قصة حبّ جبران خليل جبران ومي زيادة

, بقلم محمد بكري


جريدة رأي اليوم الإلكترونية


الثلاثاء 22 مايو 2018
جريدة رأي اليوم الإلكترونية
راي اليوم - ثقافة
مولود بن زادي - كاتب جزائري مقيم في بريطانيا


قصة حبّ جبران خليل جبران ومي زيادة.. بين الواقع والوهم


أدب الرسائل جنس أدبي نثري قائم بين الأجناس الأدبية، له جمالياته وتقنياته الفنية. ومنه أدب الحب الحافل بخطابات تفيض بعبارات الحب، ولوعات الشوق، وحرقات الألم، وذكريات الماضي، وما يراود النفس من رغبات وتطلعات وأحلام، فضلاً عن تبادل الأفكار وتقاسم التجارب والنصح والإرشاد والنقد، تبادلتها أسماء أدبية مرموقة عبر التاريخ في شتى أرجاء الدنيا، مسجلة ومضات نادرة ولحظات ممتعة في حياتها. من الأقلام الشهيرة التي كان لها صفحات مضيئة في سجل هذا الأدب جبران خليل جبران ومي زيادة اللذان عاشا علاقة طويلة دونما لقاء، عُرِفت باسم “الحب العذري” أو “الحب الصوفي”. وما زالت هذه العلاقة تثير الأنظار والتساؤلات وتبقى موضوع بحث.

الشعلة الزرقاء تلهب المشاعر

ليس من شك في أنّ الرسائل التي بعث بها جبران من المهجر إلى سيدة الأدب في المشرق العربي مي زيادة من أجمل ما خطته أنامل الأدباء في سجل أدب الرسائل. كان جبران آنذاك يحيا في الولايات المتحدة، ومي زيادة في مصر. وكان يفصل بينهما السهول والجبال والصحاري والبحار، وما لا يقل عن 7 آلاف ميل. فاختصرت الرسائل المسافات بينهما، وألَّفت بين قلبيهما. وقد بلغ ما تم جمعه في كتاب (الشعلة الزرقاء) 37 رسالة، ارتقت من الإعجاب والتحفظ في البداية إلى التحرر والتودد فيما بعد. وقد بالغ الشرق في نظرته إلى طبيعة هذه العلاقة إلى حد نعتها ب”الحب العذري” و”الحب الصوفي السامي” و”الحب السماوي”…

لكن هذا الحكم يبدو خاضعاً لنظرة عاطفية من زاوية واحدة، اعتمادا على جملة من الرسائل بعث بها الشاعر المهجري إلى مواطنته. بيد أننا إذا ما تحررنا قليلاً من أغلال العاطفة وحاولنا مشاهدة هذه العلاقة من زوايا متفرقة وقرأنا بين الأسطر وتبصرنا سيرة جبران ونظام حياته وعلاقاته في البيئة الجديدة، تبينا أن هذه العلاقة – التي نقرأ فيها الإعجاب والتودد والانجذاب – في الواقع لا تتجاوز حدود الصداقة الحميمة.

جبران شغوف بأدب الرسائل

أول ما يلفت انتباهنا ونحن نحاول أن نفهم علاقة جبران بمي زيادة هو ولع جبران بكتابة الرسائل. فما بعث به إلى مي جزء من سلسة رسائل تفنن في كتابتها ولم يخص بها أحداً. فإن كان كتاب الشعلة الزرقاء يحصي 37 رسالة إلى مي زيادة، فإن كتاب (الحبيب) 2004 يحصي 325 رسالة منه إلى ماري هاسكل وحدها بين 1908 و1931! فضلا عن رسائل أخرى إلى ميخائيل نعيمة.

مي زيادة لم تكن المرأة المفضَّلة

من الخطأ الاعتقاد أنَّ مي زيادة نزلت أعلى منزلة في نفس جبران. فالمرأة التي شغلت قلبه وفكره كانت ماري هاسكل، وهذا ما اعترف به جبران في رسالة بعثها لها سنة 1926 قال لها فيها: “أنت أعزُّ شخص على قلبي في هذا العالم”!

