلى لغات أجنبية، بدأت الصحف الغربية تهتم بي وبأدبي وصاروا يصفونني بـ «شهرزاد الجديدة» أو «شهرزاد المعاصرة». والمعروف أنّ شهرزاد هي الشخصية الشرقية الأكثر تأثيراً في الذاكرة الغربية. حينها، كنت أنزعج من التسمية لأنّ شهرزاد بالنسبة إلينا، نحن الذين لم نقرأها بتعمّق، ليست إلّا نموذجاً مُستهلكاً عن المرأة التي تُساير الرجل حتى يرضى عنها وتفلت من عقابه. لقب «شهرزاد الجديدة» دفعني لاقتناء الكتاب كاملاً بالعربية والتعرّف إلى هذه الشخصية عن كثب. صرت أراها في شكل مختلف. فهمتها أكثر. عرفت سرّ جاذبيتها. فُتنت بالكتاب. عرفت مصدر الكثير من التسميات والكلمات والحِكم في عالمنا العربي مثل «ذات السواهي الدواهي» وقصة الإعرابي الشهيرة وغيرها. لم أكن أعرف تفاصيل قصة شاه زمان وأخيه شهريار اللذين تعرّضا للخيانة حتى قرّر الأخير القضاء على كلّ النساء انتقاماً لرجولته. أمّا شهرزاد فهي كانت المرأة الجريئة التي طلبت من والدها أن يأخذها إليه لتُنقذ كلّ السيدات المُعرّضات للموت ولإنقاذ الملك نفسه من عقدته التي سببتها له امرأة ولتكشف له أسباب تلك الخيانة أيضاً. هكذا فهمت ماهية شهرزاد وأحببت قوتها وفطنتها وسحرها.

> وكيف وردتك فكرة إعادة كتابة «ألف ليلة وليلة»؟ وما الهدف من ورائها؟

 في الفترة التي قرّرت فيها التفرّغ لقراءة «ألف ليلة وليلة»، أنجزت قراءة أوّل خمسمئة صفحة من الكتاب. فكرت في كتابة شيء ما مُستوحى من هذه الأجواء. ولكنني كتبت بعدها «امرأتان على شاطئ البحر» و «حكايتي شرح يطول» ولم أصدر أي كتاب عن شهرزاد كما كان يجول في خاطري، إلى أن اتّصل بي مخرج إنكليزي يُدعى تيم سابل، يُشبّه ببيتر بروك، يهتمّ بتقديم مسرحيات عالمية. كان قد قدّم مسرحية من «ليلة صيف» لوليام شكسبير بنسخة هندية. سافر إلى الهند واختار ممثلين وموسيقيين من هناك وجعل مسرحيته ناطقة بخمس لغات هندية ومن ثم أتى بها إلى بريطانيا وقال لهم «تفضّلوا هذا هو شكسبير، يجب أن يكون عالمياً». وهذا ما فعله تماماً في «ألف ليلة وليلة». أراد أن يُحقق حلمه القديم بتقديم مسرحية تنقل الأجواء الشرقية الحقيقية التي تعرضها ألف ليلة. وقد اختارني شخصياً لأنه يعرفني ككاتبة عربية تعيش في لندن. وقد اتّصل بي قبل سنوات بعد قراءته رواية «إنّها لندن يا عزيزي» لأنّه أراد وزوجته المخرجة تحويلها فيلماً سينمائياً وهاتفني ليسألني عمّا إذا كنت أوافق على الفكرة أم لا. فوافقت طبعاً إلّا أنّه لم يستطع أن يؤمن إنتاجاً لتحويل الرواية إلى فيلم. ولكنني بقيت في باله دائماً خصوصاً أننا كنّا نلتقي أحياناً في المناسبات الثقافية والسينمائية. وفي الوقت الذي كان يُفكّر فيه بمَسرحة «ألف ليلة وليلة»، اطلع تيم على مُحاضرة قدّمتها بعنوان «شهرزاد الجديدة»، عرضت فيها مُقاربة بين شخصية شهرزاد والشخصيات النسائية التي عرفتها في حياتي من أمّي إلى صديقاتها وقريباتي وصديقاتي. عندها اتصل بي وأخبرني عن نيته التعاون معي لتنفيذ عمل مسرحي يحكي قصص ألف ليلة وليلة باللغة العربية. وبدأنا بعملية اختيار القصص لأنّ المعلوم أنّ «ألف ليلة وليلة» بحر من الحكايا التي يصعب الاختيار في ما بينها. وقدّمنا المسرحية التي شارك في بطولتها ممثلون من سورية ومصر والجزائر والمغرب وممثلة واحدة من إيران على مسرح تورونتو في كندا ولاقت نجاحاً كبيراً. وكانت المسرحية نجمة مهرجان «إدنبرة» الذي يحتفي أولاً بالمسرح الإنكليزي. وبعدها أتت فكرة الكتاب الجديد «صاحبة الدار شهرزاد».

