في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي

, بقلم محمد بكري


 من الشعب وإلى الشعب


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي
بيار أبي صعب


ثلاثون عاماً ؟ لا نكاد نصدّق أن كل هذا الوقت مرّ على رحيل عاصي. يقال إن الكبار لا يرحلون، بل يحومون حولنا، يتلصّصون على حياتنا، ويستوطنون وجداننا، يرافقون لحظات الفرح والأسى والغضب والنشوة والأحلام غير المكتملة، يتركون بصماتهم الخفيّة على أيّامنا، ويعشّشون في لحظات معيّنة من عمرنا الهارب.

هذا الكلام ينطبق على الفنّانين الذين صاغوا الوجدان الشعبي والثقافة الوطنيّة… وبالتحديد على عاصي الرحباني (1923 ــ 1986). عملاق عاش في جلد رجل بسيط، يشبهنا ويختزن حكاياتنا. رجل حسّاس وخصب ونزق، يحوّل كل ما يلمسه إلى أغنيات ومسرحيات. اخترع لنا لغة، ووطناً من أوهام، وقصص حبّ لا تنتهي، وقرية أبديّة يتصارع فيها الخير والشر، ووطناً نموذجيّاً من الكرتون نفسه الذي تصنع به ديكورات المسرح. وجمّد الزمن عند الطفولة المنسيّة «على سطح الجيران»… ورحل أوّل الصيف، في التاريخ الذي كان وزير فرنسي قد طوّبه، قبل أربع سنوات، عيداً للموسيقى. منذ ذلك الحين نحيي ذكرى عاصي ونحتفل بـ«عيد الموسيقى» ونستقبل الصيف في اليوم نفسه. لكن أين كنّا كل هذه المدّة؟ ولماذا لم ننتبه إلى الوقت ينسل من بين أصابعنا؟ كل شيء تغيّر، والأمور على حالها. تغيّرت أسماء السماسرة والقتلة والطغاة، تعاقب المخاتير ورؤساء البلديّة، وسُرقت «جرار» كثيرة، وما زال «الغريب» ينشر الذعر في لاوعينا الجماعي، وما زالت السيارة «مش عم تمشي» رغم كثرة «الدفشات». وكم مدلج مات أمام البوابة! ولبنان هذه الكذبة التي صارت زلمة ـــ مثل راجح في «بياع الخواتم» ـــ يحاول جاهداً أن يبقى وطن الأوبريت الرحبانيّة.

نستعيد اليوم عبقري المؤسسة الرحبانيّة، في زمن الطوفان، كأنّنا نتمسّك بالثوابت التي يرمز إليها ويمثّلها، كأننا نحجّ إلى الزمن السعيد على رغم ثغراته الجوهريّة، وهشاشته، وكل الأخطاء والأكاذيب والتنازلات التي أوصلتنا إلى هنا. حين نبحث عن إحياء الذاكرة المضيئة، عن صحوة وطنيّة، عن الشعر والجمال، عن القدس والشام ومكّة وبغداد والأندلس، عن رندلى ويارا وجلنار، عن راحة البال والطمأنينة والبساطة، وحتّى عن السذاجة الأولى صنو الحبّ الأوّل، نرى أمامنا الرحابنة. نقول عاصي، ونفكّر بالمؤسسة الرحبانيّة بأقانيمها الثلاثة، عاصي، والراحل الكبير منصور، والفنّانة الخالدة فيروز التي ما زلنا نطالبها بالكثير. نقول عاصي، ونفكّر بزياد الابن الرهيب المعتكف في الصمت، وقد زعزع أسس وطن الأوبريت، وتوّج التركة العظيمة بوعيه النقدي والسياسي… وتحيّته «إلى عاصي». عاصي كل هؤلاء، وغيرهم أيضاً. في الضوء، وخلف الستارة المخمليّة حيث تحدث الأمور فعلاً. العائلة الرحبانيّة الكبيرة والصغيرة. ريما المؤتمنة على الألبوم العائلي، والتي تطالعنا اليوم بفيلم جديد، يحفر في الوجدان الجماعي… عاصي هو ذلك الجذع الصلب الذي تدين له الموسيقى العربية بالكثير. ما زال حاضراً بيننا، على الأثير، وفي الأسطوانات القديمة 33 لفّة التي تعود اليوم إلى الواجهة، وفي أكداس الأقراص المدمّجة، وعلى اليوتيوب وفي لوائح الـmp3 التي لا تنتهي. في أرشيفات سريّة نعرفها ولا نعرفها. وعلى لسان الناس، هؤلاء الذين استقى منهم الرحبانيان ما أبدعاه من قصائد وألحان.

نستعيد عاصي في الذكرى الثلاثين، مردّدين مع فيروز التي غنّت له يوم تعب دماغه، من كلمات منصور وألحان زياد ابن السابعة عشرة: «سألوني الناس عنّك يا حبيبي». إنه هنا أكثر من أي وقت مضى، عاصي. وسط هذا الخراب العظيم الذي يلف المنطقة، وسحب الدخان الكثيفة في سماء لبنان. نستعيد صورة «الأب» بعدما تساقطت التماثيل وانهارت الأساطير، وسط غياب مخجل، فظيع، للدولة اللبنانيّة. أي دولة؟ دولة قاطعي الطرق، وملوك الطوائف؟ الدولة البائسة التي يحكمها سماسرة وقوادون ولصوص، كما تختصرها أغنية «بهالبلد كل شي بيصير»، من الطبيعي ألا تعرفك… وإن عرفتك فلن تحبّك! لكن ما همّ؟ من بيروت ودمشق وتونس والجزائر… حتّى جبل الشيخ ودير الزور وحيفا المحتلّة، نتوارث أغنياتك. تمثالك الحقيقي في وجدان الشعب. كأي فنّان عظيم على امتداد التاريخ.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 مكانه اليوم بين الملحّنين الخالدين


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي
بشير صفير


عاصي وفيروز في الستينيات... مسيرة صاخبة وقصة فريدة


يُروى على سبيل النكتة أنّ طالباً في معهدٍ موسيقي أمضى سنواتٍ في الدراسة مركزاً جهوده على مادة التأليف. أراد أن يصبح مؤلفاً خلوقاً مسلّحاً بشهادة ممهورة بختم المعهد وبتوقيعٍ آسرٍ وواثقٍ كشخصية صاحبه، مدير المعهد الدكتور في الموسيقى.

