في الذكرى التاسعة لرحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الجمعة 11-8-2017
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي


بدايات محمود درويش وزمن التخوين


<article4205|cycle|docs=4930,4931,4933,4934,4935,4936>


بمناسبة مرور تسع سنوات على وفاة “شاعر الأرض المحتلة”، شهد “متحف محمود درويش” في مدينة رام الله احتفالية أقيمت مساء يوم الأربعاء الماضي، وفيها تحدّث زياد أبو عمرو رئيس مجلس أمناء “مؤسسة محمود درويش” وأعلن عن إطلاق موقع إلكتروني يحتوي على كل ما توفر من مواد عن محمود درويش كتابياً وبصرياً.

سطع اسم محمود درويش بعد هزيمة 1967، وتحوّل إلى ظاهرة ثقافية تردّد صداها في سائر أنحاء العالم العربي. في منتصف آب-أغسطس 1968، نشر “ملحق النهار” مقالة من توقيع الكاتب خليل خوري تعكس صورة الشاعر في هذه المرحلة من حياته، وكان عنوانها العريض: “يقاوم بالشعر ويغنّي مثل لوركا”. رأى أن درويش “استطاع ان يتجاوز نفسه، وأن يطور فنّه الشعري، في فترة قصيرة جدا، وأن يرسي دعائم فنّه على ركيزتين متينتين من عمق وبساطة في آن معا”، وهو اليوم “في طليعة شعراء المقاومة في الأرض المحتلة، ان من حيث وفرة انتاجه وفرادة صوته، أم من حيث وضوح رؤياه”.

أشاد خليل خوري بحماسة بالغة تجربة الشاعر الفلسطيني الشاب، وقال: “عند محمود درويش لا تأمل الحياة، بل الحياة نفسها، لا التصفيق للمقاتلين بل خوض المعركة، لا حافة الرصيف بل السير في زحام الشارع، هي وحدها التي تمنح الشعر مذاق الدم والوجود، هي وحدها المكان الذي يجدر بالشاعر أن يحتله. بهذا الفهم الأيديولوجي يدخل محمود درويش جرن العمادة ليعمّد نفسه شاعر فعل، لا شاعر تجريدات ذهنية، شاعرا يرفع التاريخ على منكبيه لا شاعرا يكتفي بالتفرج، وشاعرا ذا وجه جهد يكسوه غبار الساحة، لا شاعرا محمر الوجه منتفخ الأوداج، خارجا من الحمام، يختار العطر الملائم للساعة وربطة العنق الملائمة للسهرة”.

شدّد الناقد على إيمان الشاعر بالمستقبل، وقال إن “طريقه واضحة المعالم، والسقطات والموت لا تصنع منه يائسا. وهو مؤمن بالنضال وبالحضور الدائم في الوطن”. وقال في الختام: “بهذا الإصرار وبهذه الشفافية، وعلى وعي لموقفه من التاريخ، يشيد محمود سليم درويش عالمه، ويأتينا عبر الحدود صوتا حبيبا واعدا بالكثير من الغناء الحلو المر. غناء الثائر نازف الجراح، لا غناء حامل الرباب المطرب اللامبالي. وعلى ما يعتور لغته احيانا من وهن او من خروج على الأساليب والقواعد، فإن موهبته تعوّض هذا النقص الذي قد يكون من اسبابه بعد الشاعر عن الأجواء التي تسدد لغته”.

في الأسبوع التالي، نشر الملحق مقالة من توقيع جان داية يشكّك بمصداقية تجربة محمود درويش، وجاء هذا الرد بعد أن تحدثت صحيفة “الدستور” الأردنية عن مشاركة الشاعر في مهرجان الشبيبة الذي عقد في صوفيا (بلغاريا) كعضو في وفد اسرائيل الشعبي الى المهرجان، وقالت إنه عضو في الحزب الشيوعي الاسرائيلي منذ عام 1950، وان هذا الحزب اشترك بوفد شعبي لأن اسرائيل لم تدع رسميا إلى هذا المهرجان. رأى جان داية ان ما يلفت في مقالة خليل خوري بالدرجة الأولى “الالحاح اللجوج على مسألتين: ثورية الشعر الدرويشي، وثورية الشاعر الذي تحولت الكلمة عنده إلى فعل”، وقال ان هذه المقالة “هي الحلقة بعد الألف من سلسلة الدراسات التي انعقدت منذ اشهر في الصحف والإذاعات حول محمود درويش بشكل خاص، وشعراء الأرض المحتلة بوجه عام”. واستدرك متسائلا: “اذا كان الشعر ذاته يكفي للدلالة على مضمونه، فهو غير كاف لاثبات تجسيد الشاعر لهذا المضمون. وبعبارة أخرى، إذا أنشد محمود درويش”انني مندوب جرح لا يساوم/ علمتني ضربة الجلاد أن أمشي/ على جرحي/ أمشي وأقاوم"، فلا يعني ذلك بالضرورة، ان الشاعر قد مشى وقاوم ولم يساوم. يقتضي لإثبات تجسيد الكلمة، أن نتقصّى حياة الشاعر العامة تقصيا دقيقا، ومن بعد نستطيع ان تعطي جوابا اكيدا يُثبت بما لا يقبل الجدل ثوريّته الحقيقية أو دجله".