> هل حافظت في «صاحبة الدار» على البنية الدائرية لـ «ألف ليلة وليلة» وعلى تقنية توالد الحكايات، كلّ حكاية من الأخرى؟

 حافظت طبعاً على البنية الدائرية ولم أغيّر في التقنية وإنما في حيثيات بعض الشخصيات والأحداث. عندما فكرت في تنفيذ كتاب «صاحبة الدار، شهرزاد» وقعت أيضاً في حيرة لدى اختيار النصوص. فقرّرت أن أبدأ من قصة شهريار وشاه زمان، ثمّ أتبعتها بالقصة الأولى «الصيّاد والعفريت». وارتأيت أن أبدأ بهذا النصّ لأنّ في خطاب الصيّاد توسّلاً مباشراً للعفريت، وهذا التوسّل يُترجم حال شهرزاد في الليلة الأولى: «أرجوك اعفني. احمني. لا تقتلني». فوجدتها تستحق أن تكون القصة التمهيدية التي منها تتوالد القصص الأخرى. إلّا أنني جعلت للصياد أخاً يُدعى «الحمّال» وارتأيت مثل هذه الإضافة للمحافظة على تسلسل الأحداث بين القصص المُنتقاة من الكتاب - العملاق «ألف ليلة وليلة».

> المساس بـ «ألف ليلة» عمل ليس سهلاً، بل هو خطر خصوصاً أنّه كتاب إشكالي روائياً وفكرياً وثقافياً. كيف تجرأت على إعادة تقديم كتاب راسخ في الذاكرة الاجتماعية إلى هذا الحدّ؟

 في البداية خفت كثيراً من هذه الخطوة. التغيير أرعبني. ولكنني قرأت تاريخ ألف ليلة وليلة ووجدت أنّه عُرضة دائمة للتغيير والتعديل. «الحكواتي» الذي كان يقف لسرد قصص ألف ليلة على الرجال المجتمعين في مكان ما، كان يتدخّل ويُغيّر بعض الأحداث وحتى النهايات وفقاً لرغبة المستمعين وانفعالاتهم. وأنا أفكر أحياناً كيف يُمكن كتاباً مضى عليه ما يُقارب ألف سنة ولا يزال حيّاً فينا إلى هذه الدرجة، ما سرّ هذا الإرث الفكري المتجسّد في ألف ليلة؟ ولكنني وصلت إلى يقين بأنّ حياة هذا الكتاب الخطير مُستمدّة من القصص المُتسلسلة التي لا تريد أن تنتهي أبداً، لا تريد أن تموت.

> ما سرّ بقاء «ألف ليلة وليلة»؟

 لماذا بقيت؟ لأنّها ببساطة تتكلّم عن الإنسان. عن الإنسانية. عن كلّ مقوّمات الحياة من الولادة إلى الموت. في قصص «ألــــف ليلة وليلــة» نقرأ أحياناً أنّ فلاناً وفلانة تزوجا وفرحا إلّا أنّ «هادم اللذّات» أتى. إذاً هناك تذكير دائم للإنسان بأنّ ثـــمـــة نهاية تنتظره. «ألف ليلة وليلة» أراها كأعجــــوبة. الإنســــان أوجدها لحاجته إليها. روى هذه الحكايات كلّها ليكتشف ذاته. ليفهم فلسفة الحياة. ليُحدّد عالمه هو.

