في الذكرى المئوية للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان 1917-2003

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة التاسعة والعشرون العدد 8989 السبت 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2017 - 8 صفر 1439 هـ
الرباط - «القدس العربي» من عبد اللطيف الوراري


بمناسبة الاحتفاء بمئويتها: لماذا أطلقت فدوى طوقان القلم في سيرتها الذاتية، وأخفت رسائلها؟


نتيجةً للتحولات المعرفية والجمالية التي أطلقتها حركة الشعر الحُر، وتفاعلت على إثر السجال الذي خلقته في المشرق والمغرب، وجد الشعراء المحدثون في السرد طريقة مواتيةً للتعبير عن أفكارهم وآرائهم الخاصة بالشعر الجديد، فشرعوا يكتبون نُصوصًا ورسائل وشهاداتٍ وبيانات عن تجاربهم الشعرية، لم تكن تخلو من بعد شخصي وسيرذاتي.

وضمن هؤلاء الشعراء، نجد الأصوات بصيغة المؤنث، حظها من السيرة، سيرة الذات وسيرة القصيدة، نادرة إذا قيست بغيرها؛ فمثلًا، لم تهتم نازك الملائكة (1923-2007) – رغم ريادتها الحاسمة – بالتأريخ لتجربتها في كتاب مستقل، وإن كانت تركت أمشاجًا من هذه التجربة بين مقدمات مجمل مجاميعها الشعرية، وكشفت بعضها على استحياء في «لمحات من سيرة حياتي وثقافتي». وقد استطاعت حياة شرارة أن تختلس «صفحات من حياة نازك الملائكة» كانت ستظل مطوية في كتاب المجهول.

ومثل نازك إلى حد ما، كانت الشاعرة فدوى طوقان (1917- 2003) نفسها ميالةً إلى مصادقة النفس والعزلة والتوحد، جادة وقليلة الكلام. فقد اعتكفت على عالمها الداخلي ومشاعرها الخاصة، بعد أن توالت عليها المحن في حياتها؛ إذ توفي والدها ثم أخوها ومعلمها إبراهيم طوقان، وأعقبت ذلك نكبة فلسطين 1948، ما ترك أثره البارز في نفسيتها وانعكس على باكورة شعرها «وحدي مع الأيام» (1952). بعد ذلك عُرف عنها نشاطها الثقافي والنضالي، ولاسيما بعد نكسة 1967، جنبًا إلى جنب محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي وغيرهم، ثم سرعان ما انقطعت عن العالم الخارجي لسنين طويلة. وفي لحظة من الزمن، جرى قلمها بتدوين سيرتها الذاتية ونشرها في مجلة «الدوحة» في حلقات بين أكتوبر/تشرين الأول 1983 وأغسطس/آب 1984؛ أي في وقت متأخر من عمرها. وكانت السيرة مفاجئة لكثيرين، ولقيت استحسان من قرأها، فلم يمنعها المجتمع الذكوري المحافظ الذي نشأت فيه من أن تكشف عن جرأة مدهشة في البوح والاعتراف. كذلك كتبت فدوى الرسائل ونفست بها عن جروحها الداخلية. ولم تكن كثيرة الظهور في وسط الصحافة الأدبية؛ إذ لم يزد عدد الحوارات التي أُجريت معها بين عامي 1962 و2003، بالكاد على العشرة.

