كافكا والكافكوية والرواية العربية والبحث عن الخلاص المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2018

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس 20 سبتمبر 2018
جريدة الحياة
عبده وازن


نجم عبدالله كاظم يستكشف آثار كافكا في الرواية العربية الحديثة


لعل كتاب الناقد العراقي نجم عبدالله كاظم «كافكا والكافكوية والرواية العربية والبحث عن الخلاص» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2018) أول دراسة عربية شاملة تتوخى مقاربة الأثر بل الآثار التي تركها الروائي التشيكي فرانز كافكا في الروائيين العرب ورواياتهم، في ضوء الأدب المقارن الذي يعد كاظم أحد المتخصصين فيه أكاديمياً. فهو كان نال شهادة الدكتوراه في جامعة أكستر – بريطانيا في هذا الحقل النقدي وأعد أطروحة بعنوان «الرواية في العراق 1965- 1980 وتأثير الرواية الأميركية فيها خصوصاً رواية «الصخب والعنف» لوليم فوكنر». إلا أن الناقد كان خص كافكا وأثره العربي بدراسة سابقة نشرها في كتاب آخر له هو «مقدمات وأبحاث تطبيقية حديثة في الأدب المقارن» (المؤسسة العربية 2017) وبدت خير تمهيد لكتابه الجديد، المتعدد الحقول والمضامين، والقائم على منهج الأدب المقارن في مدرستيه الأميركية والفرنسية. وهو شاء أن يوفق بين المدرستين هاتين منهجياً، فيرصد وفق المدرسة الفرنسية التشابهات ما بين روايات كافكا والروايات العربية بحثاً عن شروط تحقق اللقاء بين هذه الروايات، ثم يرصد وفق المدرسة الأميركية «النصية» التشابه والاختلاف بين طرفي المقارنة بحثاً عن الدلالات والمعاني التي يمكن الخروج بها. إلا أن ما يتميز به كتاب كاظم، علاوة على كونه دراسة في الأدب المقارن، هو تقديمه كافكا إلى القراء العرب تقديماً شاملاً، قائماً أولاً على التحليل الشخصي انطلاقاً من منهجيته الأكاديمية ثم من ثقافته الكافكاوية وتعمقه في أدبه، وثانياً على المدرسة الاستخلاصية التي يقدم عبرها أهم ما كتب عالمياً عن كافكا، مما يعني أنه يمنح القارئ مفاتيح رئيسة لولوج عالم كافكا المعقد. وبينما يتحرى القارئ الآثار التي تركها كافكا في الروائيين العرب يجد نفسه في آن واحد يستكشف أدب كافكا ويتعرف إلى أسرار حياته وإبداعه.

يعتمد كاظم ثلاثة محاور أساسية في دراسته هي خير مداخل إلى المقارنة بين أدب كافكا والروايات العربية، فينطلق منها أو يبني عليها: البيروقراطية وعوالم اللامعقول، الاغتراب والبطل المغترب، السلطة والبطل المطارد. لكنه يعترف أن المحور الأخير هو الذي يهيمن على دراسته ولكن من دون أن ينفصل كلياً عن المحورين الآخرين، فالمحور هذا، أي السلطة والبطل المطارد، هو الأكثر حضوراً في الروايات العربية التي تشكل مادة البحث، ويمثل أيضاً أحد أبرز ميادين اللقاء بين كافكا والروائيين العرب. ويوضح كاظم طبيعة السلطة في عوالم كافكا، التي تمارس، على تعدد أشكالها، الجور والظلم وتطارد البطل الكافكاوي عبر جهات أو أفراد ليسوا في الغالب ذوي هويات واضحة. وهذا ما يجعل البطل في حال من الخوف والريبة وعدم الأمان.