ولهذه المكانة أكثر من مبرر في الواقع. فهذه المرأة كانت قريبة منه تحيا بجواره عكس مي زيادة البعيدة عنه. وماري هاسكل عاشرته لمدة أطول من مي زيادة، إذ أنها عرفته سنة 1904 وكان آنذاك في الحادي والعشرين من عمره وبقيت بجواره حتى وفاته عام 1931 عن عمر يناهز 48 أي (27 سنة) مقارنة بمي زيادة (20 سنة). وبينما لم تعرف مي زيادة جبران إلاَّ من خلال المراسلة، فإنّ ماري هاسكل عرفته في الواقع، فكانت له معينا ماليا، ومستشارا ماليا حينما أراد شراء أسهم في شركات مالية، وسندا معنويا في مسيرته الفنية، فاعترف بفضلها: “لقد أصبحت فناناً بفضل ماري هاسكل.”

جبران لم يعترف بحبه لمي زيادة

ولا نلتمس أي اعتراف مباشر بحبه لمي زيادة طيلة هذه السنوات، ما يشكك في مصداقية هذا الحب. وأي حب هذا الذي يدوم عشرين سنة دون أن يعبّر فيه الحبيب عن عميق الحب ومرارة البعاد! وها هو جبران من جهة أخرى وعكس ذلك تماما، وبعيدا عن أي خجل أو زهد، يعترف بحبه السرمدي للمرأة التي أحبها حقا، ماري هاسكل: «سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقي كبشريَيْن من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان ذلك هو القَدَر. أنتِ وأنا قريبان؛ ففي الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا دائمًا.”

جبران لم يسع للقاء مي زيادة

ورغم توفر وسائل النقل الحديثة وكثرة أسفار جبران إلا أننا لا نلتمس أي محاولة لزيارة مي زيادة في المشرق أو حتى مجرد دعوتها إلى لقائه في فرنسا التي زارها مثلاً، ما يوحي بعدم رغبته في الارتباط أو اللقاء عدا في عالم ضبابي دونما مسؤولية أو التزام.

جبران ذلك الرجل المولع بالنساء

جبران لم يحب امرأة واحدة، فقد تقاسم حياته عددٌ من النساء من أمثال سلطانة تابت وجوزيفين بيبوديه وميشلين وشارلوت تيلر وماري قهوجي وماري خوري وكورين روزفلت ومسز ماسون وبربارة يونغ. وكثير من المراجع يحصي حوالي 12 امرأة. وليس من شك في أن ماري هاسكل انفردت بين كل النساء لتكون الحبيبة رقم واحد حتى أنه لم يتردد في كشف حبه لها وطلب يدها. والغريب في الأمر أنه كان يحيا تجارب غرامية مع بعض النساء في الوقت الذي كان يبعث فيه بأجمل رسائل “حب” إلى مي زيادة توهم أي قارئ أنه لم يحب سواها!

فترات من سوء التفاهم والقطيعة

ولعلّ ما تغاضى عنه المحللون في تقييم هذه العلاقة هو ما شهدته من سوء فهم وخلاف وقطيعة. فهي لم تدم عشرين سنة بدون انقطاع.

بعيد عن العين بعيد عن القلب

لعلّ نظرية “البعيد عن العين بعيد عن القلب” تنطبق على هذه العلاقة، ليس من حيث البعد الجغرافي المعتبر فحسب وإنما أيضاً من حيث البعد الثقافي والفكري بين مي التي كانت تحيا في مجتمع شرقي محافظ، مقيدة نساؤه، وجبران في مجتمع غربي متفتّح، متحررة نساؤه. فاختلاف نهج الحياة والثقافة والتفكير جلي لا ينكر، ما خلق حاجزا منيعا يضاف إلى حاجز المسافة.