> هل اعتمدت في «صاحبة الدار شهرزاد» النصوص نفسها التي كتبتها للمسرحية؟

 نعم، كتبت هذا الكتاب كما كتبته للمسرح، بمعنى نصوص. لأنّ المخرج لم يطلـــب منــي أساساً أن أكتب له نصّاً مسرحياً بل نصوصاً أدبية تحمل صوتي وأسلوبي ليستوحي منها ما يُريده للمسرحية.

> موقفك هذا يتناقض تماماً وموقف الشاعرة جمانة حدّاد التي كتبت في «هكذا قتلت شهرزاد» أنّ هذه الأخيرة تبعث برسالة مُشوّهة ومؤذية إلى النساء بحيث تقول لهنّ: «سايرن الرجل، امنحنه ما تملكن، وما يشتهي، وسوف يدعكنّ وشأنكنّ»...

 كنت في صغري أتساءل لماذا لم تُسمّم شهرزاد شهريار وتتخلّص من جبروته بدل أن تُنهك نفسها بقراءة القصص يوماً بعد يوم والسيف يلتمع فوق رقبتها. ولكن بعد التعمّق في كوامن هذه الشخصية الغنية وأسرارها اكتشفت عظمتها وتضامنت معها. هي الجريئة التي ذهبت إلى شهريار بنفسها واختارت ما تريد فعله بإرادتها. هي الذكية التي أرادت أن تُخلّص النساء من سيفه. هي الإنسانة التي حاولت تغيير صورة المرأة الماكرة والخائنة التي رسمها شهريار في ذهنه. وهي القاصّة الموهوبة التي علّقت الملك في شباكها. شهرزاد امرأة غير عادية وغير تقليدية. نجحت في تحقيق كلّ أهدافها وعرفت كيف تُعيد شهريار إلى إنسانيته. وماذا نُريد نحن النساء غير ذلك؟ هدفنا ليس الصراخ بملء حناجرنا «نحن ضدّ الرجل، فليسقط الرجل!». جلّ ما تريده المرأة أن تُغيّر بعض مواقف الرجل منها وتجعله في صفها، وهذا ما نجحت فيه شهرزاد. علّمت شهريار أنّ الحبّ والجنس لا ينفصلان وأنّ العدالة والرحمة لا يفترقان، علّمته معنى الجمال والأمل والحلم والحنان في عالم لا يخلو من القبح والقسوة والسوداوية والعنف.

 حكايتي شرح يطول

> روايتك «حكايتي شرح يطول» التي تكتبين فيها سيرة أمّك كاملة أحدثت صدمة ولقيت نجاحاً في ترجماتها إلى لغات عدّة. هل سعيت في هذا الكتاب إلى ما يُسمّى القتل الأوديبي، معكوساً للأم؟

 لست أنا من سعى إلى هذا الكتاب. أمّي كانت تريدني أن أسمعها. أن أكتب عنها. وكنت غالباً ما أجيبها بفتور: «أعرف قصتك يا أمّي. أحببت شاباً اسمه محمد وتركتنا لأجله ومن ثمّ تزوجته وأسست معه عائلة جديدة». كنت أتحاشى سماع قصتها إلى أن أخبرتني مرّة أنّ أحدهم قرأ لها رواية «حكاية زهرة»، وفَهِمَت أنّها هي المقصودة وقالت: «غلبتني خشبة ورصاصة صغيرة، لو كنت أعرف الكتابة لكتبت قصتي وأوضحت لك كلّ ما لا تعرفينه». شعرت عندها كم أصبحت أمّي كبيرة وأحسست بحرقتها وقرّرت أن أسمع لها لأكتب ما تريد هي أن تقوله. قالت لي إنّها شاهدتني مرّة في إحدى حواراتي القديمة على شاشة التلفزيون أتحدّث عن طفولتي وكيف تركتنا أمّي لتهرب مع حبيبها وتتزوجه، فسألتني هل ذكرت لهم لماذا تركتكم أمكم؟ هل قلت لهم في أيّ سنّ زُوّجت أمّك؟ عندها سألتها متى تُريد أن نبدأ فأجابتني بلهجتها الجنوبية الظريفة «إسّه إسّه» أي الآن. عندها وقفت أمّي وصدحت بجملة أدهشتني: «حكايتي شرحٌ يطول، لو ما جرادة ما علق عصفور». والدتي هي التي روت القصة ووضعت العنوان من دون أن تدري. كُثُر سألوني عما إذا كنت فعلاً سامحت والدتي التي تركتني وأنا في السادسة من عمري لتعيش حياتها مع من اختاره قلبها. وأنا بعد هذا الكتاب لم أشعر بأنني قتلت والدتي بتعريتها أمام القرّاء بل شعرت بأنني أنا التي ولدتها وأعطيتها الحياة. أعتقد أنني رددت لوالدتي اعتبارها بعدما ظُلمت كثيراً.