ويتوسع كاظم في وصف طبيعة هذه السلطة الغامضة فيرى أنها لا يمكن قصرها على السلطة الحقيقية، سياسية كانت أو إدارية أو قضائية، بل هي تشمل أيضاً سلطة الحياة والوجود والخالق والإنسان نفسه، مما يلقي ضوءاً على الخلفية الفلسفية والميتافيزيقية التي تضمرها أعمال كافكا. وهذا تأويل مهم جداً قال به الكاتب الفرنسي الكبير موريس بلانشو في كتابه القيّم «من كافكا إلى كافكا». وانطلاقاً من هذا التوصيف يرى كاظم أن الروائيين العرب الذين اعتمدهم في دراسته، استوعبوا أعمال كافكا بعوالمها المعقدة وأجوائها وأساليبها، لكنّ تفاعلهم معها كان من خلال الظروف التي يعيشونها وبخاصة ما يتعلق منها بالدين والموروث والإيديولوجيا. وتجارب هؤلاء الروائيين تخضع بنظر كاظم، لمؤثرين إثنين يتمثلان أولاً، في كتابات الآخر وأفكاره، وثانياً في خصوصية الكاتب العربي ومعتقداته وتاريخه. ويضرب هنا مثلاً بارزاً هو العلاقة التي قامت بين ألبير كامو وكافكا، فصاحب «الغريب» أحب كافكا كثيراً وتأثر به لكنه لم يتبع خطه إلا في مقدار محدود.

الروائيون العرب

أما الروائيون الذين اختارهم كاظم ووجد في أعمالهم حافزاً لنقده المقارن فهم: السوري جورج سالم في روايته «في المنفى»، العراقي محي الدين زنكنة في روايتي «هم أو ويبقى الحب علامة» و «بحثاً عن مدينة أخرى»، المصري صنع الله إبراهيم في رواية «اللجنة» والأردني –الفلسطيني إبراهيم نصرالله في رواية «براري الحمى» وسواها والفلسطيني –العراقي جبرا إبراهيم جبرا في رواية «الغرف الأخرى»، عطفاً على روائيين آخرين كان حضور كافكا أقل بروزاً في أعمالهمم وكان التقاؤهم به أقل وضوحاً، وهم: العراقيون فاضل عزواي (القلعة) ويوسف الصائغ (المسافة) ويحيى جواد (الرعب والرجال) والمصري يحيى الطاهر عبدالله (الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة). وأعتقد أنه كان من الضروري إدراج الروائي اللبناني رشيد الضعيف المتأثر كثيراً بكافكا لا سيما في روايات مثل «المستبد» و «تقنيات البؤس». ولعل اللافت في دراسة كاظم أن الناقد قبل ولوجه مفهوم الكافكاوية وتناوله عوالم كافكا وأساليبه وشخصياته وخصائصه والأثر الذي تركته الكافكاوية في الروائيين العرب، يعرج على مفاهيم ومدارس فلسفية وأدبية وسمت القرن العشرين وكانت على تماس جوهري عميق مع المفهوم الكافكاوي. وأصاب الناقد فعلاً في تقديمه هذه المفاهيم والمدارس بذاتها أولاً ثم عبر علاقتها بالكافكاوية، فهي سبقت أو رافقت صعود كافكا وتركت فيه أثراً مثلما ترك هو في بعضها أثراً، وهي: الوجودية (كيركغارد، سارتر)، العبثية (كامو، بيكيت، يونسكو)، التعبيرية كما تجلت في الأدب والفن الألمانيين، السوريالية، الفنتازيا، الغرائبية، الواقعية السحرية (رواية أميركا اللاتينية). وتوسع كاظم أيضاً في تحليل العلاقة التي قامت بين بعض الكتاب العرب وهذه المفاهيم أو المدارس، لا سيما في حقبة الخمسينات والستينات، حقبة نشوء الحداثة العربية. لكن غوصه في الكافكاوية، أدباً وفلسفة، بدا شاملاً وعميقاً وعبره ساهم في إلقاء أضواء ساطعة على كافكا، مستنداً إلى مراجع مهمة لا بد من العودة إليها، ناهيك عن تحليله الشخصي وقراءته المصادر الكافكاوية بغية المقارنة بينها وبين المراجع العربية.