لم يرضَ الطالب أن يكون عازفاً ينفّذ مدوّنات كتبها غيره. هذه إهانة.

هكذا، وطلباً للعُلى، سهر الليالي وكدّ وتعِبَ على وضع المقطوعة الموسيقية التي تخوّله نيل الشهادة التي ينتظرها صدر الدار بصمت. قبيل التقدّم إلى الامتحان، راح الشاب الطموح يحلم: تصفيق حاد، آلاف تهتف باسمه، شهرة تتخطى حدود التاريخ واسم عصيّ على الزمن، إلخ… كل هذه الغبطة أعدمتها علامة معدومة منحته إياها اللجنة الفاحِصة: واحد على عشرين! خرج من الصفّ، متوجّها أغلب الظن إلى أقرب معالج نفسي، مروراً بأحد أروقة المعهد حيث صادف تمثالاً نصفياً لبيتهوفن يزيّن المكان كما هي الحال عموماً في معظم المعاهد الموسيقية. توقّف التلميذ المهزوم أمام المؤلف الألماني ذي النظرة الحادة، مدّ رأسه صوبه قليلاً ودَنْدَن على «مسْمَعه» متهكماً مقهوراً، ومُمَيِّعاً حرف النون: «نَ نَ نَ ناااا»… مقلداً بذلك النوتات الأربع التي يستهل بها المؤلف الأصمّ سمفونيّته الخامسة، والتي تعتبر من أشهر النغمات في التاريخ رغم بساطتها ومحدوديتها لناحية عدد النوتات المستخدمة فيها (أربع نوتات) وتنوعها (نوتتان).
عظيمة هذه النكتة الموسيقية. فعدا عن الضحك التي ينتج منها — والضحك مقدَّس — تشرح دلالاتها كل المسألة المتعلّقة بالفارق الجوهري وغير القابل للتفسير بين اللحن البسيط واللحن التافه. بين اللحن البسيط الجميل الخالد واللحن المعقّد الفارغ العليل. والأهم أنها توفّر علينا، اليوم، في الذكرى الثلاثين لرحيل عاصي الرحباني (4 مايو 1923 - 21 يونيو 1986)، شرحاً لصفةٍ يتمتّع بها الأخير ويصعب تبيان ماهيّتها بالكلام، أمّا بالموسيقى فمستحيل.

لكن، هل يُعقل استهلال استعادة ذكرى رحيل كبير كعاصي الرحباني بنكتة وباستعداد للضحك وبرغبةٍ في الإضحاك؟ نعم، ولمَ لا؟ مجرّد أننا ما زلنا (وسنظل) نستعيد ذكراه، يعني أنه لم (ولن) يمت. وفي هذا فرح كبير والضحك أعلى أنواع الفرح، لأنه فرحٌ لاواعٍ في لحظات ذروته. إنه نوعٌ من الفرح لديه قدرة على تغيير ملامح الإنسان لشدّة كثافته. تماماً كالحزن اللاواعي، أي البكاء. المذهل أنهما يلتقيان أحياناً حيث يصبح البكاء الشديد مشابهاً في الصوت والصورة للضحك الشديد… وغالباً ما تنهمر دموعنا في نوبة ضحك.

بالبكاء، بالضحك، بحالة من اللاوعي نتذكّر من لا ننساه لحظة أصلاً. ها قد بدأنا بالوجدانيات على ما يبدو. لنعد إذاً إلى النكتة وتحديداً إلى تفصيلٍ مهمٍ فيها. هذا التفصيل هو أساس النكتة، بحيث أنه الضدّ الذي يصطدم بنقيضه لمفاجأة الدماغ وجعله «ينفجر» ضحكاً. والمقصود تحديداً الثنائية المؤلَّفة من العلامة المتدنية مقابل الجهد والتعب والسهر. بمعنى آخر، لو روَينا الطرفة ذاتها وقلنا إن التلميذ/الأضحوكة نال علامة عالية، لفشلت النكتة. لكن، بِجَدّ، ماذا يغيّر في واقع الحال لو أنه، في الحقيقة، نال عشرين على عشرين؟ لا شيء. المعيار ليس العلامة بل من يضعها. والعلامة على التأليف (وتحديداً في مجال التلحين… أي خلاصة خلاصات التأليف) لا يضعها سوى المجتمع بأكمله وعلى مدى سنوات. عاصي الرحباني هو الملحّن الذي نال وسينال أعلى العلامات على معظم أعماله (وعبارة «معظم أعماله» تنطبق على باخ وموزار وبيتهوفن شخصياً… ولا أحد في التاريخ تنطبق عليه عبارة «كل أعماله»). وهنا السؤال الأصعب: كيف يعمل المجتمع لوضع علامته؟ ما هي معاييره؟ عاصي يقول، بما معناه، إن الجمهور بمجمله يحكم بشكل صحيح على العمل الفني. ويقول أحد كبار صنّاع أغنية البوب الأجنبية الجيدة في العالم (وذلك في عصرها الذهبي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي) إنّ الجمهور ما انفكّ يفاجئه، فيعترف: «نعمل على أسطوانة من عشر أغنيات. نتوقّع النجاح للأغنية كذا، والفشل للأغنية كذا، فيحدث العكس! لم يحصل، على مدى عشرات الأسطوانات والسنوات، أن تشاركنا الرأي نحن ـ صانعي العمل وخالقيه ـ والجمهور… لكن، مع الوقت ندرك أننا كنّا مخطئين بتقديرنا وأن الناس تعطي الرأي الدقيق دوماً»! صحيح هذا الكلام، لكن يجب أن نضيف معياراً هاماً، وهو الوقت. إذ، قد يمنح الجمهور (وبالأخص أو تحديداً في فترات الانحطاط) تقديراً عالياً لتفاهةٍ ما. لكن لم يحصل في تاريخ الموسيقى (والفن) أن دام ذلك طويلاً. فالتقدير الآتي من مجتمع مهووس بالترفيه، مشكوك فيه من نفسه. بمعنى أن المجتمع ذاته سينفر، بعد حين، من عمل أحبّه، لمجرّد أنه استهلكَه. هذه حال مجتمعنا الآن، في لبنان والعالم أيضاً.

