لبنان البلد الوحيد تقريبا في العالم دون قطارات

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 12-10-2017، العدد : 10779، ص(20)
الصفحة : حياة وتحقيقات
العرب - بيروت


كلما تجدد حلم عودة القطار إلى لبنان يتبخر


أصبح لبنان البلد الوحيد تقريبا في العالم دون قطارات وخطوط سكك حديدية ناشطة بعد أن كان همزة الوصل بين الشرق والدول الغربية حتى أنه بإمكان المسافرين أن ينطلقوا من بيروت ليصلوا إلى باريس ولندن في زمن الحرب العالمية الثانية، اليوم وككل مرة يطرح اللبنانيون مسألة تشغيل القطارات من جديد دون رد جدي من السلطات المسؤولة.

الكثير من الشباب اللبناني لا يعرف تاريخ السكة الحديدية والقطارات في بلاده، بل يعتبرها البعض مجرد ديكورات متناثرة في المدن اللبنانية دون حارس، ينهبها كل من هب ودب من الأغنياء والفقراء، لكن حلم عودة هذه السكك إلى العمل ما زال يراود اللبنانيين في ظل أزمة المرور المتفاقمة وخاصة بين المدن.

ومن تساءل وبحث يعرف أن هناك مصلحة للسكك الحديدية في لبنان ومديرا عاما ومدراء أقسام وموظفين وحراسا وربما سائقين، دون وجود قطار، ودون وجود سكة الحديد التي اختفت معالمها تحت الاعتداءات المتتالية، ليبقى لبنان البلد الوحيد تقريبا دون سكك حديدية في العالم.

باتت محطات السكك الحديدية في لبنان أشبه بقبور دفنت فيها قطارات، بقيت منها هياكلها المتناثرة التي ساهمت منذ زمن بعيد في جعل بيروت منارة وهمزة وصل بين أنحاء العالم.

وتوقف القطارعن العمل خلال عام 1975 عند اندلاع الحرب الأهلية، وبات من الصعب استرجاع هذه الخطوط.

محطات القطار المنتشرة في عدد من المناطق اللبنانية، باتت أشبه بمتحف مهجور تتوسطه الحشائش، وأجزاء من القطارات التي دمرت جراء الأحداث، لتبقى هي الأخرى شاهدة على تاريخ مر عليها، بانتظار أن تتحول في يوم ما إلى مكان يضج بالحركة والحياة بعد إعادة العمل بالسكك الحديدية.

وإضافة إلى تدمير العديد من السكك الحديدية بنيت على طول خطوط بعضها من شمال لبنان حتى جنوبه أبنية مخالفة لقوانين البناء دون الحصول على تراخيص من الجهات المختصة التي يقول عنها عدد كبير من اللبنانيين إنها تصرف النظر عن هذه المخالفات بسبب تفشي الفساد والرشاوى.

ومن المحطات التي لا تزال متواجدة في لبنان أشار خالد تدمري، رئيس لجنة التراث والآثار في المجلس البلدي بمدينة طرابلس، إلى محطة بلدة مار مخايل في محافظة جبل لبنان والتي تحولت إلى ملهى ليلي منذ سنة 2014، وإلى المحطة الأكبر منها في منطقة رياق في سهل البقاع، شرق لبنان، حيث كانت تتواجد فيها أيضا ورشة كبيرة لصيانة القطارات.

إدارة سكك دون قطارات

منذ عام 1975 عندما توقف القطار في لبنان بالتزامن مع الحرب الأهلية، تخصص الدولة ميزانية سنوية للسكك الحديدية تصرف على موظفين لا يعملون، لا بل يتم تعيين موظفين جدد في تلك المصلحة المشلولة تماما، إلا من أطلال قطارات صدئة وخطوط حديدية أتلف معظمها، تذكّر بأنه كانت في لبنان قطارات ناشطة، يلفها الآن النسيان والإهمال.

ويشير متابعون إلى وجود 300 موظف في مصلحة السكك الحديدية، وتتجاوز الميزانية السنوية لهذه المصلحة 12 مليار ليرة لبنانية، ما يعني أن الدولة قد صرفت على تلك المصلحة على مدار 42 عاما، 504 مليارات ليرة دون أن تستفيد منها خزينة الدولة ولو بليرة واحدة.

ويرى الخبراء أن المبالغ المصروفة على هذه المصلحة على مدار 42 عاما، كانت كفيلة بإعادة إنشاء وتمديد سكك حديد جديدة وتشغيل القطارات بين كل المناطق اللبنانية.

