قراءة في تجربة ومسار المفكر والكاتب المغربي عبد الله العروي

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٦ مايو/ أيار ٢٠١٧
جريدة الحياة
نور الدين محقق


عبدالله العروي في زمن التجليات الفكرية الكبرى


«أن ترسم صورة للمفكر المغربي الكبير عبدالله العروي معناه أن ترسم صورة لمرحلة تاريخية مهمة عرفها الفكر العربي في أوج تجلياته الكبرى، بدءاً من مساءلة الفكر الإيديولوجي العربي، وصولاً إلى مساءلة الحياة اليومية والتعبير عنها وعن المجريات التي تقع فيها وتؤثر في سيروراته. ذلك أن رسم هذه الصورة يجب أن ينطلق من الأثر الجلي الذي خلفه كتابه العميق «الإيديولوجية العربية المعاصرة» في الوسط الثقافي العربي وردود الأفعال التي تلت صدوره. في هذا الكتاب يحدد بعمق مكونات - وخصائص - هذه الأيديولوجية، ويفكك بنية هذه الأيديولوجية منطلقاً في ذلك من تفكيك علاقة الذات (العرب) بالآخر (الغرب) من جهة وعلاقة هذه الذات نفسها بالماضي الذي شكّلها. ثم يحاول توضيح العلاقة التي تربطها بالماضي والمستقبل، وكيفية تعاملها مع الحاضر، وكيفية فهمها للفكر الكوني المحيط بها وطرق التعبير التي عبرت بها عن كيانها الفكري والوجداني.

هذا الكتاب الذي اعتبره مكسيم رودنسون كتاباً مهماً من ناحية وضوحه ومن حيث صدقيته، والذي اعتبره محمد برادة كتاباً يمتلك أهمية كبيرة بالنسبة إلى الثقافة العربية. وطبعا لن تكتمل عملية رسم هذه الصورة إلا بمساءلة كتابه «خواطر الصباح» بأجزائه الأربعة التي سجل فيها يومياته الشخصية وتأملاته الخاصة المرتبطة بالأحداث التي عاشها العالم في هذه السنين التي تتطرق إليها هذه الخواطر ذات البعد الفكري العميق والتحليل التأملي المركز على رغم كونها كتبت لحظة وقوع الأحداث المتحدث عنها. هذا طبعاً بالإضافة إلى كتبه الفكرية الأخرى مثل كتابه «العرب والفكر التاريخي» الذي توقف فيه عند «منطق الأيديولوجية العربية المعاصرة» و«العرب والتاريخ» و«المضمون القومي للثقافة» و«دراسة الثقافة» و«الماركسية تجاه الإيديولوجا الإسلامية» و«الماركسية ومثقف العالم الثالث» و«أزمة المثقف وأزمة المجتمع» وغيرها، وكتابه الآخر «أزمة المثقفين العرب» الذي تمحورت مواضيعه حول «العرب والتاريخ» و«سنة وتسنين» و«العرب وعلم الأجناس الثقافي» و«الأنتلجنسيا العربية والتاريخانية» و«مثقف العالم الثالث والماركسية»، وكتابه «مجمل تاريخ المغرب» وكتابه «من ديوان السياسة» و«كتابه «السنة والإصلاح»، وكتبه الأخرى التي توقف فيها عند تحديد المفاهيم في شكل تحليلي بعيد الغوص، وهي كالتالي: «مفهوم الأيديولوجيا» و«مفهوم الحرية» و«مفهوم الدولة» و«مفهوم التاريخ» و«مفهوم العقل».

ولد عبدالله العروي عام 1933 في مدينة أزمور، وتلقى تعليمه في المغرب، وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا هاجر إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا في باريس، وهناك حصل سنة 1956 على شهادة العلوم السياسية وعلى شهادة الدراسات العليا في التاريخ سنة 1958 ثم على شهادة التبريز في الإسلاميات عام 1963. وفي 1976 قدم أطروحة بعنوان «الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية: 1830- 1912» لنيل دكتوراه الدولة من جامعة السوربون.

منذ البدء، أي منذ أن كان تلميذاً، أُغرم عبدالله العروي بالقراءة وإعادة القراءة، فهو كما بطل روايته المركبة «أوراق»، كان قارئاً جيداً للفكر الغربي في أقوى نماذجه الفكرية من ماركس وهيغل ونيتشه وسارتر وغيرهم. وكان قارئاً للرواية العالمية في أصفى نماذجها وأعمقها من روايات دوستويفسكي وتولستوي إلى روايات فلوبير وبروست وجويس وهمنغواي وتوماس مان وسواهم ، بالإضافة إلى عشقه الكبير للفنون وفي مقدمها الفن السينمائي. أبان العروي في مختلف كتبه الفكرية عن هذا الغوص العميق في ثنايا الفكر الغربي محللاً ومسائلاً ومفككاً وبانياً وجهة نظر قوية تجاه ما يقرأ، وأبان أيضاً في كتبه الإبداعية السردية عن هذا البحث المضني للقبض على روح المجتمع وسبر أغواره، وفق رؤية شاسعة تحيط بالعقدة التاريخية والنفسية لهذا المجتمع. وهو أمر لم يستطع التوصل إليه إلا كبار الكتاب في العالم أجمع. ذلك أن عملية القبض هاته والوصول إلى جوهر الأشياء هي ما قد يميز روائي عن آخر ولا يتم ذلك في غياب معرفة بعمق اللغة والقدرة على التعبير بها في أدق التفاصيل.