ليس من شك في أن خطابات جبران خليل جبران ومي زيادة ستبقى من أعظم كلاسيكيّات فنّ المراسلة في الوطن العربي والعالم. لكن، إن كانت لهذه العلاقة قيمة أدبية وفكرية وفنية لا تنكر، فإنها لا ترقى إلى مستوى حبّ صادق حقيقي. ثمة علامات استفهام كبيرة فيما يخص وصفها ب”الحب الصوفي” أو “العذري”. فقد كشفت شهادات أقرب الناس إلى جبران، من أمثال ميخائيل نعيمة، وجها آخر له. قال ميخائيل نعيمة إنه لم يكن “نبيا” لمجرد أنه ألف كتاباً أسماه “النبي” وإنه في واقع الأمر كان متورطا في ملذات جسدية وعلاقات عاطفية مع عدد من النساء في أمريكاَ. حدث ذلك في الوقت الذي كان يبعث فيه بأرق الرسائل إلى المرأة البريئة مي زيادة. فإننا نستخلص من هذه التجربة أن العلاقات العاطفية لا تقاس بالمسافات، ولا بالمدة الزمنية، ولا بحجم الرسائل، ولا بما تحمله من كلام جميل معبر ومؤثر، وإنما بالنوايا الحسنة والأعمال الطيبة والتضحية والاجتهاد للفوز بالحبيب. وجبران لم يجتهد أساساً للقاء مي زيادة إنقاذا لحريته، وحفظا لنهج حياته، وتجنبا لعلاقة مع امرأة شرقية تكلفه تضحيات وتنازلات هو في غنى عنها. لكنه كان في حاجة إلى الاحتفاظ بهذه المراسلة لأنه وجد في مي زيادة ما لم يجده في بقية النساء من حوله وهو رائحة الشرق. فمي زيادة امرأة تجسد هذا الشرق، والمراسلة جسر عابر للقارات يربطه بالأوطان التي رحل عنها وما برح يحن إليها. ووجد فيها المفكرة الملهمة، ووجد في هذه العلاقة مفرّا وسلواناً عن صخب المدينة وأعبائها، فصنع له عالما ضبابيا يلتقيها فيه بعيدا عن الواقع الذي كان يعيش فيه علاقات عاطفية وجنسية مع حسناوات أمريكا.

عن موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية

من تقديم مؤسس ورئيس تحرير جريدة رأي اليوم الإلكترونية

سياستنا في هذه الصحيفة“رأي اليوم”، ان نكون مستقلين في زمن الاستقطابات الصحافية والاعلامية الصاخب، واول عناوين هذا الاستقلال هو تقليص المصاريف والنفقات، والتمسك بالمهنية العالية، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بقدر الامكان، والانحياز الى القارئ فقط واملاءاته، فنحن في منطقة ملتهبة، تخرج من حرب لتقع في اخرى، في ظل خطف لثورات الامل في التغيير الديمقراطي من قبل ثورات مضادة اعادت عقارب الساعة الى الوراء للأسف.

اخترنا اسم الصحيفة الذي يركز على “الرأي” ليس “تقليلا” من اهمية الخبر، وانما تعزيز له، ففي ظل الاحداث المتسارعة، وتصاعد عمليات التضليل والخداع من قبل مؤسسات عربية وعالمية جبارة تجسد قوى وامبراطوريات اعلامية كبرى، تبرخ على ميزانيات بمليارات الدولارات، رأينا ان هذه المرحلة تتطلب تركيزا اكبر على الرأي المستقل والتحليل المتعمق، وتسمية الامور باسمائها دون خوف.

لقراءة المزيد



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثلاثون العدد 9209 الجمعة 8 حزيران (يونيو) 2018 - 23 رمضان 1439 هـ
مولود بن زادي - كاتب جزائري مقيم في بريطانيا


في الشرق: جبران ومي زيادة وفي الغرب روبرت براوننغ واليزابيث باريت


شهد العصر الفيكتوري في إنكلترا ميلاد واحدة من أجمل علاقات الحب في القرن التاسع عشر، وإحدى أشهر قصص الغزل في تاريخ الأدب الأوروبي والعالمي جمعت الأديبين الشهيرين روبرت براوننغ واليزابيث باريت، اتسمت بصفات الوفاء والتضحية والصدق والواقعية، تبادل فيها الشاعران الإنكليزيان رسائل تفيض برحيق الحب والوداد والطرب، وتطفح بأسمى عبارات الامتنان والتقدير والإجلال.

تشابه علاقتي جبران وبراوننغ

ولعلّ ما يثير الانتباه ونحن نتأمل هذه القصة، ونقرأ بين أسطر خطاباتها، ونجول بين كلماتها، ونسبح في مجاري معانيها، أوجه التشابه بينها وبين علاقة جبران خليل جبران ومي زيادة.. تشابه يرحل بنا من منتصف القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين، ومن ضباب الجزر البريطانية إلى ثلوج الولايات المتحدة ودفء الشرق الأوسط، ليحط بنا في عالم جبران ومي زيادة الضبابي. فكلتا العلاقتين جمعت بين أديبين. وكلتاهما تضمنت تبادل الرسائل، لتندرج بذلك ضمن أدب الرسائل وأدب الحب، وهو فن قائم بذاته، مستقل عن الأصناف الأدبية الأخرى، له جمالياته المميزة وأدواته الخاصة. وكلتاهما أثارت إعجاب الجماهير، وأنظار الباحثين، واهتمام المحللين، وأسالت من الحبر الكثير.