بين الموهبة والتعب والتفاني والعِلم والفطرة والسهر والصدق والإخلاص والإنسانية، حجز عاصي الرحباني خلوده بين أهمّ الملحّنين في التاريخ، على مدى العصور، في الشرق والغرب… اسمه الأخوين رحباني. لقبه فيروز. روحه زياد.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 هكذا أبدع زياد أعجوبة «إلى عاصي»


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي
بشير صفير


متوسطاً زياد وفيروز


التحية شيء والتكريم شيء آخر. بعد رحيله، قُدّمت لعاصي الرحباني تحيات عدّة، منها ملفنا هذا وهو بالمناسبة لا يرقى التحية شيء والتكريم شيء آخر. بعد رحيله، قُدّمت لعاصي الرحباني تحيات عدّة، منها ملفنا هذا وهو بالمناسبة لا يرقى إلى منزلة أدنى تكريم ممكن. ريما الرحباني قدّمت لوالدها، في مجالها (الإخراج) أكثر من تحية، كانت كلّها لائقة، فيها الكثير من الحب والتقدير.

لكن عاصي الرحباني لم يُكرَّم إلاّ مرّة واحدة بعد غيابه: أسطوانة «إلى عاصي». فهي ليست عملاً غنائياً موسيقياً. إنها أعجوبة. الصوت، صوتها، أعجوبة. الألحان أعجوبة. التوزيع الموسيقي — ومن غيرك يا زياد؟ — أعاجيب.

رحل عاصي الرحباني في 21 حزيران (يونيو) 1986. بدأ زياد الرحباني عام 1988 العمل على إعادة توزيع 17 أغنية ومقطوعة موسيقية واحدة («جسر القمر» التي تفتتح الأسطوانة وتختتمها، بتوزيعَين مختلفَين… طبعاً!) من ألحان الأخوين رحباني لإنجاز «إلى عاصي». والأدق أنّ العمل على هذا التكريم بدأ في حزيران 1986، قبيل رحيل عاصي ببضعة أيام، عندما وزَّع زياد في بريطانيا، خلال التحضير لحفلات فيروز في لندن، أغنية «شتّي يا دنية». إدراج هذه الأغنية في البرنامج في اللحظة الأخيرة دفعه إلى كتابة توزيع جديد لها في ليلة واحدة (!)، لتكون أوّل وردة في باقة أغنيات «إلى عاصي». استمر العمل على الألبوم بين اليونان وبيروت حتى عام 1995. نفّذت «الأوركسترا السمفونية للإذاعة الرسمية اليونانية» التسجيل بقيادة زياد الذي أضاف عزفه على عدّة آلات، على رأسها طبعاً البزُق والبيانو. والملفت أنه ساوى في الحضور بين هاتَين الآلتين العزيزتَين أولاً على قلب عاصي وثانياً على قلبه.

صدر «إلى عاصي» عام 1995 على CD وكاسيت. حورِبَ من قبل أعداء الموسيقى. لكن الجبل صمد وبات من التسجيلات الأكثر مبيعاً في تاريخ لبنان. وبضمير مرتاح نقول، إن أردتم أن تهدوا أجنبياً أو مبتدئاً ألبومَين لفيروز، فليكن أحدهما «إلى عاصي» وإن أردتم واحداً فقط، فليكن «إلى عاصي». فهو بدون شك وبدون منازع أهم مادة صوتية صدح بها هذا الشرق في تاريخه لغاية تاريخه.

منذ سنوات قليلة، انبعثت الحياة بأسطوانات الفينيل (Vinyl) بعد غيبوبة دامت أكثر من ربع قرن لأسباب عدّة لا مجال للدخول في تفاصيلها الآن. هكذا، وعندما تأكد منتج «إلى عاصي» (صوت الشرق) من عودة الاهتمام بالأسطوانات القديمة، أعاد طبع الألبوم التاريخي. نعم، بات «إلى عاصي» متوافراً في السوق على فينيل 180 غْرام (أسطوانتان في علبة واحدة — علّتها أنها محشورة في جيب واحد بدلاً من اثنين وأهمِلت كل المعلومات القيّمة الموجودة في الكتيِّب الأصلي، توفيراً لبضعة سنتات!). إنه أجمل حدث ممكن يحصل لمن يعشق هذا العمل ويعرف القيمة الصوتية للأسطوانات الفينيل. إنها أحلى هدية في عيد الموسيقى، في ذكرى غياب عاصي عن الوجود، وفي غياب فيروز وزياد عن السمع!

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 التركة الرحبانية : شو بيبقى من الرواية؟


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي
عناية جابر


عاصي ومنصور


مع مرض عاصي، ثم موته في 21 حزيران (يونيو) 1986 في «مستشفى الجامعة الأميركية» في بيروت، اهتّزت روح اللحن، وروح الكلمة، فيما بقي صوت السيدة مُدوّراً متكاملاً وشاعرياً، حتى في غنائها لزياد ذلك الكمّ الجديد من يوميات عشق لبناني، رقته ونفاد صبره وتحدّيه وحنوّه الى «عنتريات غرامية» لمحبين لبنانيين تحديداً.