رحلة فدوى الصعبة

تُعد فدوى طوقان من الشاعرات القلائل اللائي اهتممن بفن السيرة، بل قدمتْ، في نظر رجاء النقاش، «شيئًا جديدًا هو التعبير بصدق وصراحة عن هموم المرأة العربية». فقد أصدرت الشاعرة ـ تِباعًا- جزءين من سيرتها الذاتية، حكت في أولهما المعنون بـ«رحلة جبلية رحلة صعبة» (1985)، ذكريات طفولتها التي توزعت بين بيت العائلة الذي تحول إلى سجن بعد أن فقدت فيه الدفء، والمدرسة التي عرفت فيها مذاق الصداقة وأشبعت الكثير من حاجاتها النفسية التي ظلت جائعة في البيت، حتى صارت المكان الأحب إلى نفسها، ثُم مشاهدات عن طبيعة نابلس الخلابة والمباهج الموسمية مع علياء رفيقة طفولتها. وفي أوائل الستينيات، سافرت إلى إنكلترا وأخذت دوراتٍ مكثفة في اللغة الإنكليزية في جامعة أكسفورد العريقة، واكتشفت المتاحف والمسارح والمتنزهات والأرياف والساحات، وأعجبت برقي هذا البلد ونمط حياة أهله وحضارتهم. وعندما عادت، بعد عامين، إلى مدينتها نابلس وجدت الضفة الغربية قد سقطت بيد الاحتلال في حزيران/ يونيو 1967، فصدمت وقلبت صفحة جديدة من شعرها الذي كان دائم التأثر بالتحولات المأساوية المستمرة في فلسطين منذ اشتعال الثورة عام 1936، وأحيانًا كان شعرها يعجز حتى وهي في حالة الفوران العاطفي. في سردها لهذه الذكريات التي استغرفت طفولتها وشبابها وبواكير تجربتها الشعرية، وجدت فدوى طوقان نفسها في خضم مشاعر متناقضة وسط مجتمع نابلس الذكوري وبيئته الاجتماعية المحافظة، وعائلة كثيرة العدد أذاقتها الحرمان والقسوة والظلم.

وقد قادتها هذه الطفولة المعذبة إلى الانطواء على النفس والعزلة والاستغراق في أحلام اليقظة، التي كانت تُحلق بها خارج أسوار البيت/ السجن. ووسط الشعور الذاتي الضاغط والساحق بالظلم، تولدت في نفسها رغبة الانتحار، لممارسة حريتها المستلبة والانتقام من ظلم الأهل، وصرفها عنه البحث عن بديلٍ طبيعي مُتسامٍ تتجاوز به أو يرتفع بها عن إكراهات المعيش اليومي، فمالت فدوى إلى العزف والغناء، إذ وجدت فيهما «تعبيرًا ومخرجًا رمزيا لحاجاتي العاطفية المكبوتة». مثلما اكتشفت، بميلها الفطري، فن الشعر الذي أكمل مهمة إطلاق الطاقة الحبيسة في داخلها. أخذت تتعلم الشعر سرا وتتلقى لحظات إلهامه الأولى وإيقاعاته الموحية، وكان ذلك يساعدها على التماسك والتوازن الذاتي. ووجدت الشاعرة في شقيقها الشاعر إبراهيم طوقان ملاذها الوحيد الذي حررها من كل المنغصات، أو- بحسب تعبيرها- «المصح النفسي الذي أنقذني من الانهيارات الداخلية». لقد مثل لها الأمل وبناء الثقة. فجعت فدوى بموت أخيها مُبكرًا، إلا أن العواطف والقيم التي غرسها في نفسها أخوها بقيت تتجدد في حياتها وشعرها معًا.

سيرة البوح والاعتراف

إن ما عايشته الشاعرة وخبرته في مسقط رأسها، الذي نعتته بـ«بلد التعصب والتقاليد العتيقة»، وتستعيده في سيرتها بمرارة وشعور بالظلم، يكشف كيف تحولت أطوار حياتها كأنثى إلى معركة للكفاح المرير من أجل بناء الشخصية وإثبات الذات وتحرير معنى جسدها، ولن يكون شعرها إلا ناتجها والمُعبر عنها على نحو أصيل وخلاق؛ وقد سوغت غايتها الأسمى من كتابة سيرتها الذاتية بقولها: «وهي أن الكفاح من أجل تحقيق الذات يكفي لملء قلوبنا وإعطاء حياتنا معنىً وقيمة». لهذا، تعترف بأنها لم تفتح خزانة حياتها كلها، إذ ليس من الضروري أن تنبش كل الخصوصيات صونًا لها من الابتذال، فما كان تسعى إليه في سيرتها الذاتية هو جانب الكفاح في شخصيتها التائقة إلى الانطلاق خارج «زمان القهر والكبت والذوبان في اللاشيئية» وسجن البيت. وبموازاة مع هذا التوق النفسي والفكري لدى الشاعرة، فإنها سعت باستمرار إلى تجديد أسلوبها الفني بشكل يستجيب لدواعي الانطلاق والتحرر، ويفسح المجال لخطاب الإفضاء والبوح في كتابتها الشعرية، ابتداءً من الشكل التقليدي فالرومانسي ثُم التفعيلي، بحيث أمعنت في الشعر العاطفي والغنائي الشجي، الذي تعبر عنه تراكيب عفوية بسيطة وصورٌ مجازية واستعارات بديلة كما تجلت، بوضوح، من خلال عناوين دواوينها: «وحدي مع الأيام»، «أعطنا حبا»، «أمام الباب المغلق»، «اللحن الأخير».