علاقة منبعها الإعجاب

ما يلفت الانتباه في علاقة مي زيادة بجبران أنها نشأت من إعجاب. فمع أنّ مي زيادة كانت محاطة بكوكبة من كبار الأدباء في الشرق من أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي وعباس محمود العقاد ومصطفى عبد الرازق، فقد أثار اهتمامها أكثر الأديب المهجري الذي لمع نجمه في سماء أمريكا، بمقالاته وأفكاره ومواقفه المختلفة المتأثرة بالبيئة الجديدة. وبعد اطلاعها على كتاب «الأجنحة المتكسرة» الصادر عام 1912، بعثت له برسالة عبرت له فيها عن إعجابها بفكره وأسلوبه، لم يتأخر جبران عن الرد عليها، لتنمو بينهما بعد ذلك علاقة تدرجت من الإعجاب إلى التودد، أثْرَت المكتبة العربية بأروع ما كُتِب في أدب الرسائل.

وبعيدا عن أمريكا والشرق الأوسط، وفي أوروبا وبالتحديد الجزر البريطانية، نشأت علاقة مماثلة جمعت الأديبين إليزابيث باريت وروبرت براوننغ. فقد أعجب الشاعر روبرت براوننغ بأشعار إليزابيث باريت، فعبّر لها عن ذلك في أول رسالة كتبها لها بتاريخ 10 يناير/كانون الثاني 1845، جاء في مستهلها: «أحب أبياتك الشعرية بكل قلبي، آنسة باريت.» وقد تدرجت المراسلة من حب الأشعار إلى حب الشاعرة نفسها. كانت باريت آنذاك في أواخر الثلاثينيات من عمرها. وقد عُرفت منذ صغرها بشغفها بالمطالعة وموهبتها في الكتابة، إذ أنها بدأت تقرأ الروايات ولم تتجاوز سن السادسة، وبدأت دراسة اللغة الإغريقية ولم تتجاوز العاشرة، وشرعت في التأليف ولم تتعد الرابعة عشرة من عمرها بإصدار ديوان ملحمي بعنوان «معركة الماراثون» (1820). فبلغت شهرة عالية تعدت حدود الجزر البريطانية، فاقت شهرة حبيبها براوننغ.

سجل حافل برسائل الحب

وبالمقارنة مع رسائل جبران إلى مي التي تمَّ جمعُها في كتاب «الشعلة الزرقاء» وعددها 37 رسالة خلال علاقتهما الطويلة، فقد تبادل براوننغ وباريت 573 رسالة حب خلال فترة قصيرة، تُحفَظ نسخها الأصلية المكتوبة باليد في معهد (ويلزلي) في ولاية ماساتشوستس الأمريكية. فقد قامت كارولين هازارد رئيسة معهد ويلزلي بشراء هذه الرسائل، وفي سنة 1930 تبرعت بها للمعهد، حيث بقيت إلى يومنا هذا. قال روبرت براوننغ لإليزابيث باريت في إحدى هذه الرسائل: «أشعر بأنه لو كان بوسعي أن أجدد نفسي، كأن أحوّل نفسي إلى ذهب، فإني مع ذلك لن أشتهي أن أكون أكثر من مجرد موضع الماس الذي يتحتّم عليك أن ترتديه دوماً». وها هي إليزابيث باريت ترد عليه بأجمل وأصدق عبارات الامتنان والتقدير والحب الذي يجعل الحبيب يشعر بأنه منصهر في الآخر وملك له: «والآن أصغ إليّ بدورك.. لقد أثَّرتَ فيّ تأثيرا أعمق مما كنت أتصور. لقد خفق قلبي غبطة لحضورك اليوم. فمن الآن فصاعدا، أنا لك في كل شيء».

الحب الحقيقي يكره التأخير

يقول الفيلسوف الروماني لوكيوس سينيكا: «الحب الحقيقي يكره التأخير ولا يحتمله». وقد سارت هذه العلاقة الغربية وفق هذا المبدأ ولم تخالفه.
فبينما صرف جبران عشرين سنة في مراسلة مي زيادة بدون نتيجة، فقد عجــّل روبرت براوننغ إلى لقاء إليزابيث باريت بعد خمسة أشهر فقط من انطلاق المراسلة. وتواصلت رسائل الغرام بينهما بين سنتي 1845 و1846.