والملاحظ أن معظم مراجعه هي إنغلوساكسونية أو مترجمة إلى الإنكليزية أو العربية (المفكر الفرنسي روجيه غارودي وكتابه «واقعية بلا ضفاف»)، عطفاً على كتب عربية وفي مقدّمها كتاب الباحثة المصرية بديعة أمين «هل ينبغي إحراق كافكا؟». ونظراً إلى وفرة المراجع هذه يمكن القارئ أن يطلع على أهم ما كتب أو قيل في كافكا. ومما استوقفني في هذه الآراء ما كتبه الناقد مينو سبان :»إن أول مفسر استخدم النقد الأدبي البسيط وهو يعلق على كافكا كان كافكا نفسه»، أو الناقد رونالد غراي: «فرانز كافكا ابن حساس لأب يهودي أودعه عقدة النقص مدى العمر»، أو المفكر روجيه غارودي:» إن وضع كافكا كيهودي يتكلم الألمانية ويعيش في بلد تشيكي تحت سيطرة الإمبراطورية النمساوية المجرية فجّر في نفسه الإحساس بالوحدة وبأن جذوره مقتلعة من تربتها...»، أو الناقد شارلز أوزبورن: «كافكا واقعي وعبثي وتشاؤمي وتفاؤلي وساخر وفيلسوف ديني وعدمي»، أو مارتن سيمورسميث:» عُدّ كافكا سوريالياً ورمزياً وأليغورياً وسواها ...لكنه ليس أياً من هذه، إنه أصيل بذاته كلياً»، أو الناقد رونالد سبيرز:» يعير كافكا مخيلته –حياته الداخلية الشبيهة بالأحلام لأبطاله المعطوبين، وكنتيجة فإنّ العالم الذي يشقون طريقهم فيه ينحرف عن عالمنا اليومي في تفاصيله وبنيته...». أما الروائي التشيكي ميلان كونديرا فيرى أن مصطلح الكافكاوية يجمع حالات لا يمكنها أن تجتمع في مصطلح آخر وهي: أولاً، عالم هو عبارة عن متاهة كبيرة لا تستطيع الشخصيات النجاة منها ولا فهمها، ثانياً، في هذا العالم يكون الملف هو الواقع الحقيقي بينما ليس الوجود المادي للفرد إلا ظلاً يلقيه ملفه، ثالثاً، لا يعرف الفرد المتهم بماذا هو متهم، فيسعى إلى إيجاد مسوّغ لعقوبته وكأن العقوبة تسعى إلى إيجاد جريمة». هذه الآراء التي أوردها كاظم دعماً لعمله النقدي الفريد وترسيخاً لمقاربته الشاملة، تمنح القارئ مزيداً من المداخل إلى عالم كافكا. ومن خلاصات كاظم المهمة ما يسميه «عوالم اللامعقول» التي يحس فيها البطل الكافكاوي «الفرد» بحال من الاغتراب عن الآخرين والاستلاب، يصحبهما شعور بالخوف، حتى ليجد هذا الفرد نفسه أو يظن أن قوى مختلفة تطارده وتتمثل في دوائر ومؤسسات خفية أو غير بائنة، ترتبط بسلطة مجهولة أو غريبة، تمارس هيمنتها على هذا العالم.