بعد موت عاصي، دُقّ ناقوس الخطر، ولاح بيّناً حال انسداد أفق. افضى فعلاً الى انهيار كبير بدل أن نقول انزياحاً، لنرى ونسمع بملء العين والسمع أفول مملكة ذات مغزى لبناني، لمّا أن ذلك الأفول قطع مع ذاكرة لبنانية اقتحمت عالم المستقبل. ذاكرة لبنانية فولكلورية، عربية تراثية.

عرف عاصي تماماً، ما يريدهُ من الموسيقى العربية. رأى شيئاً محدداً ومشى إليه، وأبصر ذلك الأفق العربي المنفتح بمعية صوت فيروز فذهب إليه باحثاً، مُهتدياً بالسليقة الشعورية العصبية. والنتيجة أنه اهتدى في نهاية الأمر الى عروبية واسعة انطلاقاً من لبنانية بالغة الخصوصية.

أخّوة عاصي ومنصور ليست بالضرورة أخوّة الصورة الواحدة ولا تطابقها. طبعاً من دون تلك الأخّوة ما كان للفن اللبناني شأنه الذي نعرف، سوى أن الفرق بين الإثنين موجود، فثمة تأثر منصور بالكلاسيك الشرقي والكلاسيك الديني المسيحي (لا تهجرني/ لا تنساني). كما عند منصور الظل الخفّي الى حد، للطابع المصري والطرب المصري (غالي الدهب غالي).

عند عاصي تلك النسائج والوتائر التي محضها كل «عبقريته»، وعجنها بمخزونه وتأثراته وفيها احاسيس الناس ومخيلاتهم ورغباتهم («علموّني هنّي علموّني»، «نسّم علينا الهوى»، «بحبك ما بعرف هنّ قالولي»، «نسّم علينا الهوا») الى سواها من أغنيات طالعة من التربة الخاصة بنكهة عاصي وهذيان عاصي وحنان ورقة عاصي.

يصعب بعد موت عاصي (لا نريد هنا الدخول في متاهات الخلافات بين الأبناء والورثة) على المتتبعين والمهتمين بحال الغناء والموسيقى والكلمة، العربي واللبناني على وجه الخصوص، الوقوع راهناً على سوية ما، في عملية تراكم حضاري فنّي مُرتجى. ذلك أن الانقطاع بائن وجلّي ومُدوٍّ وصارخ، ومُفارق حتى اللحظة نال من كل الحيوية اللبنانية التي تهاوت كما لو فُرّغ داخلها، ومن عدم استفادتها مما تركهُ ذلك الرجل.

بل الأصحّ كما لو أنها انقلبت على انجازاته في حركة قصدية تهدف الى تسطيح الفن اللبناني والعربي تالياً، بحجة جعل السائد المشوّش متماشياً مع العصر، ومفارقاً لتلك اللمعات الجمالية التي لن تتكرر بعد رحيل عاصي. ما نسمعه اليوم يبعث على الشعور بالغرابة بعبارة رقيقة لكي لا نُغالي، وبالقلق الذي يصل الى حد التجديف بأغلب المغنيين والمغنيات: الصوت، اللحن، الكلمة، الإحساس، المخيلة... ثم الانتماء، فلا تعرف الى ماذا ينتمي هذا الذي نسمعه، وهنا ميزة عاصي وتفرّده، معه تحس بدفء الوطن والحبيب والأشياء... والله.

بعد رحيل عاصي، ثمة ذلك التكرار عند الرحابنة، كمن يسرق الحانه نفسه ويكررها ويتعامل معها كأنها الحان غريبة عنه، يُعيد إنتاجها بوصفها الحاناً جديدة. بقي عاصي حتى اللحظة «المازورة» الفعلية التي قاست بها فيروز اختياراتها وإن أضاف زياد ذلك الكمّ من يومياتنا بصوت فيروز المغناج هذه المرّة، الشبابي والخارج عن الـ «ستيل» المعروف عنها مع الحفاظ على الروح الظليلة لمعاني القطع الأصلية وأزمنتها وإيقاعاتها الداخلية ومراميها الفنية والثقافية التي عمل زياد على تسجيلها (ما يقارب من عشرين أغنية مختارة من أرشيف عاصي وفيروز) تحت عنوان «الى عاصي».

بعد رحيل عاصي، فقدنا ذلك العنفوان، ولغة الجذور، والحب الذي يُذيب الأفئدة، ونسائم في القرى والسهول وبيوت القرميد وتلك الغصة القاتلة للشوق. وبقي لدينا ذلك الخلف غير الصالح من المغنين والمغنيات، والموسيقيين والموسيقيات، والشعراء والشاعرات الساعين الى قتل الإبداع بكل ما أوتيت حناجرهم من وعيد. وبكل تلك المكابرة على انعدام الصدق والموهبة.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 ريما الرحباني تتذكّر الأب والفنان


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي


مع الصبية ريما


 ما هو السر الذي تعرفينه عن عاصي الرحباني والذي ترين أن الوقت حان للكشف عنه بعد مرور 30 عاماً على رحيله ؟

أسرار ما في وإذا في. مش بعد 30 سنة رح بوح فيها!.. يمكن بعد أكتر شوي من 30 سنة!