مضى جان داية في هذا التحليل، واعتبر ان خليل خوري لم يأت صوب هذا الشاهد الأساسي، “بل اكتفى بشاهد طالما يشهد زورا هو الشعر، فصدّقه بحماسة، ولم يحسب حسابا للمفاجآت التي كانت واحدة منها مفاجأة اشتراك درويش في الوفد الشيوعي الاسرائيلي”. وأضاف معلّقاً: “هذا الحدث الخطير، إذا صحّ ما ورد فيه، وليس حتى الآن ما ينفي وقائعه المذهلة، يُكرّس محمود درويش وهماً تكوّنت عناصره من مئات القصائد العنترية، ليأتي موقفه الخياني ويبدّد ذلك الوهم. ويكون الذين اشتركوا في حياكة تلك الهالة الأسطورية حول اسمه أمثال خليل خوري قد تسرّعوا في التقييم لجهة عدم درس الشاعر بدءا من حياته ومواقفه مكتفين بانتاجه الشعري فقط، ولم يفسحوا بالتالي فرصة للزمن، المعلم الذي لا يخطئ، ليقول كلمة الفصل”. وأضاف: “من يدري؟ قد يكون الاخطبوط الصهيوني تمكن من محمود درويش بعد غسل دماغ بارع فأصبح درويشا آخر. لكن الخيانة لا ترحم. وهي ليست انهزامية ثانوية طارئة ممكن ان تحذف من تاريخ مقترفها المجيد. انها الفعل الوحيد الذي لا يحتمل اسبابا تخفيفية. والشاعر الخائن يحكم على نفسه وشعره بالحرق حتى الموت”.

في العام التالي، عاد “ملحق النهار” ليطرح هذه المسألة من جديد إثر صدور كتاب “ديوان الوطن المحتل” ليوسف الخطيب. في مراجعة نقدية لهذا الكتاب نُشرت في 9 شباط-فبراير، لاحظ محمد الشامي ان المؤلف “تناول موقف العربي من شعراء الوطن المحتل، وموقف هؤلاء انفسهم من مأساتهم”، وتبيّن له أنهم يعانون “فجيعة اساسية” تتمثل في كونهم “وُجدوا ضمن ظروف لا تسمح لهم بالتعبير عن نقمتهم ورفضهم الاحتلال إلا من خلال الحزبية”، و"اكثرهم منتمون الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي". ردّ محمد الشامي بشكل مباشر على جان داية، وطرح السؤال التالي: “هل يمكن ان نُبرر لشعراء الوطن المحتل، لأكثرهم، اندماجهم في الحزب الشيوعي الاسرائيلي كنافذة على المقاومة؟ سؤال محرج لا شك. ولكن يبدو ان لا بد الآن من المرور بهذه المرحلة. وعلى ذلك يجب ان لا نقسو في الحكم، كما حدث للبعض بالنسبة الى محمود درويش وسميح القاسم”.

تغيّرت الصورة مع خروج محمود درويش من الأرض المحتلة ووصوله إلى مصر بعد وقفة طويلة في روسيا- السوفياتية. من جديد، تابع “ملحق النهار” مسيرة الشاعر الفلسطيني، ونشر في منتصف آذار-مارس 1971 حوارا مطوّلا أجراه معه في القاهرة فؤاد مطر. بحسب ما ورد في مقدّمة هذا الحوار، ترك محمود درويش حيفا متوجها إلى مطار تل أبيب في 5 آذار-مارس 1970 “بعد جهود جبارة، لأن الحكم الاسرائيلي رفض في البداية اعتباره مواطنا او مقيما في اسرائيل، ثم عاد واعترف به مقيما وأعطاه جواز عبور يسمح بموجبه بمغادرة اسرائيل إلى الخارج”. سافر الشاعر من تل أبيب إلى موسكو حيث عاش احد عشر شهرا “في مهمّة دراسية للواقع السوفياتي”، ثم انتقل إلى القاهرة حيث استقبل بحفاوة قلّ نظيرها. في وطنه المحتلّ، كان محمود درويش عضوا رئيسيا في الحزب الشيوعي “راكاح”، ومحررا في صحيفة “الاتحاد” التي يصدرها الحزب باللغة العربية، ورئيس تحرير مجلة “الجديد” الشهرية الأدبية التي تصدر عن هذا الاتحاد، وبعد وصوله إلى مصر، نشرت “الاتحاد” قرارا بفصله.