الدراسة التطبيقية

يستهل كاظم دراسته التطبيقية برواية الكاتب السوري جورج سالم «في المنفى» الصادرة عام 1960 والتي تدور حول رجل يمتهن التعليم لا نعرف من اسمه إلا حرف «س» يُفاجأ يوماً(كما فوجئ «ك» في رواية «القضية») بجنديين يقتحمان غرفته ويقولان له: أنت موقوف. أما الأحداث فتدور في عالم كافكاوي هو عبارة عن بلدة بلا اسم ترغمه السلطة فيها على العيش وكأنه في المنفى، إلى أن يلقى «س» مصيراً (يشبه مصير «ك» الذي قتل كـ «الكلب») هو السحق كـ «الصرصار». وبعد تحليل الرواية وعناصرها يخلص كاظم إلى أن بين الروايتين (إضافة إلى «القصر») نقاط التقاء عديدة حدثيّاً وفكرياً، وأن سالم وظف تأثره بكافكا عبر فكرتين هما: الخطيئة والشعور بالذنب، حتى من غير أن تتضح الخطيئة أو الذنب. ثم ينتقل كاظم إلى روايتي الكاتب العراقي محي الدين زنكنة «هم أو ويبقى الحب علامة» (1975) و «بحثاً عن مدينة أخرى»(1980). ومن خلاصات نقده المقارن هنا أن الروائي يتبنى العديد من مفردات أدب كافكا وكأنها قد تلبسته، بدءاً من المتاهة البيروقراطية واللامعقول وموضوعة السلطة وأحوال الاستلاب التي تعيشها شخصيات زنكنة كالخوف والقلق والعجز والضياع والشك... أما الروائي المصري صنع الله إبراهيم فيختار كاظم روايته الشهيرة «اللجنة» التي استطاع فيها صاحبها أن يمنح الكافكاوية طابعاً عربياً إلى حد بعيد. فاللجنة التي تذكر بـ «القضية» لا يعرف البطل ولا القارئ عنها الكثير ولا لماذا يتم التحقيق مع البطل ولا طبيعة قرار اللجنة المنتظر في شأنه... أما «مظهر» أعضاء اللجنة فكافكاوي تماماً، غامض وبيروقراطي ولامعقول: عجوز وعسكر ونساء. ثم يتناول كاظم أعمالاً للشاعر والروائي الفلسطيني- الأردني إبراهيم نصرالله وبخاصة روايته «براري الحمى» (1985). ويستخلص كاظم أن أبطال نصرالله يعانون بعضاً من غربة أبطال كافكا وشعورهم بعدم رغبة الآخرين فيهم والخوف الذي تسببه مطاردة السلطة لهم من دون أسباب. ومثلما يشعر بطل «القضية» بأن أحداً ما يكيد له يشعر بطل نصرالله بأن مؤامرة تحاك ضده. أما الرواية المفاجئة في الصدد الكافكاوي فهي رواية الشاعر والروائي الفلسطيني –العراقي جبرا إبراهيم جبرا «الغرف الأخرى»(1987). في هذه الرواية يحضر جو كافكاوي بامتياز: الملاحقة، الاعتقال، الخوف، الظلم... ويمر البطل أيضاً في ممرات وغرف ودهاليز، كلها مغلقة كما في رواية «القصر» مثلاً.

يصعب فعلاً اختصار كتاب «كافكا والكافكاوية» نظراً إلى شموليته النقدية واعتماده إلى جانب النقد المقارن، مدارس أخرى. فالناقد يقدم ويحلل ويقارن ويورد آراء نقدية أخرى يدعم بها مقولاته أو خلاصاته. وقد أرفق دراسته بملاحق أثبت فيها تعريفات للمذاهب الفكرية والأدبية التي تطرق لها. وعمد إلى تقديم الروائيين وتفكيك عوالمهم ليضعها على مشرحة النقد المقارن. ولئن اعتمد كاظم ترجمات كافكا إلى العربية التي قام بها المصري مصطفى ماهر (القضية والقصر) واللبناني منير بعلبكي (المسخ) فكان ممكناً أن يعتمد أحدث ترجمات كافكا إلى العربية وربما أهم ترجمات له إليها، أنجزها السوري إبراهيم وطفي الذي أمضى ردحاً من حياته في ألمانيا يترجم كافكا ويقدم أبرز ما كتب عنه بالألمانية. لكنّ ترجماته التي أحدثت ثورة حقاً في ميدان الترجمة الكافكاوية تولى طباعتها على نفقته وفي نسخ محدودة لم توزع عربياً.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)