في الذكرى الثلاثون بعد المئة لميلاد عميد الأدب العربي طه حسين

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الحادية والثلاثون العدد 9733 الجمعة 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 - 25 ربيع الأول 1441 هـ
ابراهيم خليل - ناقد من الأردن


طه حسين… المختلف الحقيقي


تصادف هذه الأيام الذكرى الثلاثون بعد المئة لميلاد عميد الأدب العربي المرحوم طه حسين (1889- 1973) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كما يقولون، لأنه لم يشأ منذ سلك طريق الأدب والفكر والتنوير إلا أن يكون مختلفا أشد الاختلاف عن غيره. والاختلاف ـ في العادة – مدعاةٌ للمنافسة، والخصومة، إن لم نقل البغضاء والمحاسدة. فمنذ أن حفظ القرآن، ومنذ توجهه إلى الأزهر، ظهر منه هذا الاختلاف. فكانت آراؤه التي لا تتلاءَمُ مع أفكار الشيوخ من مدرسي النحو والصرف، والفقه وعلم الكلام والمذاهب، سببًا في التصدي له، ووضع العراقيل في طريقه، فيما كانت ـ من ناحية أخرى ـ سببًا في كسبه مودة آخرين ممن قدموا له العون والمساندة، بعضهم من الشخصيات النافذة التي لها مواقع، ومنازل عليا، في الحياة المصرية العامة، كعبد العزيز جاويش، والشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد.

دأب طه حسين يبحث عن الاختلاف في كل شيء، فعندما ترك الأزهر شابًا بعد أن رسب في امتحان العالمية بمؤامرةٍ ذكرها في كتابه «الأيام» ذكرا مفصلا، وبعد أن انتظم في الجامعة المصرية حديثة التكوين، أعد أطروحته عن أبي العلاء المعري، التي حاول فيها إخضاع الدراسة الأدبية للمنهج العلمي التجريبي الصارم، الذي يقوم على أساس مفادُهُ أن دراسة الأدب ينبغي لها أن تخضع للمنهج التجريبي، مثلما تخضع المادة الكيميائية في المختبر للتحليل التجريبي. وعلى الرغم من أنَّ الكتاب لم يحظ عند نشره بالمزيد من القبول، والتقريظ، إلا أنه يظل من الكتب القليلة النادرة، التي حاول فيها مؤلفها إنصاف شاعر المعرَّة. ومع أنه تخلى عن تلك المنهجية لاحقا، ولا سيما في كتابه مع المتنبي، إلا أنه وبصفة عامَّة، ظل يتوخى الاختلافَ في ما يكتبه وينشره.

ففي «الأيام»- وهي السيرة الذاتيَّة الأولى التي كتبها متفرِّغًا لرواية قصة حياته بقلمه، قبل أن يرويها آخرون فيتلاعبون فيها نقصًا أو زيادة ـ اتبع نهجًا يختلف اختلافا بيِّنًا عن نهج من سبقوه، أو عاصروه، فلا يقتفي فيها أثر الشدياق، ولا ينحو منحى المازني، أو العقاد، أو أحمد أمين في «حياتي»، وإنما يجرد من نفسه راويًا ساردا، ومرويًا عنه، يسميه الفتى تارة، والصبيّ تارة، وصاحبنا تارة أخرى. وهذا شيء لفت إلى كتابه الأنظار، وبهر بجدَّته الأبْصار، فإحسان عباس يقول في «الأيام» (فن السيرة: 1963): للأيام مكانة لا ترقى إليها سيرة ذاتية أخرى في الأدب العربي الحديث، ولاسيما الجزء الأول منه.. بسبب تلك الطريقة البارعة في السرد، والأسلوب الأنيق، والعواطف الكامنة في ثناياه، واللمسات الفنية في رسْم بعض الصور للأشْخاص، والقدرة على السخرية اللاذعة في ثوبٍ جادّ حتى تظهر وكأنَّها غير مقصودة».