تحدّث محمود درويش إلى فؤاد مطر في اليوم الذي بلغ فيه الثلاثين من عمره، أي في 13 آذار-مارس 1971، وقال: “لست مرتاحا للاستمرار في تصوير الشعب الفلسطيني كمجموعة من الناس تعيش في مخيمات، بمعنى انه ليس من الضروري ان يستمر الفلسطينيون في العيش في المخيمات لكي تكون لهم قضية”. حدّد الشاعر موقعه، واعتبر ان فلسطين وطنه، لكنها ليست قوميته، فهو عربي، وهو ينتمي “إلى الشعوب العربية، وإلى الحركة العربية التي اصبحت القاهرة، لعوامل تاريخية وسياسية، القوة الرئيسية في تحريك قواها وتحديد مطامحها”، والقاهرة من هذا المنطلق وطنه الثاني، وهي في سعيها إلى خلاصها من التخلف والعبودية تسير مع “الحركة الثورية العالمية التي تخوض التجربة نفسها”، “والمعروف ان الاتحاد السوفياتي لاسباب تاريخية وسياسية ايضا يقوم بالدور الأساسي في حركة التقدم العالمية”، وهذه المسيرة المشتركة تحدّد انتماءه الثالث عالمياً، وتحدّد نظرته إلى موسكو".

بعد هذه المداخلة الاجتماعية السياسية، تحدّث محمود درويش عن انتمائه الشعري، وقال: “أرجو أن تضعوني في حجمي الطبيعي، وأرجو أن انسحب من هذه الأضواء المبالغ فيها. أنا لست سياسيا محترفا كما صوّرتني بعض الصحف العربية في الأسابيع الأخيرة إلى درجة المبالغة، وإلى حد مطالبتي بحمل كل القضية الفلسطينية. أنا لست أكثر من مواطن يحاول أن يكتب الشعر ولا أزيد عن ذلك. ومن هنا أُدهش للضوضاء المحيطة باسمي. أريد أن أتحدّى نفسي وأن أطرح السؤال الآتي: هل أنا شاعر لأنني أكتب عن قضية تشغل بال العرب؟ وهل يستمدّ شعري قيمته من هذا الموقع؟ أي هل موهبتي هي قضيتي فقط؟ أريد أن أكتب شعرا من مكان آخر. أريد أن أكون أنانيا. أخشى أن لا تكون لشعري قيمة غير أنه كان يكتب في اسرائيل. إذا كان الأمر كذلك فأنا لا أريد أن أكتب شعرا بعد الآن. يكفي أن أحمل الشعارات وأن أبحث عن سلاح آخر غير الشعر. هل أبدو كأنّني أغار من قضيتي؟ لا. القضية هي الأساس. نحن متفقون على ذلك. لكن الشاعر أو الشعر يجب أن يحمل قيمته في ذاته. يجب أن تملك موهبته شيئا من الاستقلال النسبي، وإلا فإن انتهاء قضية سياسية محدّدة معناه نهاية الشاعر. هذا هو الامتحان الشاق الذي يواجهني الآن كشاعر”.

قال فؤاد مطر: “لتفترض ان حمامة زاجلة حطت على محمود درويش وهو في القاهرة، فإلى من يبعث معها برسالة إلى فلسطين؟”. فكتب الشاعر مباشرة رسالة مطوّلة إلى والده جاء فيها: “أبي العزيز. تحياتي. لا تحزن يا أبي فأنت لم تلدني لك. ولا تكن أنانيا فلست ملكك وحدك. انني ابن كل الآباء الفلسطينيين وكل الأمهات الفلسطينيات. قل لأمي التي لا تقرأ انني لست بعيدا عن خبزها وقهوتها، وقل لها انها هي البطلة الحقيقية. ولكن أرجو ان لا تسمح لها بالوقوف طويلا أمام صورتي المعلقة على الجدار، وأرجو ان توزع حبها على اخوتي. انني مدين لكم بكل النجوم التي أراها في السماء وبكل الصبر والإقدام على الحياة. في مطار موسكو فوجئ اصدقائي بأنني انفجر بالبكاء. لم يكن بكائي على اصدقاء أودعهم. لكن بكائي كان على الذين لم أكن عائدا إليهم. لم أكن عائدا إليكم. لم أكن عائدا إلى الوطن. كلكم وطني. انت وطني. والصليب وطن. آه. الوطن. وأرجو أن نلتقي ولو في الموت في بقعة ما من هذا الوطن الضاري. وتحياتي لكم واحدا واحدا وأرجو ألا تسمحوا لهذه الحمامة التي تحمل رسالتي، أرجو ألا تسمحوا لها بالعودة”.

في ختام هذه المقابلة المثيرة، قال فؤاد مطر ان محمود درويش سيغادر بعد أقل من شهر القاهرة إلى لبنان، “ففي صيدا أقارب له ينتظرونه ليشاهدوا في قسمات وجهه ديارهم الغالية في فلسطين. وبعد لبنان سيزور الأردن وسوريا ليرى المخيمات”.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)