كتاب محمد، جمال جبران (اليمن)، رواية دار أخبار اليوم المصرية - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأربعاء، ١ مارس/ آذار ٢٠١٧
جريدة الحياة
أحمد زين


جمال جبران يشرع السرد على أفق الكتابة


«كتاب محمد» (دار أخبار اليوم المصرية) للكاتب اليمني جمال جبران هو بقدر ما يراوغ النوع الأدبي ويتملص من صرامة حدوده، نعثر فيه على عناصر تنتمي إلى الأنواع الأدبية كلها، سواء بالنسبة إلى التكنيك أم في ما يخص مناخات الكتاب وأجوائه. كتابة «بينية» تنتهك الحدود وتنشأ على تخومها. سرد ينفلت من ثبات النوع الأدبي باتجاه متغير يتحقق ويحقق ديناميته عبر نبرة تجمع بين المديح والرثاء، إضافة إلى متوالية من الاستشهادات والاستراجعات والمصادر المتنوعة. ولئن بدت غلبة الشخصي واضحة في النص، إلا أنه من ناحية يعطي الخيال مساحة للتدخل فيضفي جواً من الغرابة حيناً، وأحياناً يضيف عناصر تسعف المتخيل على الذهاب بعيداً في إعادة كتابة الشخصي، وفتحه على إمكانات تسمح بتأويله وتأمله، فلا يبقى الكتاب مجرد رثاء أخ أخاه الأكبر في لحظة فقد عصية على الفهم.

يفتتح جمال كتابه بمشهد يجمعهما، هو ومحمد، وهما صبيان يلعبان بعربة نقل الموتى، في المستشفى الذي تعمل فيه أمهما، كم بدا هذا المشهد عفوياً وبريئاً لكنه لا يخلو من صدمة وعنف أيضاً. في مشهد آخر، نرى الأم تجهد وحيدة في حمل جثة ميت، فلا تستطيع، إذ تتفلت منها الجثة. هذان المشهدان، ومشاهد أخرى، وفرت للنص إمكان أن ينتقل من كونه نصاً شخصياً في مديح الأخ، إلى عمل ينطوي على تعقيده الخاص من ناحية، ومن ناحية أخرى، يتجاور فيه الأحياء والأموات، والمرضى والأصحاء، والإخوة والأخوات، والثقافتين اليمنية والأفريقية، وتأثيراتهما المضمرة في شخصية السارد ورؤيته للناس والمجتمع.

صورة طيفية

يسود النص شعور مرير باليتم، إحساس حاد بالفقد، ونبرة رثاء عالية، وتوقع الفشل الذريع في النهوض بأعباء ومسؤوليات لم يتعودها جمال، هو الذي لم يقدر على قيادة نفسه ولا تربيتها، فكيف سيعتني بأولاد ينسى أسماءهم أو تختلط عليه حين يهم بمناداة أحدهم. إلا أنه، من ناحية، قد يصعب القول أن المساحة الاستثنائية التي يحتلها محمد في النص، تضمن له حضوراً حياً، إذ لا تتشكل صورة محمد في ذاكرة القارئ، انطلاقاً من علاقة مباشرة ومعاينة حركته الشخصية في السرد، بدا جملة من المقولات وطائفة من العبارات والأوصاف، يمدنا بها جمال عنه. صورة شبحية، وجه من دخان، انعكاس محمد في مرآة السرد. نعرف، من جمال طبعاً، أن لمحمد طريقة خاصة في إعلان سخريته من الحياة، وأنه يهزم الأيام العابسة بلعبة الضحك، وأنه كان محمياً بصورته المحفوظة لدى الجميع، قادراً على الحركة في مجاله من دون سوء فهم، لكن كل ذلك لم يحوله إلى شخص من لحم ودم وأفعال ومواقف، تدفعنا إلى الانهماك في مشاركة أخيه الأصغر تأثره، بقيناً فقط مشدودين إلى رشاقة السرد واستطالاته. في المقابل حضر جمال بقوة، حضور محسوس يمكن لمسه، إذ يمكن سماع موسيقاه ومشاهدة أفلامه ومطالعة الكتب التي يقرأ، وحتى مشاركته العيش في الحالات التي يعثر على نفسه يتخبط فيها، بسبب نسيانه مرة أو بسبب رأي صحافي سيزعج السلطة مرة ثانية.