ولهذا تغلَّب الطابع الذاتي للكتاب على الموضوعي في سير سلامة موسى، ومحمد حسين هيكل، ومذكرات الرافعي، ومحمد كرد علي، وآخرين.. ولفت شوقي ضيف في «الأيام» اعتمادُه الحديث عن نفسه باستخدام ضمير الغائب لا المتكلم، ما زاد في شأو المسافة بين الراوي والمروي عنه، وأضْفي مصداقيّة على مَحْكيات السارد ومروياته، وابتعد عن ما يلوح في العادة على كتاب السيرة الذاتية من إحساس بتضخُّم الأنا، وتعظيم الذات. وذلك شيءٌ نجده عند المازني، ونجده في «سيرة حياتي» لأحمد أمين.

ونظرا لهذه المزايا في «الأيام» وجدنا من ينهج نهجه، ويقلده، في السيرة، ففي الفصول الأولى من «غربة الراعي» لإحسان عباس يظهر هذا الأثر، وفي البئر الأولى تتجلى المرويات بالأسلوب الذي وجدناهُ في «الأيام»: التسلسلُ والترابطُ كما لو أنَّ الكتاب فصلٌ من رواية. على أنَّ طه حسين لم يوقِّع وثيقة اختلافه في «الأيام» وحسب، وإنما هو مختلف أيضا في القصص وفي الروايات، وفي نقده الأدبي التطبيقي، وفي ترجماته للأعلام، والشخصيّات، الأدبية وغير الأدبية، وفي كتبه التي تتبع فيها الشعر العربي من أقدم عصوره. ففي «الشعر الجاهلي» 1926 يعلو صوته المختلف على سائر الأصوات. صحيحٌ أن بعض المستشرقين كمرجوليوث، وبلاشير، سبقوه إلى الترويج لقضيَّة الانتحال ـ وهي قضية سبق أن أومأ إليها، ووقف عندها ابنُ سلّام (237هـ) في «طبقات فحول الشعراء»، غير أنَّ لصاحب «الشعر الجاهلي» فضلَ السبق في عرض الكثير من الأدلة الحسية الملموسة، التي تدعو إلى الشك في نسبة الكثير مما جاءنا من شعر قديم على أنه للجاهليّين. فهو يحتجُّ تارة باختلاف لغات القبائل بين شمالٍ وجنوب. وبخلوِّه من أي إشارة لعبادات العرب قبل الإسلام، وقد كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، ويؤمنون بتعدد الآلهة. وليس في الشعر الذي وصلنا ما ينبيءُ عن ذلك ولو بأسلوبٍ غير مباشر. وقد شحَذَتِ الحمَلاتُ النقدية على الكتاب الإحساس باختلاف عميد الأدب العربي عن غيره، وإصراره على هذا الاختلاف.

لم يوقِّع طه حسين وثيقة اختلافه في «الأيام» وحسب، وإنما هو مختلف أيضا في القصص وفي الروايات، وفي نقده الأدبي التطبيقي، وفي ترجماته للأعلام، والشخصيّات، الأدبية وغير الأدبية، وفي كتبه التي تتبع فيها الشعر العربي من أقدم عصوره.

واللافت أنَّ طه حسين وهو المؤرخ المفكر التربوي التنويري، يختلفُ عن غيره من رواد النهضة الأدبية بموقفه من القصة والرواية، والتجديد في الشعر. وقد أغنى المكتبة العربية بآثاره، في وقتٍ كان كبار العلماء يزهدون في القصة، والرواية، ولا يجدون فيهما غير سِقْط المتاع. وهو سِقْط لا يستحقّ منهم النظر. فهم يعدون الرواية قنطارًا من خشب بدرهم واحد من حلاوة. أما هو، فعلى وفق مذهبه في الاختلاف، كتبَ القصص القصار «المعذبون في الأرض» والطوال: «شجرة البؤس» و «دعاء الكروان» و«جنة الشوك» وهذا لا يعني أنَّ محاولاته هذه راقت لكبار النقاد، فقلما يشيرون إليه بصفته روائيا، أو قاصا. فآثاره في هذين النوعين الأدبيَّيْن لا تخلو من سذاجة، ومن غفلة، فقد يوقف السرد ليخاطب القارئ مباشرةً في الحكاية، وقد يستطرد منتقلا من الحكاية لمقالة اجتماعية عن الأخلاق مثلا، أو عن الفارق بين الغني والفقير، أو عن الامتثال لما يفرضه العقل ويأباه الشعور. وقد يُغْرقُ في التفاصيل بضرورة وبلا ضرورة. فهو يسهب مرة ويوجز مرة، بدون مراعاة لحسابات الفنّ الرفيع، ولا لما يتطلبه من تنسيق بديع. ففي قصة «خديجة» من «المعذبون في الأرض» نجده يسهب في وصف جمال الفتاة في فقرتين طويلتين متتابعتين، ولو حُذفت الفقرتان لما تضررت القصة في قليل أو كثير. وهذا يتكرر في روايته «شجرة البؤس» التي يغالي فيها في الحديث عن شخص (أبو صالح) وتجارته، بادئا بتجارة جده، مرورًا بتجارة أبيه، ثم بتجارته، وأخيرا بابنه صالح الذي هو الشخصية المعنية بالسرد الروائي.