> هل حاولت في هذه الرواية تصفية حسابك مع العائلة والأم من أجل التحرّر من قيود الماضي؟

 طبعاً. فأنا لم أتربَّ في ظلّ عائلة نموذجية. ولم يكن لديّ المفهوم المعروف عن العائلة. ولم أفهم معنى البنوّة والأمومة إلّا بعدما تزوجّت وأنجبت وأصبحت أمّاً. وكتاب أمّي قرّبني منها أكثر وقد يكون حرّرني من قيود الماضي.

> هناك مآخذ على تقديم «حكايتي شرح يطول» كرواية وهي ليست إلّا سيرة كتبتها بلسان والدتك؟

 استغربت ذلك أنا أيضاً، ولكن دار النشر ارتأت تقديمه على أساس أنّه رواية وليس أنا.

> تُركّز الدور الغربية على الطابع الإكزوتيكي الذي تحمله الروايات العربية لئلا نقول الطابع الفضائحي والأمثلة كثيرة ولا حاجة أن نذكرها. هل انطبق هذا المعيار أيضاً على «حكايتي شرح يطول» التي تُرجمت إلى أكثر من 20 لغة ولاقت نجاحاً كبيراً؟

 لا أبداً. فالروايات والكتب العربية التي تصدر كثيرة جداً ومنسوب الجرأة فيها ليس بقليل أيضاً. ولكن «حكايتي شرح يطول» كان لها نصيب من النجاح والانتشار والترجمات والجوائز لأسباب عدّة. أولاً، أنا صرت كاتبة مقروءة نوعاً ما في الغرب، وهم أرادوا أن يتعرّفوا إلى سيرة أمّي التي لم يُصدّقوا أنها كانت أميّة وأنجبت كاتبة معروفة. هذا إضافة إلى أنّ القصة شكلّت صدمة بالنسبة إلى المُتلقي الذي استغرب كيف يُمكن كاتبة عربية مُسلمة أن تكتب بهذه الصراحة عن والدتها الأميّة المُسلمة التي تمرّدت على واقعها بعدما زُوّجت وهي بعد طفلة، فأحبّت رجلاً آخر وهربت معه. اندهشوا أمام موقف الزوج والإخوة الذين لم يُزهقوا دمها. الناشرة البريطانية سألتني كيف يُمكن امرأة لبنانية مسلمة أن تفعل ما فعلته كاملة من دون أن تُقتل. أجبتها بأنّ ما تسمعونه وتقرأونه عن جرائم الشرف وعن تعنيف الزوجات في العالم العربي وخصوصاً في لبنان مبالغاً جداً. ما يحصل في بلادنا هو ما يمكن أن يحصل في لندن وباكستان وأي بلد آخر في العالم. كما أنّ لغتها السلسة وأحداثها المسلية لعبت دوراً في إيصالها في شكل أكبر إلى الناس. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك سبباً آخر ساهم في نجاح الكتاب هو برنامج إذاعي ثقافي على أهم إذاعة في لندن «راديو 4» حيث اختارته مذيعته ليكون «كتاب الأسبوع» وقدّمت عرضاً مميزاً عنه على مدى سبعة أيام متواصلة، كما جاءوا بممثلات عربيات أدّين قراءات من الكتاب إلى جانب أغنيات عربية قديمة لعبدالوهاب، فكان اختيار «حكايتي شرح يطول» ضمن book of the week أو كتاب الأسبوع بمثابة احتفالية به وبحنان الشيخ أيضاً.