في هذا الإطار، تتسم كتابتها السيرذاتية بجرأة نادرة وصدقٍ لافت للانتباه وحس شاعري مرهف، وهو ما غذى سيرتها بشفافية البوح. وهذا ما يمكن اكتشافه تحديدًا في متواليات من الخطاب النسواني الذي يعبر عن رغبة الشاعرة في البوح بعاطفتها وحُبها، والإفصاح عن تفتحات جسدها، والتمرد على تقاليد المجتمع البالية ونقد عيوبه وتفاهاته. وهذا الخطاب لا يخص الشاعرة وحدها، بل جيلًا بأكمله من نساء تلك المرحلة وبعدها. فهي استطاعت، في الكثير منها، أن تتعمق أغوار نفسيتها وتكشف لنا عن أسرار نفسها. لقد عبرت فدوى عن شؤونها الذاتية كأنثى بوضوح وشفافية في مجتمع ذُكوري الثقافة، و»لا تحتاج ثورة المرأة ـ كما قال محمود درويش- على سجنها إلى نظرية، فمن حسيتها يتشكل وعيها الأول بذاتها. وهكذا كانت رحلتها الجبلية، تفسيرًا لخلفية شعرها الرومانتيكي المبشر بتمردها على ما أعدت لها «الرجولة» من مصير. وهكذا ارتبط شعرها، منذ البداية، بإعلان حقها في الحب، أي حقها في الحرية».

في «الرحلة الأصعب» (1993)، وهو الجزء الثاني من سيرتها الذاتية، يغيب الذاتي الشخصي والحميمي، وكأن فدوى طوقان شغلها الاحتلال الإسرائيلي عن نفسها، وأرادت من سيرتها في سردها ذي النفس السياسي والتوثيقي أن تكون شهادة جيل على وقائع المأساة الفلسطينية بفصولها المريرة وخيباتها المتكررة حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي.

رسائل «طي الكتمان»

كتبت فدوى الرسالة وجلست إليها مثلما تجلس إلى القصيدة، فأطلقت فيها عنان بوحها واعترافها لمن تحب وتثق فيه. غير أنها لم تكشف عن هذه الرسائل قيد حياتها، ولا ظهر لها أثر بعد موتها؛ كأن ثمة أسرارًا ومواضيع شخصية لا تريد من العامة أن تصل إليها. وفي المقابل، أظهرت الرسائل التي وصلتها ممن أخلصوا لها ومحضوها الحب، ولاسيما من أخيها إبراهيم طوقان ومصطفى المعداوي. فقد نشر الشاعر الفلسطيني المتوكل طه مجموعة من الرسائل التي وصلتها في ميعة الصبا، من أخيها الأكبر إبراهيم طوقان (ت1941)، في كتاب بعنوان: «فدوى طوقان: الرسائل والمحذوف» (2010). كانت الرسائل بمثابة حوار بين شقيقين جمعتهما رابطة الدم وكتابة الشعر؛ حيث كان الشقيق الأكبر يحب شقيقته الصغرى ويتطلع إلى أن تكون (شيئًا) ذا قيمة في يوم ما، فكان يعلمها النحو والصرف وكيفية نظم الشعر وتناول الموضوعات. وفي كتاب ظهر في أواسط السبعينيات بعنوان: «بين المعداوي وفدوى طوقان صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر» (1976)، وثّق الناقد المصري رجاء النقاش (1934-2008) قصةَ حب يزعم أنها جمعت بين فدوى وأنور، لكن عن طريق الرسائل وحسب، على غرار رسائل جبران ومي زيادة. فهما ـ كما يقول رجاء النقاش- «لم يلتقيا على الإطلاق وإنما اكتفيا بتبادل الرسائل وكتابة الأشعار حول هذا الحب». بيد أن الكتاب لا يتضمن سوى رسائل أنور المعداوي (1920-1965) إلى فدوى طوقان، وهي نحو سبع عشرة رسالة تتفاوت في الحجم وتمتد بين عامي 1951 و1954، فيما أتلف أنور قيد حياته رسائل فدوى وفاءً بعهد قطعه على نفسه. وتعترف فدوى في ما بعد أنه «كان هناك حب حقيقي، وعبرت عنه بأكثر من قصيدة». وفي رسالة إلى رجاء النقاش، تعترف بأنها أساءت النية بحب أنور لها، بسبب انقطاع مراسلاته المفاجئ بين حين وآخر. وحين علمت بحقيقة مرضه الذي عجل بموته، ملأها «حزن شديد، وندم قاتل» على حد تعبيرها. لكن الغريب أن فدوى لم تشر إلى هذه العلاقة بشيء في أحد جزئي سيرتها الذاتية، ولا فضله عليها في مسيرتها الشعرية؛ فقد كان يقرأ قصائدها ويقوّمها، بل تولى نشر باكورتها الشعرية واختار عنوان وصورة غلافها في مركز ثقافي مهم مثل القاهرة.