رواية الثقافة

إن هذه المزاوجة العميقة التي يقوم بها عبدالله العروي في الدراسات التاريخانية التي يتناول من خلالها الفكر العربي منذ ما اصطلح عليه بعصر النهضة العربية، إذ فكك بنيات هذا الفكر المعبر عنها انطلاقا من أعمال كل من محمد عبده ولطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين وعلال الفاسي وسواهم وبين هذا الانجذاب القوي إلى كتابة الروايات في شكل مختلف عن المعتاد، فالرواية عنده تأخذ اتجاه رواية الثقافة ذات الحمولة الفكرية والوجدانية العميقة التي تكون وليدة التفكير وليس وليدة الانطباعية. هكذا نجد أن كل رواياته هي روايات ثقافة وبحث واستقصاء، فيها تجريب وفيها تعدد لغوي قوي وفيها استخلاص للأحداث، هي روايات تجمع بين قوة الشكل وعمق المضمون، وهي بالإضافة إلى ذلك «تبحث عن أشياء خارج المضامين المعقلنة والمذكورة عند الفلاسفة والأيديولوجيين والمؤرخين « ذلك أنها تكون وليدة «تجربة نفسانية، بكيفية من الكيفيات، تدعو المرء إلى نوع من الاستكشاف» على تعبيره في تعريفه للكتابة الروائية وفق وجهة نظره في الحوار الذي أجراه معه محمد الداهي في كتابه «عبدالله العروي من التاريخ إلى الحب». وهو أمر نجده واضحاً في رواياته هو نفسه بدءاً من روايتيه « الغربة» و«اليتيم» وامتداداً مع بقية رواياته الأخرى مثل «الفريق» و«أوراق» و«غيلة» و«الآفة». إن هذه الروايات لم يتم الاعتماد في كتابتها، كما يقول د. محمد برادة، على الموهبة والسليقة فقط، بل على الإدراك لتاريخ الرواية وتقنياتها، من هنا فقد جاءت عميقة ومعبرة.

حظيت أعمال المفكر المغربي عبدالله العروي بدراسات ومقاربات نقدية عدة، سواء ما تعلق بأعماله الفكرية أو بأعماله الإبداعية، وإن كان حظ الأولى منها أوفر، لما وفرت من رؤى ثاقبة تتعلق بالحداثة والتحديث، وبعلاقة المثقف بالمجتمع، وبالعلاقة الكائنة والممكنة بين الثقافي والسياسي، وكذلك بالتلاقح الثقافي بين الشرق والغرب وسواها من القضايا الفكرية. ومن بين الكتب التي تناولت أعماله، أو على الأقل، البعض منها، كتاب د. عبد السلام بنعبد العالي: «التاريخانية والتحديث: دراسات في أعمال لعبدالله العروي»، والذي صدر في نهاية عام 2010 عن دار توبقال.

يحدد عبد السلام بنعبد العالي في التقديم الذي صدّر به كتابه بأن موضوع الكتاب ينحصر في مساءلة أعمال عبدالله العروي، انطلاقاً من سؤال المنهج الذي هو هنا المنهج التاريخاني وسؤال المتن الذي هو هنا مقومات الفكر الإنساني والحديث منه على وجه التحديد. وبالتالي إن الكتاب يمهّد للإجابة عن الأسئلة الآتية: هل بإمكان التاريخانية بالفعل أن تمكننا من استيعاب الحداثة؟ وهل استطاع صاحبها أن يساهم في شق السبيل نحو تحديث الفكر العربي؟ أم أنه أخذ يبتعد هو نفسه شيئاً فشيئاً عما اعتقده طويلاً أنه طريق الانفراج؟