 مرّت ذكرى غياب عاصي الـ25 بصمت شبه تام وها هي الذكرى الـ30 تحل اليوم بصمت شبه تام أيضاً. لماذا لم تتحرّك الدولة والكونسرفتوار والوزارات المعنية للقيام بما يليق بهذه الذكرى ؟

إجمالاً هيدا السؤال لازم انا إسألو مش جاوب عليه! بس إنّو أيّ دولة؟ ووزارات وكونسرفتوار؟ عدا عن إنّو قفلة السؤال بتجاوب عن السؤال، هل قادرين يعملوا شي يليق بالذكرى ؟

هيّي الدولة غايبة عن الدولة! أمّا فكرة التكريم ف انا ما بحبّا وما بتعنيلي بحس محبّة الناس أحلى وأصدق تكريم اذا بدّنا نسمّيه تكريم. وبمفهومي الخاص اذا بدّك تكرّم شخص، بدّك تكون من مستواه وطلوع حتّى نقدر نعتبر إنّك عم تكرّمو، ما فيك تكون ما دونه وتكرّمو! وإلا بيكون هوّي عم يكرّمك، أو بمعنى أصح عم تكرّم حالك! ومن المتعارف عليه بالتكريم اللي بيصير إجمالاً، إنو بيعملوا خطابات وفرمانات وكلام ما بعرف بشو بيفيد، غير إنو بيغيب عن الوعي الواحد كأنّو عم يحضر نشرة أخبار!
انا بحس تكريم إنسان متل عاصي الرحباني بيكون ببث أعمالو الأصليّة مش اللي بتنعاد من الأجيال اللي صعدت! يعني أكيد مش بإعادة تأدية الأغاني، اللي الأصل تبعها موجود، لأنو ع الأكيد والمضمون إنو أنجح من الإعادة! فما بفهم شو بيقصدوا بهالعادة! ولا بإنّو ينحكى عنّو. ومين اللي بدّو يحكي عنّو!؟

 أخبرينا عن علاقتك بعاصي الاب ؟

علاقتي ب بيّي كانت كتير خاصة انا الوحيدة اللي بقيت بالبيت. نحنا عيلة الكل بيعرف إنّو تفرّقنا كتير واجتمعنا كتير، وانا الوحيدة اللي عشت معو كل المراحل رافقتو بكل اللي مرق فيه وكنّا كتير صحاب. كنت الصديقة اللي بيحكيلا وبيشكيلا كوننا بقينا فترة من الزمن انا وإيّاه لحالنا.

 أخبرينا عن علاقتك بعاصي الاب ؟

علاقتي ب بيّي كانت كتير خاصة انا الوحيدة اللي بقيت بالبيت. نحنا عيلة الكل بيعرف إنّو تفرّقنا كتير واجتمعنا كتير، وانا الوحيدة اللي عشت معو كل المراحل رافقتو بكل اللي مرق فيه وكنّا كتير صحاب. كنت الصديقة اللي بيحكيلا وبيشكيلا كوننا بقينا فترة من الزمن انا وإيّاه لحالنا.

كان في قعدات ليليّة نتجادل نتناقش نتشارع نحكي ماورائيّات.. يحكيلي قصصو مشاكلو هواجسو. إقهرو يقهرني نحرقص بعضنا نتسلّى ببعضنا. نعمل قرّادة.. وليليّة كان في محطّة قراية، كنت إقعد إقرالو أعمال لا تعد ولا تحصى ما تنفذّت كاتبا بخط إيدو وخطو كان كتير زغير من الصعب فك رموزو. وأوقات كنت إقرالو إشيا انا كاتبتا.. كان يهمّو رأيي دايماً يسألني رأيي بإشيا كتيرة وبالشغل. كان محمّلني مسؤوليّة من انا وزغيرة ومعوّدني ع الصراحة مهما كلّف الأمر وع الإختيار.

 هل تغيرت نظرتك إليه ؟

مع العمر والوقت وكل الإشيا اللي مرقنا فيا وعشناها.. نظرتي إلو تغيّرت. لمّا كان موجود كنت حسّو بيّي أكتر.. مدري كيف الإنسان دايماً بيحس أهلو تحصيل حاصل، خاصة إذا كان عايش معن. ف لأني كنت معو كل الوقت ما كنت فكّر فيه أو قدّرو أو إستوعب مين هوّي. اليوم صرت بشوفو أكتر هالإنسان العظيم والمهم اللي بوقتا كان بيّي وكنت إقعد جادلو وناقشو وناقمو قد ما عنيدة وصريحة ومتل ما كان يحبّني كون.. كنت حبّو كتير صرت حبّو أكتر.
ومتلي متل ملايين الناس اللي ربيو على هالفن وحبّوه لأن حسّوه وما إحتاجوا لا لتحليلات ولا لفلسفات.. هيك فات ع قلوبن ببساطة وما عاد طلع منها. متل ما بتقول فيروز!

 ماذا تحضّرين في ذكرى غياب عاصي هذه السنة ؟

بما إنّي ربيت بالمسرح والإستديو لأنّو أهلنا كانوا ياخدونا معن دايماً، ووقت ما نكون معن نكون محوّلين البيت لمسرح او إستديو، كان بيّي مجهّزنا بكل العدّة، كاميرات وآلات تسجيل ومونتاج.. وطبعاً كان مموّل ومشجّع لكل أعمالنا. هيدا كان عالمنا ولعبنا الوحيد. فكنا كلنا نصور سوبر 8، بس المشكلة إنّو الأفلام كانت صامتة! متل الدولة أو متلنا إذا بدّك! سنة 79 أخدوني معن ع الشارقة، كانت تاني سفرة إلي بعد لندن 78 اللي كنّا فيها انا وليال، هيدا غير الشام طبعاً بس الشام ما بعتبرها سفرة لأن كانت متل بيتنا كنّا كل سنة نروح معن ع الشام.