ولا تزال الدولة تصرف أموالا طائلة على مصلحة السكك الحديدية دون أن يكون في الأفق أي مشروع جدي لإعادة تأهيل هذه السكك أو إحيائها. وحتى المنطقة الوحيدة في لبنان المؤهلة لإعادة تشغيل القطار والتي تمتد من مرفأ طرابلس حتى الحدود السورية شمالا، لا يزال المشروع المتعلق بها في علم الغيب، وضمن أدراج الإدارة المهتمة بهذا القطاع، بالرغم من كل الوعود التي أطلقت ولا تزال تطلق بالتزامن مع تطوير مرفأ طرابلس والمطالبة الجدية بتشغيل مطار القليعات.

ويتداول اللبنانيون تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي حول مشاركة عمال وموظفي السكك الحديدية في إضراب زيادة الرواتب الشامل، وذكر بيان الاتحاد العمالي العام في لبنان أن الإضراب يشمل “النقل المشترك وسكك الحديد”، وهنا يتساءل اللبنانيون بسخرية “وينو القطار؟”.

اللافت للانتباه أنه يمكن أن يحصل اللبنانيون ضمن أرقام الوزارات والمصالح العامة على أرقام التواصل مع مصلحة السكك الحديدية والنقل المشترك مثل رقم الهاتف والفاكس ورمز البريد، وحتى خارطة “غوغل ماب” حتى لا يضلوا الطريق، كما تقول بعض التعليقات على الفيسبوك.

الجدير بالذكر أنها ليست المرة الأولى التي يثير فيها موضوع السكك الحديدية سخرية اللبنانيين، فلقد علق ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي في يوليو الماضي على خبر إقرار زيادة رواتب الموظفين العاملين في قطاعات عديدة، ومنها السكك الحديدية، متمنين لو كانوا من ضمن موظفي السكك كي تطالهم زيادة الراتب لقاء “كثرة جلوسهم في البيت”.

ويرى البعض الآخر أن “سلسلة الرتب والرواتب شملت مصلحة السكك الحديدية لسبب وجيه جدا، وهو أنهم أصدروا بيانا منذ فترة، يؤكد أنه في الخمسين سنة الماضية لم تشهد سكك لبنان أي حادث تصادم قطار بتاتا”.

نبذة تاريخية

حصلت فرنسا على حق الاستثمار في السكك الحديدية اللبنانية منذ عام 1891، ودشنت سنة 1885 أوّل خط حديدي بين بيروت ودمشق وحوران (في سوريا)، ليصل في عام 1906 إلى حلب قبل شق خط طرابلس في عام 1911 ووصله بتركيا في عام 1912، ما ربط لبنان بالعالم العربي وأوروبا.

وتمّ تدشين محطة رياق في البقاع اللبناني حيث أنشئ مصنع لقطع الغيار تحت اسم “رياق لبنان”، واستطاع العمال اللبنانيون في ما بعد تحويل القطارات من الاشتغال بالفحم إلى الاشتغال بالبترول. وشكّلت بلدة رياق، الواقعة بين مدينتَي زحلة وبعلبك في منطقة البقاع اللبنانية، همزة الوصل بين مختلف الخطوط العابرة للقارات.

وفي عام 1920، ومع إعلان دولة لبنان الكبير، طوّرت السلطات الفرنسية خطوط سكك الحديد، وأنشأت الترامواي الكهربائي في بيروت وضواحيها، وربطت محطتي بيروت وطرابلس عام 1941 لضرورات عسكرية، فأصبح للبنان خطوط داخلية أساسية تربط ساحله ببقاعه، وفي الوقت ذاته تتصل بمحطات إقليمية ودولية مثل سوريا، فتركيا فأوروبا، وبفلسطين فدول الخليج فالعراق فإيران. وعشية الحرب العالمية الثانية، كان من الممكن السفر من بيروت إلى باريس ولندن عبر القطار.

وفي عهد الاستقلال، في عام 1961، أنشِئت مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك لبيروت وضواحيها، وعهدت إليها إدارة واستثمار الخطوط الحديدية؛ خطّ عريض يمتد من الناقورة إلى طرابلس فالحدود اللبنانية- السورية وطوله 233 كلم تقريبا، وخطّ جبلي ضيّق بين بيروت ورياق والحدود السورية، وخطّ عريض من رياق إلى القصير السورية.

ويعتبر خالد التدمري أن امتداد خط السكك الحديدية بين مناطق مختلفة من لبنان عبر شق طريق بيروت الشام، هو السبب المباشر وراء نشأة العديد من قرى لبنان سياحيا لتبقى ناشطة حتى يومنا هذا.

وسرعان ما مزّقت الحرب الأهلية (1975- 1990)، لبنان وأصابت منشآت سكك الحديد وتجهيزاتها ومبانيها وآلياتها ومعداتها بأضرار جسيمة، واستمرت الحرب لمدة 15 سنة، فقد فجرت ميليشيات السكك، وقصفها الجيش الإسرائيلي، واقتلعت قوات أمنية سورية أجزاء من الخط لبيعها كخردة معدنية إلى باكستان. وتوقفت خدمات السكك الحديدية كليا منذ 1995، وسيّرت آخر رحلة قطار بين بيروت وشكا في 1994.