للإجابة عن هذه الأسئلة المركزية، يحاول بنعبد العالي في الدراسة الأولى من الكتاب وعنوانها: «في مفهوم الأيديولوجيا»، مناقشة تعريف عبدالله العروي لهذا المفهوم اعتماداً على كتابه «مفهوم الأيديولوجيا»، باعتبار أن هذا المفهوم، كما يذهب إلى ذلك العروي نفسه «ليس مفهوماً عادياً يعبر عن واقع ملموس، فيوصف وصفاً شافياً، وليس مفهوماً متولداً عن بديهيات فيحد حداً مجرداً، وإنما هو مفهوم اجتماعي تاريخي، وبالتالي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عدة. إنه يمثل «تراكم معان»، مثله في ذلك مثل مفاهيم محورية أخرى كالدولة أو الحرية أو المادة أو الإنسان» (ص11). يقارب بنعبد العالي هذا المفهوم عند العروي متوقفاً عند أهم النظريات التي قامت بعملية تحديده، خصوصاً الماركسية والفرويدية والنيتشوية، مستعرضاً آراء ميشيل فوكو في هذا الصدد، وكيفية تقديم العروي لها ومناقشته المستفيضة والذكية، مبدياً بعض الملاحظات في هذه المناقشة المنفتحة على السؤال الفلسفي بكثير من العمق.

ينتقل بنعبد العالي، في دراسته الثانية إلى مقاربة كتاب عبدالله العروي «خواطر الصباح»، الجزء الأول، مبدياً ملاحظاته التي توقفت عند هيمنة صوت المثقف في اليوميات، وأن حضور السياسي فيها لا يتم إلا انطلاقاً من الهم الثقافي، وإن كان هناك غياب للسياسة فيها، فهناك حضور للسياسي، كما أن هناك وعياً حاداً بأهمية دور المثقف في المجتمعات العربية المعاصرة، وغير ذلك من القضايا الفكرية والثقافية. وامتداداً لهذه الدراسة يقف بنعبد العالي في دراسة أخرى متممة، عند الجزء الثالث من كتاب «خواطر الصباح» متوقفاً عند علاقة المثقف ممثلاً هنا بصاحب الكتاب ذاته، بالسياسة، خالصاً إلى أن العروي، وإن كان مهووساً بالسياسة، فإنه لم «يغرق فيها»على حد تعبيره. يقول بنعبد العالي في هذا الصدد: «ظل هنا أيضاً أستاذ تاريخ يلاحظ ويسجل كما يفعل المؤرخون القدامى»، لكنه ليس مؤرخ وقائع وأحداث، وإنما هو محلل مهتم بالسياسة، متابع للتطورات الدولية والعربية، حامل لهموم بلاده وقضاياها المصيرية» (ص 31).

مفهوم العقل

وبخصوص نقد العقل العربي والإسلامي، فإن بنعبد العالي، يقارب ذلك في دراسة أخرى، انطلاقاً من كتاب العروي «مفهوم العقل»، خالصاً إلى أن «ما ميز العقل الإسلامي في نظر الأستاذ العروي بالضبط هو تأرجحه بين موقفين حول هذا الممكن. فبينما اعتبره أمثال محمد عبده واقعاً متحققاً عده أمثال ابن خلدون من قبيل الظن الذي لا يغني... وما سبيل الخروج من هذا التأرجح؟ واضح أنه الذهاب بالمنطق الخلدوني إلى أبعد مداه ووضع منطق فعلي للفعل واعتبار أن تأصيل عقل الفعل لا يتم إلا بنقض عقل الاسم» (ص 42). ويقف عبدالسلام بنعبد العالي في دراسة أخرى، في الكتاب، عند «الترجمة الذاتية» التي قام بها العروي لكتابه الرائد «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»، والتي جاءت كما يقول هو نفسه تصحيحاً لترجمة سابقة ظهرت في بيروت، إثر صدور الكتاب في طبعته الفرنسية، والتي أنجزها المترجم محمد عيتاني. وقد جاءت ترجمة عبدالله العروي عام 1996 أي بعد نحو ثلاثين سنة من الصيغة الفرنسية للكتاب وأكثر من ربع قرن بعد الترجمة الأولى. لكن ما يطرحه بنعبد العالي في هذا الصدد، في مناقشته مقدمة الترجمة التي أنجزها العروي يذهب إلى أن هذه الترجمة هي «النص الأصلي» للكتاب، خصوصاً أنه الخبير بمجال الترجمة، فقد صدر له كتاب عنها تحت عنوان «في الترجمة»، وهو يرى أن الفترة الزمنية بين صدور كتاب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» باللغة الفرنسية والترجمة التي قام بها العروي للكتاب، إضافة إلى اللغة المنقول منها والأخرى المنقول إليها ستجعل من ترجمة العروي كتابه هذا، هي الأخرى، لا يمكن أن تكون بمثابة الأصل حتى وإن أشار الكاتب/ المترجم الأصلي عبدالله العروي إلى ذلك.

هكذا تبدو ملامح صورة المفكر عبد الله العروي، هذا المفكر المغربي الكبير الذي طبع الثقافة العربية فكراً وإبداعاً بمؤلفاته التي حفرت عميقاً في تربته.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)