وإذا كان بعضُ معاصريه كالعقاد وقفوا من التجديد الموسيقي في الشعر موقف المندِّد بالخروج على ما أرساه الخليل من بحور وأوزان، فإنّ لطه حسين موقفا مختلفًا، إذ لم يشجب في ما كتبه من مقالات الدعوة للتحرر من بحور الفراهيدي، ولكنه – انسجامًا مع مذهبه في الاختلاف ـ يشترط في هذا الشعر أن يكون أصيلا وصادقا مخلصا في التعبير عن تجارب الناظم العميقة، في صدقٍ فنّي لا يَخفى عن النَظَر. وهو أحد الذين كتبوا في النقد الأدبي، بل هو ناقد على الأرْجَح. وقد تطورت رؤاه النقدية تطورًا متسقًا مع اختلافه حتى مع نفسه، علاوة على اختلافه عن الآخرين. فقد تنقل من علمنة النقد إلى التوكيد على أنّ النقد فنٌ فيه نكهة العلم. وانتقد كلا من العقاد ومحمد النويهي لاتباعهما المنهج النفسي في النقد، مؤكدًا على أن هذا المنهج قد يعود على الأدب، وعلى دراستنا له، بنتائج عكسية. واستخدامه في دراسة الأدب القديم، كشعر بشار، وأبي نواس، لا يخلو من مزالق تتطلب من الدارس الحَذَرَ الكبير.
وفي إطار اهتماماته النقدية يلتفتُ للمسرح والرواية، ولعله ـ من هذه الزاوية ـ رائدُ العناية النقدية بهذين الفنين، فكتب عن توفيق الحكيم، وقرّظ بعض مسرحياته «أهل الكهف» التي أشاد بها على ما فيها من الأغلاط في اللغة والنحو والأسلوب ومن أخطاء في البناء الدرامي. كظهور مشاهد في النص يصعبُ عرضُها على المسرح الذي يسميه (المَلْعب). وقل مثل ذلك في تقريظه لرواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ. وفي نقده للشعر يولي الذوق أهمية تفوق أهمية المنهج، حتى إن دعا إليه، وتبنّاه. وكتابه «حديث الأربعاء» ثمرةُ هذه الرؤية الانطباعية المزدوجة: كثير من الذوق في شيء قليل من التحليل المنْهجي. ويتضح هذا أيضًا في كتابه القيم «حافظ وشوقي».

وقد لا يعرفُ الكثيرُ ممَّنْ يقرؤون هذا المقال أن لطه حسين شعرًا منظومًا وفقا لبحور الخليل، وموزونا، معقودًا بقواف، في أغراض كالثناء، والهجاء، والسخرية من المشايخ الذين شهدوا له قبل غيرهم بهذا الاختلاف. ومن شعره الذي نظمه في الشكوى، والتذمر من سوء الأحوال، بيتان يذكّران البصير بالشعر العربي بصوت أبي العتاهية الشاعر العباسيّ المعروف:

الحمـــــــــــد لله على أنني قد صرتُ من دهْري على شرِّ حالْ
لا أملكُ القوتَ ولا أبْتـغي
ما فاتني منهُ بِــــــــــذلّ الســُــــؤالْ

ولعل في هذين البيتين من سموّ الروح، وعزة النفس والترفّع، ما يشهد لطه حسين بالاختلاف: الاختلاف الحقيقي.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.


على ويكيبيديا

عن الصورة

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)