 الترجمة والعالمية

> هل مجرّد ترجمة الروايات إلى لغات عدّة يعني العالمية؟ وهل حنان الشيخ هي اليوم كاتبة عالمية؟

 لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال. لا أدري. ولكن الترجمات طبعاً تُساهم إلى جانب عوامل أخرى في انتشار الكاتب وجعله عالمياً. وإنما لا يمكنني الحديث عن نفسي والقول إنني أصبحت عالمية أم لا.

> هل تتدخّل الدور الأجنبية في تفاصيل كتبك وترجماتها؟

 ليس دائماً. ولكن أذكر لك حادثة حصلت مع الناشر الإنكليزي الذي أتعامل معه منذ فترة. أخبرني عن إعجابه الكبير بالكتاب ولكنه طلب مني أن أسرد الحكاية بصوتي لأكون الراوية التي تحكي سيرة أمّها بدلاً من أن تسرد أمي حكايتها بنفسها. أراد ألّا أكون أكثر وجوداً في السرد. فأجبته أنني كتبت بصوت أمّي ولا يُمكن أن أسرق لها صوتها. وكتبت عشر صفحات كمقدّمة للكتاب كي أشرح إلى القارئ هدفي من وراء كتابة هذه السيرة ورأيي ومشاعري وما إلى ذلك.

> هل قرأت كتابك بترجماته الأجنبية خصوصاً أنّها حققت مبيعاً كبيراً؟

 قرأت الترجمة بالإنكليزية وأنا راضية عنها. وقيل لي إنّ ترجمة «كتابي شرح يطول» إلى اللغة الفرنسية كانت رائعة وأكثر من رائعة أيضاً.

> هل صحيح أنّك رفضت دعوة أوبرا وينفري للظهور في برنامجها الأشهر في العالم؟

 من أخبرك بهذا الأمر؟ نعم، صحيح.

> هل لك أن تُخبرينا تفاصيل الحكاية؟

 بعد نجاح الكتاب في لندن وأميركا، تمّ إرساله ضمن كتب أخرى طبعاً إلى أوبرا وينفري التي تختار مع فريق عملها الكبير ما تراه مُلائماً. ووجدوا في كتابي ما يجذب انتباه الناس إليه لكونه يحكي سيرة ذاتية لامرأة عربية مُسلمة أميّة تحدّت عائلتها وبيئتها وعشقت على زوجها وتركت منزلها وأطفالها وابنتها التي أصبحت فيما بعد الكاتبة المعروفة التي تجرأت أن تنشر قصة أمها كما هي. اتصلوا بي ورحّبت بالفكرة طبعاً إلّا أنهم اشترطوا علي بعض الأسئلة التي لم أجد لها مبرّراً وكأنهم كانوا يُريدون إعطاء الحوار طابعاً فضائحياً إلى حدّ ما. لذا فضلّت عدم الظهور مع أوبرا بالشروط التي ترضي برنامجها على حساب قناعاتي الشخصية. وأخبرتهم بصراحة بأنني لا أرغب في الظهور معهم لتدخلهم الوقح بتفاصيل لا تهمّ البرنامج ولا المشاهدين. ولا أخفي عليك أنّ الدار التي تولّت نشر الكتاب في أميركا سألتني: «هل كنت تحلمين بالظهور في برنامج أوبرا؟». الدار انزعجت كثيراً للقرار الذي اتخذته واعتبروا رفضي لهذا العرض فيه خسارة مادية كبيرة لهم كدار نشر. ولكنني مقتنعة بما فعلت ولست نادمة على الإطلاق لأنني على رغم الجرأة التي تُلازمني كصفة إلّا أنني لا أقدّم أي شيء على حساب شفافيتي وصدقي واحترامي لنفسي ولأدبي. ولكن في المجلّة التي تصدر عن برنامج أوبرا تناولوا الكتاب وقدّموا مقالة نقدية جميلة جداً ولم يأتوا على ذكر سوء التفاهم الذي حصل في ما بيننا.

