كتاب الكليات في الطب لابن رشد

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ٢٢ فبراير/ شباط ٢٠١٨
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«الكليات في الطب» لابن رشد : الكتاب الذي أخرجه الجابري من المتحف


قد لا يكون كتاب «الكليات في الطب» لابن رشد، أشهر أو أبسط مؤلفات فيلسوف قرطبة، لكنه بالتأكيد، وإذا حكمنا عليه من خلال السطور التالية التي نتوقف فيها عند «إعادة إحياء» المفكر المغربي محمد عابد الجابري قبل سنوات، واحداً من أهم كتبه وربما أكثرها معاصرة كما سنرى. ولكن قبل ذلك سيكون من الضروري الإشارة إلى أنه، إذا كان فيلم «المصير» الذي حققه يوسف شاهين قبل عشرين عاماً من الآن، قد نقل ابن رشد من رفوف المكتبات واهتمام الأكاديميين والمثقفين، إلى صفوف الناس العاديين، وصار لفيلسوف قرطبة اعتباراً من عرض الفيلم، ملامح الفنان نور الشريف ولهجة مصرية غير مبرّرة، فإن هذا لم يعط ابن رشد بعد حقه تماماً. إذ حتى في صفوف الطبقات المتوسطة من المثقفين لا يزال ينظر إلى ابن رشد بوصفه فيلسوفاً وبالأحرى شارحاً لفلسفة أرسطو. هكذا دخل الرجل التاريخ بصورة عامة، وهكذا كتب عليه أن يبقى. غير أن الوقت حان للعودة إلى وجه آخر من وجوه ابن رشد، وجه أساسي، لعل خير ما يمثله كتابه الأكبر «الكليات في الطب» ذلك الكتاب الذي ينأى بنا بعض الشيء عن شارح أرسطو أو مساجل الغزالي في «تهافت التهافت»، والساعي إلى الجمع بين الحكمة والشريعة في «فصل المقال».

«الكليات» كتاب عن الطب. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إنه كان كتاب «الطب»، حتى في أوروبا نهاية العصور الوسطى، إذ نعرف اليوم أن كليات الجامعات الأوروبية ظلت تدرّس «الكليات» حتى نهايات القرن السادس عشر، من ناحية قيمته الخاصة، ومن ناحية أخرى لأنه الكتاب الأفضل الذي عرف كيف يقارن بين مدرستين قديمتين في الطب: مدرسة أبيقراط ومدرسة جالينوس. أما ابن رشد فكان ينظر إلى كتابه نظرة متواضعة، حيث كان يعتبره «لمعالجة المسائل العامة، ومن احتاج إلى معرفة جزئيات هذا العمل، فعليه بكتاب ابن زهر». غير أن ما لم يشر إليه ابن رشد، كان الأمر الأهم وهو أن كتابه «الكليات» لا يجب أبداً، اعتباره كتاباً تقنياً، بل سفراً يجمع وربما للمرة الأولى على مثل ذلك النطاق، بين الفلسفة والعلم، ما يجعل الكتاب كتاباً في صناعة الطب وأهدافه. وما هي أهداف الطب، في نهاية الأمر، غير شفاء الإنسان برد ما يصيبه إلى العوامل الطبيعية والمادية التي تطرأ على الإنسان في حياته؟. بل لعل في إمكاننا أن ننظر اليه باعتباره كتاباً علمياً، أكثر بكثير من اعتباره كتاباً في تقنيات الطب. وهذا ما ينصحنا به، على أي حال، المفكر العربي الراحل قبل سنوات، في تقديمه واحدة من أفضل الطبعات المحققة لكتاب «الكليات»، وهي تلك التي أشرف عليها بنفسه قبل رحيله ضمن إطار المشروع الطموح الذي أداره لدى «مركز دراسات الوحدة العربية» لإصدار مؤلفات ابن رشد الكاملة. فهو يقول في تلك المقدمة المميّزة: «إن عمل ابن رشد هنا يدخل في إطار مشروعه العام الذي يتوخى الاجتهاد و «التصحيح»، ولذلك فهو يضم الجانبين معاً: الاجتهاد في بعض المسائل التطبيقية والإدلاء بآراء مخالفة لما كان سائداً؛ وتطوّر الطب كعلم وهو ما يتعلق بالتصحيح، أي بإعادة بناء المعارف الطبية بالصورة التي تجعل منها علماً». وفي تحليله الكتاب ينطلق الجابري عن حق من تعريف ابن رشد الطب «تعريفاً لم نعثر له على مثيل أو أصل عند من سبقه ممن كتبوا في الطب، إذ يقول: إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة، يُلتمس بها حفظ صحة بدن الإنسان وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد من الأبدان» ومن الواضح هنا ذلك التوجه الذي يقوم به ابن رشد نحو أنسنة الممارسة الطبية، خارج إطار التقنيات التي نقول مع الجابري، أننا لو قصرنا نظرتنا إلى كتاب «الكليات» عليها لرمينا الكتاب جانباً ووضعناه في متاحف النسيان، بالنظر إلى التطور الخطير الذي أصاب الطب نفسه كممارسة خلال القرون التي تفصلنا عن زمن وضع الكتاب. أما إن نظرنا إلى هذا الكتاب كعلم وكتعبير عن منهجية علمية، وهو شأنه في حقيقة الأمر، فسيكون في إمكاننا أن نفهم كيف ولماذا عاش هذا الكتاب حتى الآن.