يتوقع خبراء الاقتصاد أن تنتعش الحركة الاقتصادية في لبنان بعد انتهاء الحرب في سوريا، ما يتطلب اهتماما ملحا بالبنية التحتية وتهيئة الطرقات والسكك الحديدية المتوقفة منذ عشرات السنين.

يقول زياد نصر، رئيس مصلحة السكك الحديدية والنقل المشترك في لبنان، إنه تواصل مع جهات خارجية مموّلة أبدت استعدادها ورغبتها في تمويل المشاريع المقدّمة للنهوض بقطاع النقل المشترك، والتي تتضمن مسارا تدريجيا يتمثل في تنفيذ مشاريع نموذجية.

ويؤكد أنه رفع تقاريره إلى الجهات الحكومية المختصّة، وهو يأمل اليوم أن تأخذ هذه المشاريع مجراها للتنفيذ بعد أن لمس تجاوبا جديا من وزير الأشغال العامة والنقل لدعم ومتابعة ورعاية المشاريع المقترحة بما يضمن تفعيل هذا القطاع وتحقيق الغاية المرجوة منه.

وأشارت مجلة “إيكونوميست” البريطانية إلى أن الحديث عن استعادة الخطوط الحديدية مجدها السابق ليس جديدا في لبنان؛ فقد تم إعداد دراسات مولتها الحكومة منذ تسعينات القرن الماضي لربط مدن الساحل اللبناني بسوريا وهو ما من شأنه أن يحقق مكاسب اقتصادية.

وتشير أحدث دراسة، مولها بنك الاستثمار الأوروبي، إلى أن خطا يصل بيروت بميناء طرابلس سيحقق عائدات تغطي نفقات التشغيل، وسيعوض البعض من كلفة بنائه التي تقدر بـ3 مليارات دولار.

ولا شك في أن قاطرة شحن تنتقل عبر السكك الحديدية من طرابلس نحو مدينة حمص، ومن ثم إذا أمكن عبر الشرق الأوسط، ستكون كلفتها أقل بكثير، وستنعش النشاط التجاري. كما تعمل مجموعة من الشركات الإيطالية على فتح نفق عبر الجبال لإعادة فتح طريق بيروت-دمشق.

وقدمت جمعية “تران تران” أجندة تضم ثلاثة مشاريع لمصلحة السكك الحديدية والنقل المشترك، وأول هذه المشاريع إنشاء مركز للأرشيف والأبحاث في محطة بيروت مار مخايل، يضم كل الدراسات والأبحاث والخرائط التي تم العمل عليها لإحياء السكك الحديدية.

ويتعلق المشروع الثاني بإعادة تشغيل خط قطار البترون – جبيل، والخط طوله 17.3 كلم فيه ثلاث محطات وخمسة جسور بينها أربعة جسور حديد، وأحدها من الصخر القديم.

ويقول إلياس معلوف من جمعية “تران تران”، “إن هذا المشروع ليس مستحيلا، فـي حين أن الدولة عندما يتم عرض مشروع إعادة تشغيل بعض الخطوط عليها، تكون ردة فعلها وكأن الجمعية تتكلّم عن إعادة إحياء الديناصورات وليس عن شيء ممكن، فتنفيذ المشروع لا يحتاج إلى أكثر من ثلاثة أشهر”.

ويهدف المشروع إلى تقوية معنويات مصلحة السكك الحديدية والنقل المشترك، وبالتالي يصبح موظفو مصلحة السكك الحديدية الذين ليس لديهم مهام يقومون بها، مساهمين في إنجاز إعادة إحياء خط قطار البترون – جبيل، والذي سيكون إذا نفذ سبباً لرفع التعديات الحالية ومنع التعديات على السكك الحديدية مستقبلا.

أما المشروع الثالث، الذي أطلقته الجمعية في عام 2007 مع وزير السياحة آنذاك إيلي ماروني، فهو إنشاء متحف للسكك الحديدية في محطة رياق في البقاع، وهي أكبر محطة في لبنان، لكن هذه الاقتراحات ما زالت قابعة في أدراج مصالح النقل.

وتجدر الإشارة إلى أنه جرت العديد من المحاولات لإحياء هذه المحطات من جديد منها وضع حجر الأساس للمشروع اللبناني السوري المشترك لتأهيل خط سكك الحديد في طرابلس بتاريخ 17 أبريل 2002 إلا أنه لم يرَ النور حتى يومنا هذا.

ورغم التحمس لإعادة تشغيل القطارات اللبنانية، لن يحصل شيء قبل أن تنتهي الحرب في سوريا المجاورة. وكما تقول ريا الحسن، وزيرة مال سابقة، “لا أحد يرغب في وضع أمواله ما لم يكن واثقاً مما سيجري في سوريا”.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF

عن جريدة العرب اللندنية

العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)