> تربيت في كنف والد أحبّك ورعاك وأعطاك الحريّة وأمّ تمرّدت على واقعها وهجرتكم لتعيش حياتها كما تريد. فمن أين لك كلّ هذا التعاطف مع المرأة في كتاباتك؟

 لأنني رأيت. وسمعت... كنت في احتكاك يومي مع نساء مسحوقات ومهمّشات ومعنّفات في عائلتنا وحيّنا. هذه الجارة ضربها زوجها حتى أدماها. وتلك هدّدها بالطلاق. وأخرى خانها وهجرها. كنت أرى الظلم أمام عينيّ. وأسمعه من روايات النساء من حولي. في «فرس الشيطان» كتبت عن نقاط التأخّر في مجتمعنا المبني على عدم الإنصاف بين المرأة والرجل. أمّا والدي فهو كما ذكرت، مُحبّ وخلوق. كان أبي متديناً وإنما غير مُتعصّب. لقد كان حاجاً مؤمناً وإنما لم يقف أمام رغبتي في السفر وحدي إلى مصر وأنا في السابعة عشرة من عمري لاستكمال دراستي. وعندما سأله أحدهم عن سبب ذهابي وحدي على مصر ردّ عليهم بعبارة «ابنتي ذكية، لكنّها ضعيفة في الحساب، وهي تريد أن تستكمل علومها في مصر والحكمة تقول اطلب العلم ولو في الصين».

> هل توافقين على تسميتك بالأديبة النسوية أم إنّك ضدّ تصنيف الأدب على أساس التكوين الفيزيولوجي للأديب؟

 تناولت كأديبة هموم المرأة ودافعت عنها منذ كنت أعمل كمحرّرة في «النهار» كنت مهتمة بقضية المرأة وكتبت سلسلة «نساء مرتفعات» التي تعرض أوّل امرأة في مجالها كأوّل محامية، أوّل طبيبة، أوّل صحافية، أوّل مهندسة... وحاورت ثلاثين امرأة منهن. كما كتبت روايتي «مسك الغزال» في الوقت الذي لم تكن الكتابات عن المرأة الخليجية مُنتشرة. كان هناك كاتبة في السعودية اسمها على ما أظنّ سميرة الخاشقجي، وكانت توقّع كتاباتها باسم مُستعار «بنت الجزيرة العربية». فأنا طالما كنت مُتعاطفة مع المرأة ورافضة للظروف التي تعيشها أحياناً. ولكنني في المقابل أنا ضدّ التقسيم وخصوصاً في الأدب. على هذه الحال لا يُمكن إلّا أن نعتبر أدب نجيب محفوظ ويحيى حقي والطيب صالح نسوياً.

> من لبنان إلى مصر ثمّ السعودية ولندن... كيف أثّرت فيك هذه الأمكنة؟ وأين تجدين نفسك اليوم؟

 الأمكنة تؤثّر بي. تُلهمني. المكان يُزوّدني بالأفكار والصور. في السعودية كتبت «مسك الغزال» وقصصي القصيرة كتبتها إمّا في المغرب أو اليمن. أمّا أين أجد نفسي اليوم، فأقول إنّه لديّ ازدواجية شخصية ربما. ولكنني مُتصالحة مع نفسي. فأنا أكتب بلغتي العربية، ولغتي هي وطني. وفي الكتابة أعيش داخل وطني الذي أحبّه ولا أتنازل عنه أبداً.

عن موقع جريدة الحياة


يقدم موقع دارالحياة.كوم، إضافة إلى المحتوى الخاص به الذي ينشر على مدار الساعة، محتوى المطبوعات التي تنتجها« دار الحياة »، بنسخها الإلكترونية، وهي : الصحيفة اليومية « الحياة » الطبعة الدولية على العنوانين الأول أو الثاني، والحياة السعودية الطبعة السعودية، والمجلة الأسبوعية لها. ويضم دارالحياة.كوم أيضاً حاضنة للخدمات الرقمية على العنوان.

دارالحياة.كوم محطة تزود الزوار بالمستجدات والتقارير والتحليلات وبمواد أدبية، من صحافيين ومراسلين من الحياة، ومتعاونين آخرين. ويسعى إلى تأمين التواصل بين القراء وكتاب المطبوعات. كما يؤدي دور الواجهة التي تروج لمحتوى المواقع الثلاثة الأخرى. كذلك، يرعى دارالحياة.كوم مشاريع صحافية مستقلة ويستضيفها.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)