وقد نشر رجاء النقاش هذه الرسائل التي كانت في حوزة فدوى، وحلل حيثياتها وما فيها من أبعاد ومعانٍ، وهو يريد بذلك «الخوض في الحياة الشخصية للأدباء» لتفسير معطى غامض في حياة هذا أو تلك، من غير إسفاف أو بدافع ثرثرة وفضول. عدا هذه الرسائل المعدودة، لم تظهر في حياة فدوى طوقان رسائل شخصية غيرها، ولا ظهرت بعد موتها عام 2003. فقد كانت ـ كما قلنا- ميالة إلى مصادقة النفس، متكتمة على أسرار عالمها الشخصي، هيابة من أن يذيع سر منها بين الناس. ولهذا، كانت تتحفظ إلى حد ما في منسوب بوحها الرسائلي، أو تطالب من تراسلهم أن يقطعوا عهدًا بحفظها، أو يتلفوها إذا لزم الأمر كما في حالة المعداوي. وهكذا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه؛ هو لماذا نشرت سيرتها على الصورة التي ظهرت بها، وأخفت رسائلها الشخصية؟ وربما لن يجد هذا السؤال جوابًا له إلا باكتشاف هذه الرسائل، أو بعضها بالأحرى؛ ففيها ـ على افتراض راجح- أسرار الشاعرة التي كانت عاطفتها جياشة ويدها سخية للكتابة والبوح تجاه من كانت تراسلهم ممن محضتهم المحبة ووثقت فيهم. ومن المؤمل أن تظهر في وقت قريب هذه الرسائل التي تلقي أضواء جديدة على حياتها ومحيطها العائلي ومزاجها الشخصي وفنها الشعري.

في رسالة من نابلس، مؤرخة بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول 1977، كتبت فدوى طوقان: «لقد حاربتني الحياة ولا تزال تحاربني على جبهاتها المختلفة؛ وقد خسرتُ الكثير من معاركي معها ولكنها لم تستطع أن تهزمني قط، لأنني أقف دائما أمامها كهذا الصخر الذي يطل عليه الشباك المفتوح على يميني والمشرف على خاصرة جبل جرزيم». وفي رسالة أخرى مؤرخة بتاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول 1982، كتبت: «»أختي المريضة لا تزال على حالها. يتمزق قلبي كلما نظرت إليها في انكسارها وضعفها وعجزها. لم أعد أعرف بماذا أومن.. هل الأديان كذبة طفولية؟ هل الحياة لعبة خاسرة؟ هذا الصباح أدرت مفتاح الراديو لأسمع نشرة الأخبار: عنف، جرائم، قنابل تتفجر فتودي بأرواح الأبرياء وغير الأبرياء، صراعات سياسية، أطماع توسعية، مستوطنات تنمو وتتكاثر وتطوقنا حتى الاختناق، ثم، وهنا المفارقة المضحكة المبكية، أغنية تنطلق فجأة بعد انتهاء النشرة : (الأرض، الأرض بتتكلم عربي).. أسكت الراديو، وألقيت نظرةً على خريطة العالم العربي الممزق، المهان، وسقطت في هوة يأسٍ ما لها قرار».

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي

عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.


فدوى طوقان على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)