كأنما غياب الاستثناء في حياة محمد الأخ الأكبر، يتحول استثناء في حد ذاته، فالحياة التي خلت تماماً من أحداث لافتة، على الأقل وفقاً للنص، يصر جمال على أن يرى فيها فرادة خاصة تستطيع أن تلهمه ليصنع كتاباً، وأن يشغلنا، بهذا القدر أو ذاك، بأخيه وبالعائلة وما يشتبك بها أو معها في يومياتها وفي سلوكها ومواقفها، حيال حوادث الحياة ويوميات العيش. قدرة جمال الذي يكتب القصة ويتعاطى مع الموضوع الصحافي بخيال أديب، بدت واضحة في إنجاز نص لا يخلو من عمق ومفتوح على حيوات كثيرة، نص عائلي عن الأب والأم والأخت وبقية الإخوة وليس عن محمد فقط، هو أيضاً وبلا مواربة كتاب عن جمال نفسه، سواء جاء أخاً لمحمد أو ابناً لزمزم أو منتمياً إلى صحيفة أو منتظماً في جامعة، إضافة إلى أن في حياته، على العكس من محمد، من التوترات والمواقف ما يجعله جديراً بسرد طويل.

لا يتقدم محمد في السرد بصفته «الأخ الأكبر» وفقاً للصورة التي رسختها رواية جورج أورويل الشهيرة، فهو لئن حاصر السارد بحضوراته في أفواه الناس في كتب وقصائد وأفلام وفوتوغرافيا وذكريات، «صار يظهر لي في كل شيء أفعله أو أراه بعيني، مشاهدة في فيلم أو قراءة في كتاب»، إلا أنها حضورات لا تنم عن سطوة أو تختبر حجم سلطتها واستبدادها على الآخر. ومثلما بدت صورة محمد على النقيض مما أضحى رمزاً لمفاعيل «الأخ الأكبر» سياسياً، ستأتي علاقة جمال بأخيه الأكبر في هيئة معكوسة أيضاً، إذ أنشأ سرداً يمتدح «الأخ الأكبر» والإذعان لتأثيراته، التأثيرات التي لم تعرف السلطة ولا ما تضمره من شر، وإن وجدت سلطة ما، فهو سلطة الحضور الهش، الخفيف، الذي يترك، مع ذلك، أثراً قوياً وعنيفاً، بمجرد تلاشيه النهائي في نفوس المحيطين به.

تورايخ شخصية

تتبلور في الكتاب تواريخ شخصية وعائلية وبيئات ثقافية واجتماعية تناقض إحداهما الأخرى. نحن أمام سيرة عائلة نصفها يمني والآخر أفريقي - إثيوبي، وهي واحدة من حالات كثيرة نتاج الهجرات اليمنية التي شملت بلداناً عدة في أفريقيا. يعود الأب اليمني بالأسرة إلى بلده بعد عقود من الترحال، لكن العائلة تبقى مشدودة إلى أرض الأم وثقافتها. في الكتاب تحضر الأم بقوة، وتحضر معها ثقافتها الأفريقية، في مقابل غياب الوالد الذي بدا منسياً إلا من إشارة خفيفة، يظهر خلالها عاجزاً فاقد القدرة على تمييز ما يدور حوله. ولهذا الانحياز إلى الأم ما يبرره، ليس لأنها من أنقذت العائلة واستعادت أفرادها من بيوت الآخرين عندما بنت لهم بيتاً وأطعمتهم، إنما لأن الثقافة التي تنتمي إليها هذه الأم تبدو منفتحة ومتقدمة، إذا ما قورنت بثقافة الأب الذي يعود إلى قبيلة لا تزال تؤمن بتقاليد يصعب العيش في كنفها. «هل حان الوقت إذاً كي أدفع، مرة أخرى، ثمن تباين البيئتين المختلفتين اللتين نشأنا، هو وأنا، تحت سقف قواعدهما».

في السرد الذي قد يكون فريداً من نوعه، ينشد جمال خلاصاً من ارتباط بات يبهظه شعورياً، ويسعى إلى الانعتاق من تأنيب الضمير، نتيجة تركه أخاه الأكبر يسقط في المرض بلا رعاية منه، في غمرة انشغاله بتكوين نفسه وبمطاردة أحلامه التي تتوزعها مجالات عدة، السرد الذي كلما اقترب من لحظة الخاتمة تعاظمت خشية جمال، وكأنما مع انتهائه ستتلاشى صورة محمد، ولن يمكنه استعادتها ثانية.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)