رأي

لغة الإعلام ولغة الأدب ؟

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الخامسة والعشرون ـ العدد 7536 الاربعاء 11 آب ايلول (سبتمبر) 2013 ـ 5 ذو القعدة 1434هـ
فايز شاهين


التزاوج بين الأدب والصحافة بدأ مع صدور أول صحيفة عربية ناطقة باللغة العربية، أسسها نابليون بونابرت خلال حملته على مصر (1799 ـ 1801) حينما عُين الأديب والشاعر والمؤرخ المصري إسماعيل بن سعد الوهبي المصري المعروف بالخشّاب مدوناً لصحيفة ‘الحوادث اليومية’، ثم عاد الأدباء ليعانقوا الصحافة مرة أخرى مع صدور أول صحيفة عربية رسمية أسسها محمد علي باشا سلطان الديار المصرية عام 1828 تحمل اسم ‘الوقائع المصرية’، أشرف عليها الأديب والمترجم رفاعة الطهطاوي مؤسس مدرسة الألسن ومؤلف كتاب ‘تخليص الإبريز في تلخيص باريز′.

وتبعتها صحف عدة أشرف عليها أدباء آخرون أمثال رزق الله حسون الحلبي صاحب ‘مرآة الأحوال’ وبطرس البستاني صاحب ‘نفير سورية’ وناصيف اليازجي وغيرهم الكثير. ولم يفارق الأدباء عالم الإعلام والصحافة مع قدوم الإذاعة والتلفزيون، ومن أفضل الأمثلة على ذلك إشراف الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان على القسم العربي للإذاعة البريطانية في القدس في ثلاثينيات القرن الماضي. وإدارة الدكتور صباح قباني ـ شقيق الشاعر الراحل نزار قباني ـ للتلفزيون السوري مع بداية انطلاقته عام 1960. واليوم وعلى الرغم من مرور أكثر من مئتي عام على ولادة الصحافة العربية وفي عصر الإعلام الفضائي وانتشار المحطات الإخبارية المتخصصة، ما يزال عالم الصحافة والإعلام رهينة ‘عُشّاق العربية’. فإذا غربلت هذه المحطات جميعها بغربال، ستجد في عالم الإعلام من فطاحل اللغة العربية وعشاقها ـ ومن يطير في فلكهم ـ أكثر بكثير من دارسي الإعلام والصحافة.

ولهذا الأمر بلا شك أثر في ما يعدونه من رسائل خبرية، فعند دراسة اللغة المستخدمة في التقارير المصورة لبعض المحطات الإخبارية يلحظ المرء تأثر معدي الرسائل الخبرية بالأسلوب الأدبي عند صياغتهم لها. إذ يستخدمون تعابير أدبية واستعارات ومحسنات لغوية ونعوت وصفات ولغة مجازية ورمزية بل وأبيات كاملة من الشعر ـ لا يفهم معناها ومغزاها إلا القليلون ـ في تقارير إخبارية، يُفترض فيها اتباع الأسلوب التقريري أو الإخباري الخالي من المحسنات اللغوية هذه. إلا أن بعض الكُتّاب أمثال فخري صالح امتدح هذا التوجه في كتابة التقارير في مقالة له نُشرت في صحيفة الدستور الأردنية في الثامن من سبتمبر (أيلول) 2011 بعنوان ‘التقرير الصحفي واتساع حدود الأدب’، ظناً منه أن الصحافة العربية باتباعها الأسلوب الأدبي يمكنها منافسة المواقع الإخبارية الإلكترونية ‘التي تبث أخباراً كل ثانية’. وقد ضرب الكاتب مثلاً بتقارير كل من الزميلين ماجد عبد الهادي وزياد بركات العامليْن في قناة الجزيرة الإخبارية ‘حيث لا يكتفي التقرير بتقديم جرعة من المعلومات والوقائع وتقديم خلفية للحدث الذي ينقله، بل يهتم بالأسلوب واللغة الرمزية والطاقة المجازية التي تُضيء الحدث وتوسع أفقه وتسلط الضوء على المعنى الرمزي الذي يتضمنه هذا الحدث’. ويُثني على أسلوب كتابتهما بقوله ‘وهي تقنية في الكتابة تخفف من جهامة الأحداث وجفاف التقرير الصحفي وتعمّق من حضور الحدث وتعطيه بعضاً من ديمومة الأدب وقابليته للقراءة مرة بعد مرة بعد مرة’. ولكثرة إعجابه بأسلوبهما دعا إلى تأهيل صحافيين آخرين ليحذوا حذوهما، معتبراً أن هذا الأسلوب يحُدث تأثيراً في ‘القارئ أو المستمع يتجاوز لحظة القراءة أو السمع ليدوم فترة أطول من الزمن’.