ف سنة 79 كنت بعد ما طبّقت الـ13 سنة ونص، قرّرت إني صوّر الحفلة كاملة، فعليّاً كانوا حفلتين، طبعاً موّل بيّي هالعمل اللي كان يكلّف ثروة وقتا، وما بعرف كيف إقتنع بهالشي لَبَل رحّب.. وصوّرتا على ليلتين إنّما الكاميرا السوبر 8 كانت جدًّا بدائيّة، محمولة بالإيد، والبكرة بأحلى أحوالا طولا تلات دقايق، والمشكلة الكبيرة طبعاً إنّها بلا صوت! رجعنا على بيروت، منتجت التصوير على بكرات كبيرة قص وتلزيق، وبس! ما عدنا حضرناها بحياتنا! إنّو حفلة كاملة صامتة ما بتنحضر! نسيتا.. وأساساً ما بينعمل فيها شي غير إنّو قد يجوز يوماً ما ينعاز منها شي لقطة ضمن عمل توثيقي. بالصدفة من اسبوعين عم فتّش عن شي بصوت عاصي بسيديات بيبعتولي ياهن المحبّين ع أساس علين نوادر، وبصراحة ما بيصرلي إسمعن بوقتن، بيطلع بين الملفّات ملف مكتوب عليه الشارقة 79 بالأول ما صدّقت! سمعتو طلع عليه أجزاء من تسجيل صوتي للحفلة ف حسّيتا إشارة لإني حاول ركّب الصوت اللي حصلت عليه بالصدفة على اللقطات اللي كنت مصوّرتها ونايمة، وتاخد هاللقطات شكل حفلة بصوت! الإشيا ما بتصير إلا بوقتا. نظراً للنوعيّة الرديئة للصوت والصورة اللي منسوخين من فورما لفورما ومقضّايين، ما رح إقدر وزّع هالعمل للتلفزيونات لأنو ما بيحمل ينعرض إلا على الإنترنت. التحيّة لعاصي ما فيها تكون إلا منّو إلو.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 إنه العبقري والمرجع والمعيار


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي
فايق حميصي


عاصي الرحباني


هيئتك حمار بالألوان»، أولى العبارات الحميمة التي توجه بها لي عاصي، فكسر بسخريته المحببة هذه، حاجز الرهبة بيني وبينه يوم استضافني للمرة الأولى للمبيت في منزله.

«مات المرجع المعيار» آخر عبارة سمعتها عن عاصي. قالها لي مروان منصور الرحباني، يوم وفاة عاصي سنة 1986. ثم شرح قائلاً: «بكرا شوف كيف رح يفرخوا المطربين وتصير القيم الفنية مسخرة. راح المرجع».

وما بين العبارتين، امتدت رحلة معرفتي بعاصي لسنوات قليلة، لكنها أغنت تجربتي الإنسانية والفنية. كما تخللتها محطات ومواقف أغنت معرفتي بسر عبقرية هذه الشخصية الفذة.

1- في أول ليلة من فترة استضافتي في منزل عاصي، دعاني ممازحاً، قبل العشاء، لدخول غرفة نومه لنفتح خزانة ملابسه كي يمتحنني بألوان ربطات العنق التي كان يحتفظ منها بالعشرات مرتبة وفق ألوانها. فسألني «ما لون هذه الكرافات؟». وكانت زرقاء، فقلت: «زرقاء».

ثم سألني عن التي بجانبها، وكانت زرقاء، فقلت: «أيضاً زرقاء». قال: «لا»، ثم أغلق الخزانة، وقال «هيئتك حمار بالألوان، كل أزرق وله اسم، إمشي ناكل هلق، خلينا نشوف ذوقك بالأكل، الألوان متل النغمات تتشابه، لكن لكل واحدة اسم». فقلت في نفسي «العبقري يجب أن يعرف أسماء الألوان».

2- صباح اليوم التالي وبعدما جهزنا للخروج من المنزل، قال لي: «لوين هلق؟». وبما أني كنت عارفاً بموعد لنا في مقهى «الحلبي»، قلت: «عالحلبي؟». قال: «لأ، ما حزرت، بالأول عند إمي». دخل عند أمه، قبّل يدها وسأل خاطرها، فدعت له بالتوفيق وكولد صغير طلب منها السماح بالمغادرة. في السيارة، بعد خروجنا، نظر إليّ وقال، كأنه يجيب على نظراتي المستفهمة: «الفنان، يا فايق، ما بيكبر، أنا بحس الناس كلها أكبر مني». فقلت في نفسي «العبقري يجب أن يحتفظ بالولد في داخله».

3- ذات يوم، مر بنا شخص سلَّم على عاصي بحرارة. وبعد حوار قصير، مد يده لجيبه وناوله عشر ليرات، فانصرف الرجل، قلت له لماذا أعطيته عشر ليرات وهو لم يطلب، قال: «أحسست أنه بحاجة لها وهو قد أخذها بدون تردد، ما بدو يذل نفسه، المال ليخدمنا مش لنخدمه». فقلت في نفسي «العبقري يجب أن يكون كريماً ولا يسمح للمال بإذلاله».

4- أثناء ذهابنا لقضاء ليلة الميلاد عند شقيقه الياس في النقاش سنة 1981، أوقفنا حاجز أمني تابع لقوى الأمر الواقع حينها، والتي كانت تتعاون مع العدو الإسرائيلي. تفحص العنصر الأمني الشاب وجوهنا، ثم طلب تذكرة هوية عاصي، فقلت له مستغرباً: «هذا عاصي الرحباني». فأجابني العنصر بعصبية: «بدي هويته، مين ما كان يكون». ناوله عاصي بطاقته قائلاً: «خود يا إبني». تفحص العنصر البطاقة، ثم أعادها بعصبية. بعدما غادرنا الحاجز، قال عاصي، ساخراً: «زمطنا.. طلع ما بيعرفني». فقلت في نفسي: «العبقري هو من يسخر من شهرته».

5- خلال دعوة للعشاء مع السفير الليبي، آنذاك، السيد عبد القادر غوقة، قال الأخير إنّ الأخ القذافي يرغب بدعوة الأخوين رحباني لزيارة ليبيا. سأل عاصي أخاه منصور: «شو قال؟». أجابه: «دعوة لزيارة ليبيا من الأخ معمر». قال عاصي: «بروح.. شرط تكون تذكرة سفر ذهاب وإياب». فقلت في نفسي «العبقري لا يأمن لأهل السياسة».

6- خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وكنت في شارع الحمرا، اتصل بي منصور قائلاً: «عرفت شي عن زياد؟ عاصي رح يخوت، قال صار معركة تحت بيت زياد، الله يخليك، روح اطمن على زياد وخبرّني، عاصي حاكمو نوبة قلق». وكنت أعرف هذا القلق، فذات ليلة أيقظني من نومي صارخاً: «يا فايق، بدن يحبسوني». وظل يرددها حتى اتصلت بمنصور الذي قال لي: «اعطيني ياه وروح نام، حاكمو نوبة قلق، فيروز مسافرة الليلة وهو بيخاف من الطيارة». فقلت في نفسي: «العبقري يجب أن يكون قلقاً على من يحب».

7- دعاني لتناول الغداء، ذات يوم من أيام احتلال بيروت، في مطعم «الحلبي»، وكان الإسرائيليون يسرحون من الجنوب حتى البربارة شمالاً، ونحن في المطعم، بدا عليه القلق. قال: «أنا خايف، الإسرائيلية بدن يقتلوني». قلت: «ولماذا يقتلوك؟». قال: «شو نسيت؟ أنا أول واحد عمل أغاني للفلسطينية». قلت: «زهرة المدائن؟». قال: «لأ.. سنرجع يوماً... هيدي أخطر». ثم طلب أن نغادر لأنه اشتبه بكون أحد الزبائن إسرائيلياً، ولا زلت أذكر هذا الزبون صاحب الشعر الأحمر. قلت في نفسي: «العبقري يعرف عدوه».

8- بعد رحيل عاصي، سنة 1986، اتفقنا، مع منصور، على مواكبة النعش من مستشفى الجامعة الأميركية سوياً إلى إنطلياس. بعد الصلاة على الفقيد في المستشفى، انتقلنا بالسيارات نحو انطلياس. وبوصولنا إلى منطقة جامع عبد الناصر في كورنيش المزرعة، أوقفنا حاجز لقوى الأمر الواقع، التي كانت تحارب المشروع الإسرائيلي، والذي كان يقفل معبر المتحف، ولم يسمح بمواكبة النعش إلا لشخص واحد. ولما قلت لمسؤول الحاجز: «هذا عاصي الرحباني». أجاب: «ممنوع.. مين ما كان يكون». قلت في نفسي: «العبقري هو من يُغتال بعد موته». واليوم وبعد ثلاثين عاماً من رحيل عاصي، وبعدما امتزجت الألوان فكثر «الحمير» واختلطت علينا الأنغام فكثر الزعيق، أقول: «نعم يا مروان، صار كل ديك صيّاح مرجعاً».

واليوم، وبعدما انتقل عناصر الحواجز الأمنية لمواقع في السلطة، أتساءل من يحمي الولد العبقري، الساخر، الكريم، المحب، القلق، الذي كان يعرف عدوه، من جماعة «مين ما كان يكون»؟
كان عاصي يردد: «الموت قرار يتخذه من ملَّ من الصغائر وقرر أن يتوجه نحو الكبير».

* ممثل ومخرج مسرحي لبناني

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 وطن رسمته أغنية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي
سمير الصايغ


الظاهرة الرحبانية الاكثر اثارة ليست في الاخوين وفيروز، بل في ارتباط الاغنية الرحبانية بلبنان كوطن، أي ارتباط الفن سواء كان شعراً أو صوتاً أو غناء أو موسيقى، بالصفات والخصائص الوطنية والقومية.

استطاع عاصي والرحابنة تحقيق اغنية لبنانية، لها صفاتها الخاصة وتمتاز عن الأغنية المصرية، والأغنية البدوية، واستطاع في الوقت نفسه أن يرسم عبر هذه الأغنية وهذا الشعر، مع صوت فيروز، صفات وخصائص لبنان كوطن. المثير هنا هو أنّ اللبنانيين والكثير من العرب آمنوا وصدقوا وانتموا إلى لبنان الوطن الرحباني الشعري والفني أكثر بكثير من إيمانهم وانتمائهم إلى لبنان الوطن التاريخي. في الحرب الأهلية، انهزم الوطن التاريخي، واضطربت ظاهرة الأخوين، لكن لبنان كما رسمه عاصي والرحابنة وغنته فيروز لا يزال سابحاً كقطعة من السماء في فضاء هذا الشرق.

* تشكيلي وشاعر لبناني

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 بين الوعي... واللاوعي


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي
رفعت طربيه


عاصي الرحباني في مطعم «الحلبي» في أنطلياس. كان يجلس محاطاً بشلة من الأصحاب والرفاق. الجميع يؤكد أن عاصي اليوم يتعافى، بأعجوبة من جلطة دماغية كانت قد ألمّت به.

عاصي يحب أن يلتقي الناس، يعرفهم أو لا يعرفهم. لم يكن يعرفني ولا تقابلنا معاً سابقاً. هناك في مطعم «الحلبي» التقيت به أكثر من مرة، وكنت دائماً برفقة صديق مشترك، هو ريمون جبارة. همّ عاصي أن نعثر عن جملة مفيدة واحدة عن مضمون عمل مسرحي كامل، وإذا الأمر لم يكن كذلك، يقول العمل لا يستحق الاهتمام. الحاجة كانت إيصال العمل ببساطة الى جميع الناس. مرة قلت له: «أستاذ عاصي، قرأت في كواليس مسرح الكازينو رأياً لك معلقاً على الحائط، يقول: «الفن ابن الوعي»

 عاصي: «نعم، وأنت ما رأيك؟»

 رفعت: «الفن ابن اللاوعي».

صفن عاصي وذهب بعيداً، استدرك الأمر سامي عطية، وغيّر الموضوع. لم أكن أعلم أن عاصي بوضع صحي يتطلب عدم إجهاد نفسه بمجهود فكري. وعندما هممنا بالمغادرة صافحته مودعاً، شدّ على يدي وقال لي: «طرحت السؤال ولم تلق الجواب... اجلس جنبي».

