فيلم طرس، رحلة الصعود إلى المرئي للمخرج غسان حلواني

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 10-04-2019
المدن - ثقافة
علاء رشيدي


"طرس" لغسان حلواني : الإختفاء بين الموت والأبدية


كنت شاهداً على حدث واجهه شخص كنت أعرفه


يكتب المخرج غسان حلواني في البيان الخاص لفيلمه “طرس، رحلة الصعود إلى المرئي”: “قبل 35 عاماً كنت شاهداً على حدث واجهه شخص كنت أعرفه حينها وقد اختفى منذ ذلك الوقت. قبل عشرة أعوام، لمحت وجهه في الشارع من دون أن أتأكد من كونه الشخص الذي عرفته سابقاً. جزء من وجهه كان ناقصاً لكن ملامحه الأساسية لم تتغير. رغم هذا كله، شيء ما قد اختلف عن الماضي، كما لو أنه لم يكن الشخص نفسه”.

هذه التجربة التي يرويها غسان حلواني، والتي عاشها بشكل شخصي، شكلت دافعاً له للعمل لإنجاز فيمله “طرس، رحلة الصعود إلى المرئي”. علينا تخيل التجربة الذاتية التي يرويها غسان حلواني، فقد شهد اختفاء شخص قبل 35 عاماً، وطوال تلك المدة، ظل الشخص المختفي مستقراً في الذاكرة، وقبل عشرة أعوام ظهر الوجه المحفور في الذاكرة أمامه في ملصق في الشارع، وكان الملصق يتعلق بمعرض فني عن ضحايا الإختفاء القسري. فجأة، تحول وجه الشخص المختلفي إلى صورة متجسدة في الواقع، لقد خرج من الذاكرة إلى صورة جماعية، هذه التجربة الوجدانية هي التي يركز مخرج فيلم “طرس، رحلة الصعود إلى المرئي” على تحليلها.

يحاول حلواني أيضاً تحليل هذه التجربة من زاوية أخرى، وهي التساؤل ليس فقط عن أثر خروج الشخص المختفي من المحفوظ في الذاكرة إلى العلن، بل وأيضاً ما يتعلق بتجاور صورته مع صور الآخرين من أقرانه من المختفين والمخطوفين. كأن ما كان خاصاً، مميزاً، يتحول بالتجاور مع أقرانه إلى العام والإجتماعي. ما آثار تجاور صور المختفين والمخطوفين بعدما كان كل منهم يحمل مميزاته الخاصة؟ هل منح تجاور الصور الشخصية للمفقودين ملامح جديدة لكل منهم؟ هل ينزع عنهم ملامح وخواص كانت تميز كلاً منهم لتجعلهم موحّدين؟ هذه أسئلة تتطرق إليها نصوص حلواني وأفكاره في الفيلم.

لا تزال قضية المختفين والمخطوفين من أكبر الملفات العالقة منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وتتابعها واحدة من أنشط اللجان الأهلية وهي لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين اللبنانيين التي تترأسها وداد حلواني وهي والدة صانع الفيلم. رغم ذلك، لم يفكر غسان حلواني سابقاً بصناعة فيلم سينمائي عن اللجنة أوعملها، إلا عندما تعرض أرشيف اللجنة والذي جمعته منذ سنوات عن القضايا والمعلومات الخاصة بالمخطوفين والمفقودين، إلى التدمير، إثر أحداث حرب تموز 2006 في بيروت، حيث كاد مكان الأرشيف أن يتعرض للقصف وبالتالي ضياع كل المعلومات والمواد والذاكرة. كان هذا دافعاً آخر لينطلق حلواني في تحقيق فيلم عنه.

جدلية الموجود وغير المرئي

من الجدليات المهمة التي يطورها المخرج في الفيلم هي علاقة الإختفاء بالوجود، فالمختفي أو المختطف غير مرئي، وكأنه ممنوع من الوجود، أم أن غير المرئي يتمتع -بالعكس- بوجود مستقل ومواز للواقع؟



عمل غسان حلواني على الفيلم لستة أعوام، وفي اللقاء الذي انعقد معه بعد عرض الفيلم في صالة سينما ميتروبوليس، أكّد أنه كان يريد الوصول إلى الصيغة التي يرغب للفيلم أن يتحقق من خلالها، إلا أنه اكتشف أن الفيلم سيدور حول هذه المحاولات نفسها، أي محاولات العثور على صيغة للفيلم. لذلك، وعلى مدى دقائق طويلة، يتابع المشاهد، صانع الفيلم، في لحظات عمله الفريدة. فالكاميرا تثبت لدقائق طويلة، تراقب غسان حلواني يعمل في مكتبه، مع الأدوات الخاصة بالرسام، مستعملاً المشارط، المقصات، الأوراق والرسوم، كلها أدوات الرسام في محاولاته لتحقيق فكرته عن إمكانيات التعبير عن حالة الإختفاء.