ولم يكد يمضي عشرون شهرا على بداية المراسلة، التي تبادل فيها الشاعران مئات الرسائل التي تفيض بمشاعر الحب والحنان والشوق الصادقة، حتى تزوجا في السر يوم 12 سبتمبر/أيلول 1846.

فقد كان والدها المستبد يعارض زواجها، ما دفعها إلى عقد القران في الخفاء. وبعد الحفل الذي حضره سرا بعض أفراد أسرتها، فرّا من لندن إلى إيطاليا. فغضب منها والدها وحرمها من الميراث. وفي إيطاليا عاشت مع زوجها لمدة 15 سنة إلى أن توفيت في يوم 29 يونيو/حزيران 1861 في حضن زوجها.

لا تدعها تنتظر

يقول مثل إنكليزي «لا تدعها تنتظر لأنك تعلم أنها ستفعل». عشرون سنة هي المدة التي صرفها جبران في مراسلة مي زيادة من غير أي اجتهاد للقائها، عدا في عالم خيالي بعيد عن الواقع الذي كان يعيشه رفقة نخبة من النساء على رأسهن حبيبة الروح في أمريكا ماري هاسكل التي خصَّها بـ325 رسالة حب. في المقابل، عشرون شهرا هي كل ما كان يحتاجه روبرت براوننغ وإليزابيث باريت لتجسيد لقاء أبدي بعد لقاء أول خلال خمسة أشهر فقط من بداية المراسلة.

ولم يكن تجسيد هذا اللقاء وهذا الرباط الأبدي هينا، فقد تطلَّب ذلك التضحية وقبول الزواج سرّا وتحمل أعباء المغامرة والهروب إلى إيطاليا والاحتراق بنار البعد عن الأوطان والحنين إلى الأهل والأحباب والحرمان من الميراث.

وبينما رحل جبران بمي زيادة إلى عالم ضبابي صنع قضبانه بيديه، فإن براوننغ رحل بحبيبته إليزابيث باريت إلى إيطاليا، فمنحها فرصة السفر والتجوال والاكتشاف وعيش تجارب جديدة.

ولعلّ خير ما نستخلصه من تجربتي جبران – مي وبراوننغ – باريت هو أنّ «الحُبّ لَيْسَ مُطْلَقاً كَلاماً مَعْسُولاً يُرَدِّدُهُ اللِّسَان، وإنّمَا مَشَاعِرٌ صَادِقَةٌ تَتَجَلَّى في سُلُوكِ الإنْسَان». ومشاعر المحبة تجلت في سلوك براوننغ وفي قراره مصارحة إليزابيث باريت بحبه لها وبرغبته في أن يكون معها وهو ما تجسّد بفضل الإرادة سريعاً، خلال أشهر من بدء العلاقة.

وبينما آلت علاقتة جبران ـ مي زيادة الغامضة إلى مهب الريح وآلت بسيدة الأدب في الشرق مي زيادة إلى السجن والجنون، فإن علاقة براوننغ وإليزابيث باريت توّجت بالزواج والسعادة.

كَتَب لها براوننغ صباح يوم الزفاف رسالة تاريخية قال لها فيها: «إنك بلا ريب تتوقعين بعض الكلمات القليلة. فماذا ستكون يا ترى؟ حينما يمتلئ القلب سيفيض، لكن هذا الامتلاء سيظل خفيا في الأعماق، وستعجز الكلمات عن التعبير عن مقدار معزتك في نفسي. فأنت عزيزة كل المعزة على قلبي وروحي.

أمضي بوجداني إلى الماضي، فألفي أنك، في كل نقطة، وكل كلمة، وكل إشارة، وكل حرف، وكل لحظة من لحظات الصمت، كنتِ بالنسبة لي المرأة المثلى الكاملة. لا، لن أغير كلمة، ولا نظرة.. فكل أمل وهدفي هو الحفاظ على هذا الحب وليس الوقوع منه. أكتفي بهذا القدر يا أعز البشر. لقد منحتني أكبر دليل عن الحب الذي بوسع المرء أن يمنحه لغيره. إنني ممتن وفخور.. إلى أبعد الحدود.. فقد توجت بك».

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)