جلست. قال: «معك حق الفن ابن اللاوعي. الفن عود الى ملعب الطفولة، الى أشياء تحركّنا، تأخذنا الى مناطق تدهشنا. قصة كواليس الكازينو أقصد بها أنه على الطريق أثناء المشوار الفني، قد يصبح الفن ابن الوعي. المثابرة والاطلاع، علينا أن نحترمهما. هناك فارق كبير بين أنّك تعرف وتعمل في الفن، وبين أنك جاهل وتعمل في الفن. الشعر، الفلسفة، اللاهوت، العلوم، وكافة المعرفة تساهم في أن تكون فناناً غير شكل».

* ممثل لبناني - من كتاب قيد التحضير بعنوان مبدئي: «كلمات، كلمات، كلمات، لا أعرف شيئاً»

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 المضيء في «ليل الشرق الحزين»


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٩١٦ الثلاثاء ٢١ حزيران ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي
هيام حموي


هذه الحروف ليست سوى قطرات صغيرة في نهر الكلام الجارف الذي سيصب اليوم في بحر الذكرى. ذكرى تأبى أن تكون ذكرى رحيل، فرغم أنها بلغت الثلاثين من عمر من تحمل اسم غيابه، إلا أنها غير قادرة على الإفلات من وطأة حالة الإنكار، لا وألف لا، عاصي الرحباني لا يمكن أن يكون قد رحل، فيما إبداعه لا يزال يهيمن على أرواحنا بهذا الحضور الطاغي.

كل أبناء الأجيال في هذا «الشرق الحزين»، ممن ولدوا وعاشوا في السنوات التي تلت مولد العمل الرحباني الفيروزي الأول، في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، ما زالوا حتى اليوم، يتوارثون تلك العادة الحميدة التي أطلقتها إذاعة دمشق، ذات صباح، ففرضت بقوة الجمال والنقاء، أن يتشبع ندى النسيم الصباحي بصوت فيروز. وكل غناء في الصباح، خارج الإطار الرحباني، يبدو مستهجناً وفي عداد الباطل...

كما الماء القراح يتغلغل بين حبيبات التراب العطشى، تغلغل الترنيم الصباحي الرحباني الفيروزي الأثير إلى مساحات بث إذاعي أخرى أكثر وضوحاً في ساعات النهار.. يذكر جيل من السوريين أن سلواهم في أيام «البلاغ رقم واحد»، كانت مسرحية «جسر القمر»: «القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلوا»، أو «البعلبكية»: «هون نحنا هون لوين بدنا نروح... بيضل فيها اتنين عيون حلوة وإيد يعمروا من جديد». ومع الغيوم السود لذاك الحزيران المفجع بانتكاساته: «الآن الآن وليس غداً» كانت تعيد لنا ما بات يُعرف اليوم بالطاقة الإيجابية. خمسة عقود وأكثر مرت على سلسلة الإسكتشات والمسرحيات الرحبانية التي أتاحت لنا الحياة متعة سماعها آلاف بل عشرات آلاف المرات، وفي كل مرة تذهلنا حبكة الحكاية وسحر الكلمة في عناقها مع النغمة، وذوبانها بسحر الصوت الذي يحمل الأغنية والشخصية، «عطر الليل» الصادحة بوعد الصوت، و«وردة» المحطة بإيمانها الساطع المُحبَط من جشع الآخرين، وزاد الخير المثقلة بهمّ مفاتيح مواطنيها، وملكة بترا «النجمة الوحيدة السهرانة بليل الشرق الحزين!!».

أي تلاليف دماغ نادر، بتوثبه المتأهب على الدوام لالتقاط الهمس الرباني، أنجبت هذه الأعمال التي لا يمكن لنا تصور أيام العمر خالية من وهجها؟ قد يقول واشٍ إن أبناء جيل الألفية الثالثة ربما لن يعرفوا القيمة الحقّة للتجربة الرحبانية، إلا أن الوقائع تشير إلى أن لكل جيل وسطاءه القادرين على نقل الإرث الثمين، وإلا كيف نفسر أن يأتي شاب حالم مَسَّتهُ عبقرية الفكر الرحباني ليؤسس وسيلة إعلامية ولا هم له عبرها سوى أن ينقل للسامعين عشقه لصورة وطن مثالي تعلّم جغرافيته وتاريخه وحتى مشاكله، من مخيلة عبقري إسمه عاصي الرحباني، استطاع أن يجعل الشقيق ورفيقة الدرب والابن، يتبعونه في شطحاته الإبداعية. سامر يوسف، مؤسس هذه الوسيلة الإعلامية، واسمها «شام. إف. إم» التي دأبت منذ أول يوم لتأسيسها على تكريس الأعمال الرحبانية «صباح ومسا» يقول: «أعتقد أن الزمن لم يأت بمثل هذا المفكّر ليعبّر عن ماهية إنسان هذه المنطقة، فلنسمها، الشرق الأوسط أو المشرق. فكر عاصي الرحباني وعطاؤه الفني والفلسفي أحاط بكل أفراحنا وأحزاننا وخير من أوصلها للأسماع بالكلمة واللحن، وباختيار الصوت الفيروزي ليكون أفضل من يحمل وينقل هذا الفكر».

عاصي الرحباني، الأب الروحي لكثر منّا، كلما أردنا أن نعبّر عن فكرة معقدة، أو أن نضحك من ألمنا، أو نبكي فرحنا، يهمس لنا بلمعة أغنية أو ومضة مسرحية، فيريحنا من البحث لأنه وجد الأفضل والأجمل، ولأنه باق فينا.

* إذاعية منذ 1968

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


في ذكراه الثلاثين : عاصي الرحباني... بعدك على بالي

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)