رحلة البحث عن صور المفقودين

رحلة أخرى طويلة يخوضها المتلقي مع صانع الفيلم، في جولة على بعض جدران المدينة التي تحولت إلى طبقات من الصور المعلقة للإعلانات، ملصقات الأفلام، والدعايات الإنتخابية. طبقات من الصور تتراص فوق بعضها البعض على جدران المدينة. وهناك، يصطحبنا المخرج خلال عمله بالمشرط، بالملقط، بالريشة، الأدوات التي تساعد على اكتشاف طبقات الصور على جدران المدينة بحثاً عن صور كانت خاصة بالمفقودين. يتابع المتلقي، العمل الدقيق لحلواني في العثور على هذه الصور، محاولة التعرف على الشخصيات التي بداخلها، بمقارنتها مع المعلومات التي جمعها من أرشيف لجنة أهالي المفقودين، وراح يكتب على صورة كل مفقود يعثر عليه: اسمه، تاريخ اختفائه، ومكان اختفائه، كنوع من التوثيق. هنا ندخل في إحدى موضوعات الفيلم الأساسية، وهي علاقة المدينة مع ذاكرتها.

المدينة وذاكرتها

إذا كان حضور المفقود أو غيابه، كونه مرئياً أو غير مرئي، هي الموضوعة الأساسية في الفيلم، فإن ذاكرة المدينة هي الموضوعة الثانية المتكررة فيه، أولاً عبر رحلة الكاميرا مع صانع الفيلم بحثاً عن صور وملصقات المفقودين داخل المدينة. ثانياً، عبر الخرائط الطوبوغرافية والصور الملتقطة من السماء للأماكن التي ترتبط بقضية المختطفين والمخطوفين، حيث يطلعنا الفيلم على عدد من أماكن المدينة التي تتقاطع حولها الحكايات، والتي ربما مازالت تحتوي على العديد من الوثائق والأدلة الخاصة بقضايا الإختفاء في الحرب الأهلية. وثالثاً، عبر التعامل الحكومي والرسمي مع أجزاء وأماكن من المدينة المهمة بالنسبة إلى ملف المختفين والمخطوفين.

عبر أرشيف الصحف المحفوظ، مانشيتات الجرائد، مقالات وتحقيقات، وعبر التقارير الإعلامية الإذاعية والمصورة، يسرد المخرج وجهة نظره حيال تعامل المدينة مع الذاكرة الجمعية المتعلقة بالمفقودين. المشهد الأول الذي يميز الفيلم، مثال جيد لمناقشة رأي غسان حلواني في علاقة المدينة مع هذه الذاكرة، تثبت فيه أمام عيني الناظر على الشاشة، صورة فوتوغرافية ملتقطة خلال الحرب الأهلية، مثبتة، بلا حراك، ويجري من خلفها حوار بين صوتين. صوت صانع الفيلم، وصوت المصوّر الأصلي للصورة. لكن الصورة محرفة عن تلك الأصلية، فلقد انتزع منها حلواني كل وجود بشري، فأصبحت صورة لمكان، وحذف منها الفعل الذي تصوره، وهو فعل اختطاف رجلين لرجل ثالث، لكن أحداً لا يظهر في الصورة. إننا نرى الصورة وقد مُحي منها الفعل الجرمي ومُحيت آثار الجريمة. بهذه الطريقة يرمز الحلواني إلى دور المدينة في علاقتها بذاكرة الفعل الجرمي، ويتساءل: بأي حق يُكرّس ماض خال من الفعل الجرمي ومن آثار الجريمة؟ كأنه إعلان من صانع الفيلم بأن التقاعس المدني والحكومي في البحث عن مصير المختفين وجمع المعلومات عنهم، يشابه فعل الإمحاء الذي نفّذه في الوثيقة - أي الصورة الفوتوغرافية التي يعرضها على المشاهدين في فيلمه.