ونبقى هنا مع الجابري الذي لا شك في أنه قدم أفضل وأعمق قراءة لـ «الكليات» حتى اليوم، لننقل عنه هذا التأكيد الدقيق: مع أن في النصوص الطبية العربية، التي حُرّرت قبل ابن رشد وبعده، ما قد ينتمي في صورة أو أخرى إلى ما يفيد البحث المعاصر في هذا المجال (مجال دراسة تطور الفكر العلمي من خلال دراسة المسألة الطبية، وهو المجال الذي يقول الجابري إنه السمة الأساس لهذا الكتاب)، فإن كتاب ابن رشد يفرض نفسه كأول كتاب يطرح للنقاش موضوع التفكير العلمي في الطب. وذلك «لأن فيلسوف قرطبة الذي كان يُنزع إلى فتواه في الطب كما يُنزع إلى فتواه في الفقه، كما تقول كتب التراجم، يتخذ لنفسه في هذا الكتاب، بالفعل وبوعي وإلحاح، موقف المفتي في ما يجب أن يكون عليه الطب حتى يرتفع من مجرد مجموعة معارف، تراكمت عبر الممارسة التي تقوم على الخبرة، إلى مرتبة العلم الذي تؤسسه «كليات»، أي أسس ومبادئ ومناهج، يجب أن تُعرف وتؤخذ كأساس للفكر الطبي». وإذ يصل الجابري إلى هذا الاستنتاج الذي من شأنه أن يقلب النظرة إلى كتاب ابن رشد ويحول تماماً دون وضعه في «المتحف»، يتابع قائلاً، «من هذه الزاوية، يمكن القول إن هذا الكتاب غير مسبوق ولم يظهر ما يماثله في موضوعه إلا في القرن التاسع عشر حين أصبحت فلسفة العلم موضوع اهتمام». ويخلص الجابري في هذه الفقرة إلى أن «الكتاب هو، إذن، أقرب إلى أن يكون كتاباً في فلسفة العلم، أو الإبستيمولوجيا بالمعنى المعاصر للكلمة، منه إلى كتاب في الطب كممارسة، علماً أنه يلخص (أيضاً) وبصورة كافية ومركّزة، الممارسة الطبية في عصره، لا كمجرد ناقل بل كطبيب مجتهد صاحب رأي». ونكاد نضيف هنا إلى هذا الذي يقوله محمد عابد الجابري: وأكثر من هذا كصاحب خبرة ميدانية تجريبية في الطب لا تنفصل عن رفعه ممارسته إلى مستوى العلم وفلسفة العلم.

> والحقيقة أننا على ضوء هذا التوضيح الذي كان واحداً من مساهمات الجابري الكبيرة في مجال تحديث، بل «عصرنة» جهود ابن رشد الجبارة في مجال دراسة الطب إلى جانب جهوده الجبارة في الفلسفة والفقه وتفسير أرسطو، وليس ترجمته كما يخيّل لبعض معاصرينا، على ضوء هذا فقط يمكننا أن نفهم المكانة التي احتلها ابن رشد كـ «طبيب»، في زمنه ثم في القرون التي تلت رحيله ـبالنسبة إلى الفكر الغربي الذي ظل لزمن طويل يعتبر كتاب الكليات COLLEGET باللاتينية الذي وضعه ابن رشد في العام 1198، وفي أقسامه السبعة، كتاباً موسوعياً، منذ اكتشف للمرة الأولى في البندقية في العام 1482 فبات ينظر إليه، منذ ذلك الحين، بكونه يتبع عن قرب كتاب «القانون في الطب» لابن سينا فينقده عبر رؤية نظرية ونقدية أمينة لتعاليم جالينوس. ويرى الفكر الغربي، الذي ظل يعتمد «الكليات» مرجعاً طوال عقود من السنين، أن الجزء الأول من الكتاب هو الأهم حيث يعالج المؤلف مشروع الجسم ويلخص في صفحات واضحة ما كان وصل إليه علم الطب في زمانه. أما الأقسام السبعة التي ينقسم إليها الكتاب فهي، تشريح الأعضاء - الصحة - المرض - العلامات - الأدوية والأغذية - حفظ الصحة - وشفاء الأمراض.

ويبقى أن نذكر أن ابن رشد نفسه كان يؤكد أن «ما سلكناه في كتابنا هذا يخالف الطرق التي سلكها الأطباء الذين وضعوا الكتب، وطريقتنا أليق بهذه الصناعة، وينبغي أن تعلم أن الناظر في هذا الكتاب لن يقدر أن يتقصاه ولن يفهم حل معانيه إذا لم يتقدم فينظر في صناعة المنطق أدنى نظر فيعرف أصناف البرهان الثلاثة، وينبغي كذلك أن تكون له أدنى معرفة بالعلم الطبيعي». ونذكر أخيراً أن أبا الوليد ابن رشد (1126 - 1198) ولد في قرطبة في أسرة علم وقضاء ودرس الفقه والكلام والطب والفلسفة، شرح أرسطو تلبية لرغبة الخليفة أبي يعقوب يوسف وعين قاضياً على أشبلية ثم قرطبة وصار قاضي القضاة. اتهم بالزندقة وأحرقت كتبه. من أهم هذه الكتب «تهافت التهافت» و «فصل المقال» و «الكليات».

ابراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)