من الواضح هنا أن الكاتب لا يُفرّق بين خصائص الكتابة للصحيفة والكتابة للتلفزيون ـ حيث يعمل كل من الزميلين ماجد عبد الهادي وزياد بركات ـ فالأخبار التلفزيونية عادة ما تكون أصعب على الفهم من الأخبار المنشورة في الصحافة المكتوبة، وهذا الأمر لا يعود إلى اللغة المستخدمة ـ إذ عادة ما تكون نصوص الأخبار في الصحف اليومية مصاغة بصيغة أكثر تعقيداً ـ بل يعود إلى الظروف الخاصة بعملية الاتصال التلفزيونية. فبعد بث التقرير الإخباري التلفزيوني مرة واحدة لا يمكن الاستماع إليه ورؤيته مرة أخرى. فلا يمكننا الرجوع إلى بداية النشرة الإخبارية للتركيز على الفقرة التي لم نفهمها، كما نفعل مع الصحيفة. كما أن سرعة قراءتنا للصحيفة نحددها نحن، على العكس من سرعة قراءة التقارير التلفزيونية التي لا سيطرة لنا عليها. علاوة على أن الميزة الحسنة الخاصة بالتقارير الإخبارية التلفزيونية وهي استخدام الصورة إلى جانب النص، يمكن أن تتحول إلى عامل سلبي يحد من فهم التقرير. إذ أن المعلومة الصورية تساعد على فهم النص، ويساعد النص على فهم الصورة في التقارير المعدة إعداداً جيداً فقط. لكن غالباً ما لا تساعد الصورة على فهم النص، ولا يوضح لنا النص ما تُظهره الصورة في كثير من التقارير التلفزيونية. فهذه الخصائص وحدها تُصعّب من مهمة اعداد التقارير الإخبارية المصورة وفهمها، والكاتب فخري صالح يريد أن يزيد عليها اللغة الأدبية والرمزية لتزداد تعقيداً وطلسمة.

وقد غفل الكاتب بأن نشرة الأخبار موجهة إلى جميع فئات المجتمع، المتعلّم منهم والأمي، بعكس البرامج التلفزيونية الأخرى التي من الممكن أن تُوجّه إلى مجموعة مستهدفة بعينها، كالبرامج الثقافية للمثقفين والشبابية للشباب. وهذا الأمر يُلقي على كاهل العاملين في غرفة الأخبار حملاً أكبر. إذ عليهم إيجاد لغة مشتركة يفهمها الجميع بلا استثناء. ونحن لسنا بحاجة إلى لغة نقرأها مرات تلو مرات كالنص الأدبي، لأن النص الإعلامي مرهون بالآنية، وهذه عمرها لا يتجاوز الأربع وعشرين ساعة، فمتى مضت، أخذت معها نصها بلا رجعة بعد أن أصبح بائتاً. علاوة على أن اللغة الرمزية والمجازية في التقرير الإخباري المصور تحد من فهمه، وتجعل المستمع يقف عليها ليفهمها، ومتى فعل ذلك نسي ما قبلها ولم يتابع ما بعدها لانشغاله بها، وبالتالي لن يحفظها في ذاكرته لأن العقل لا يحفظ إلا ما يفهم، ومن دون الفهم يفقد النص الإعلامي تأثيره في المشاهد فيصبح وجوده كعدمه.

للإعلام الإخباري التلفزيوني لغته الخاصة البعيدة عن الأدب، والتي على ما يبدو ما زالت لدى معظم المحطات الإخبارية في مختبر تجارب الأدباء منهم يُقلّبونها بين الماضي والحاضر بلا هداية أو كتاب مبين. فلا تعودوا بنا ـ بالله عليكم ـ مائتي عام إلى الوراء، فقد حان وقت فطام لغة الإعلام الإخباري عن لغة الأدب، أما وقت التزاوج بينهما فقد ولى.

برلين ـ 07.09.2013

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)