في اللقاء الذي عقده في سينما ميتروبولس، أوضح غسان حلواني تساؤلاً عن الصور المعتمدة للمفقودين والمخطوفين، فقال إن الصور هي تلك التي تنطبق عليها القواعد القانونية لصورة جواز السفر، passeport: “لكن كم تمثل هذه الصور الأشخاص المفقودين؟ وإلى أي مدى هي فاعلة في التدليل والعثور عليهم؟”. من هنا ينبع فضول المخرج: “دقائق قليلة من حياة الأشخاص الموجودين في الصور، دقائق تساعد في معرفة حياتهم، ومعرفة مصيرهم”، بحسب تعبيره. ولهذه الغاية، يلجأ المخرج إلى أسلوب آخر من أساليب السرد في الفيلم وهو رسوم التحريك animation.

فيلم عن الوثيقة، يصبح هو الوثيقة

غسان حلواني فنان تحريك، ويعتبر فيلم “النادي اللبناني للصواريخ”، (2012)، من أشهر الأفلام التي شارك فيها كفنان تحريك. لكنه هنا في فيلمه “رحلة الصعود إلى المرئي” لا يستعمل تقنية التحريك بغاية استحضار المفقودين، بل لمنح صورهم الحيوية والحركة من دون ابتداع أي أحداث أخرى بالشخصيات المرسومة كرتونياً. وهذا الأسلوب من التفكير، ينطبق على كامل الفيلم، الذي لا يعمد إلى استحضار الغائبين والمفقودين بإحيائهم عبر الشاشة، بل هو محاولة لتجسيد فكرة الغياب سينمائياً.

لذلك لا يحضر أبطال رئيسيون في الفيلم، كما هي العادة في الأفلام التسجيلية، ولا شهود يدلون بآرائهم كما هي العادة في الأفلام الوثائقية، ولا حضور لشخصيات كما هي العادة في الأفلام التخييلية. إنه صانع الفيلم وحده مَن تتابع الكاميرا عمله وحركته وأفكاره، فيصبح الفيلم فيلماً عن صانع الفيلم وعن مراحل صناعته للفيلم. وبهذا يتحول فيلمٌ عن أرشيف المخطوفين والمفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية، إلى وثيقة بحد ذاته، فيلم عن الأرشيف يتحول هو نفسه إلى وثيقة عن هذا الأرشيف.

الإختفاء

مع الصور، الرسوم، الخرائط، أرشيف الصحف، والتقارير الإذاعية والمصورة، يحضر في فيلم “طرس، رحلة الصعود إلى المرئي” أسلوب سردي يعتمده المخرج عن نصوص كتبها بنفسه، تسهم في أسلوب السرد في الفيلم وفي تمرير الأفكار، وكذلك المعلومات، بين صانع الفيلم والمشاهد. عن طريقها ندرك احتمالين في التعامل مع مصير المفقودين والمختطفين. الإحتمال الأول: “احتمالية الموت” وفيها يتم تجاوز الحدث، أي جريمة الخطف والإخفاء، إلغاء الجريمة، والتغييب القانوني للشخص المختفي أو المختطف.
الإحتمال الثاني: “احتمالية الأبدية”، وهي التي تشغل الحيز الأخير من الفيلم، وهي معاكسة للإحتمالية الأولى، إذ تقوم على إبقاء الحضور القانوني والسجل المدني للمختفطين والغائبين من دون حكم نهائي. في هذا الإحتمال، يبقى الغائبون حاضرين أبديين في المدينة وشوراعها، لكنهم غير مرئيين. أبديّو الحياة في الوثائق الرسمية وفي السجلات المدنية من دون أن يبلغوا يوماً عتبة الموت. ينبه المخرج إلىا أنه، ومع احتمالية الأبدية، فإن الأحياء المعاصرين منا سيموتون في السجلات المدنية، بينما يبقى الغائبون بسجلات مدنية أبدية بلا مصير نهائي محسوم.

طيلة الفيلم، يخفي صانع الفيلم عن المُشاهد هوية الشخص المفقود الذي تحدث عنه على مدار الفيلم، والذي دفعه العثور على صورته بين ملصقات المفقودين إلى تحقيق هذا الفيلم. لكن، في المشهد الأخير، يكتشف المشاهد أن هذا الشخص المختفي والمفقود ليس سوى والد صانع الفيلم، زياد حلواني. خيار موفق من المخرج كونه لم يرد لفيلمه أن يعالج حكاية شخص محدد، بإسم معلوم، بل هو فيلم عن مفهوم الغياب، اللامرئي، الذاكرة والوجود.

(*) عُرِض الفيلم في إطار “أيام بيروت السينمائية”، وننشر المقال عنه بالتزامن مع 13 نيسان - ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


على موقع السينما.كوم

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)