سينما - لبنان

فيلم “طالع نازل” اللبناني يتمحور حول ضرورة التحاور بين أفراد المجتمع

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الاربعـاء 05 ربيـع الثانـى 1435 هـ 5 فبراير 2014 العدد 12853
الصفحة : السياحة
بيروت : فيفيان حداد


يقدم مجموعة مونولوجات في إطار «سيكولوجي» يمثل شرائح اجتماعية مختلفة


فيلم “طالع نازل” اللبناني

المصعد الكهربائي وعيادة الطبيب النفسي شكلا العنصرين الأساسيين لوقائع الفيلم السينمائي اللبناني الجديد «طالع نازل». فهذان الموقعان المتشابهان من حيث مساحة الحرية التي يؤمناها للناس ربطهما المخرج محمود حجيج معا، وقدمهما في حبكة سينمائية واقعية لمعالجة مشكلة تعاني منها مختلف المجتمعات، لا سيما المجتمع اللبناني، ألا وهي انعدام التحاور بين أفرادها.

«لازم نحكي» قد يكون العنوان الأنسب لهذا الفيلم الذي حاول فيه مخرجه تسليط الضوء على ضرورة البوح بمكنوناتنا وكسر الصمت الذي يسود علاقاتنا الاجتماعية. «طالع نازل» عبارة شهيرة في أحاديثنا اليومية، استخدمها المخرج لملامستنا عن قرب.. فنقول مثلا: مزاج فلان «طالع نازل»، أو إنه «يتكلم (طالع نازل)» أو هو «يفكر (طالع نازل)» أو حتى نقول: «هذا البلد وضعه (طالع نازل)»، وذلك للدلالة على أي تصرف أو وضع غير متوازن.

المخرج محمود حجيج اختار المصعد الكهربائي الذي ينقل ركابه من الأسفل إلى الأعلى أو العكس، ليصف حالات القلق والتشويش التي يعيشها أبطال عمله في حالة اللااستقرار المحيطة بهم. فمن منا لا يتصرف على سجيته عندما يوجد وحيدا أمام المرآة في قمرة المصعد الكهربائي؟ ومن منا في المقابل لا يعلم أن عيادة الطبيب النفسي بمثابة ملاذ للفضفضة عما في داخله والتحدث عن مشكلاته بحرية؟ في هذين المكانين نتكلم ونحاور أنفسنا من دون أي أقنعة، فنتخلى عن خجلنا ونشعر بالرضا.

هذه الفكرة البسيطة والعميقة على السواء استخدمها مخرج فيلم «طالع نازل» لإيصال رسالة واضحة للمشاهد تتمحور حول ضرورة التحاور معا. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم أتناول الفكرة لأدق ناقوس الخطر أو لأقدم الحل المناسب لهذه المشكلة المتفشية في مجتمعنا، بل لأحفز المشاهد على استنتاج الحل الذي يلائمه رغم أن هناك مشكلات قصدت أن أتركها دون حل». ويضيف: «الأهداف والمعالجات المقولبة لا تهمني، فأنا آخذ وقتا طويلا في التحضير للفيلم لأجمع فيه كل ما يمكن أن يحرك رد فعل المشاهد بعد أن أوضح له الواقع. وفي رأيي أن الفيلم بمثابة مرآة تعكس حياتنا اليومية بتفاصيلها الدقيقة التي رغم اعتبارها من قبل البعض تافهة أو غير ضرورية تشكل عوامل أساسية في مجتمعنا الصامت».

ويحكي الفيلم الذي تدور أحداثه في الساعات الأخيرة من آخر يوم في السنة، قصة سبعة أشخاص يعيشون صراعات نفسية داخلية يتخبطون فيها بين الكبت والصمت، فيحاولون البوح بها على طريقتهم في محاولة منهم لتقييم ذواتهم قبيل استقبال عام جديد. طيلة مدة الفيلم التي تبلغ نحو 90 دقيقة، تدور كاميرا المخرج في مساحة ضيقة وبين موقعين فقط؛ هما المصعد وعيادة الطبيب النفسي. ويقول المخرج محمود حجيج عن هذا الموضوع: «أردت التركيز على النص أكثر من المناظر الطبيعية أو أي مواقع أخرى قد تدرج عادة في أفلامنا السينمائية، فجاءت تركيبة الفيلم مركزة وليست سطحية، كما أنها تطال جميع الشرائح الاجتماعية، فلا فلسفة فيها ولا مبالغة، بل مجرد واقع حياتي قدمته في أسلوب بسيط».

يبدأ الفيلم بعبارة: «هذا الفيلم خال من التدخين» عبارة لم يسبق أن شاهدناها في أي فيلم آخر، تشعرنا منذ اللحظة الأولى من عرضه بأن المخرج يولي اهتماما للإنسان والبيئة، فنبتسم لاشعوريا ونتنفس الصعداء وكأن جرعة من الأكسجين لامستنا في هذه اللحظة. فالوحدة والكبت والجرأة على البوح من «جوا لبرا» وبالعكس، إضافة إلى حاجتنا الملحة لكمية من الدفء والحنان، أحاسيس نفتقدها اليوم، وضعها المخرج تحت مجهر كاميرته ليعيد للإنسانية موقعها الرئيس في حياتنا، وليؤكد أن العلاقة بين الفكر والغريزة والقلب تفصلها بعضها عن بعض شعرة رفيعة قد تتسبب لنا في الفراغ فيما لو تركنا الأمور تتراكم وتجاهلنا تأثيرها علينا.

ينطلق الفيلم على مشهد تنقله إلينا عين عامل تنظيف زجاج لإحدى البنايات الشاهقة، فتطل علينا بيروت من فوق لتدخل الكاميرا إلى أحد مبانيها حيث تدور وقائع الفيلم التي تجري بين المصعد والعيادة الطبية. وكل مشهد من هنا يستكمله المخرج بمشهد من هناك، فنتعرف إلى شخصية كل واحد من أبطال القصة بمجرد متابعتنا لتصرفاته داخل قمرة المصعد. فندى أبو فرحات التي تجسد دور امرأة متزوجة (يارا) تقيم علاقة مع رجل آخر، وعلى الرغم من ذلك، فإننا نلاحظ تحررها الفكري منذ لحظة دخولها المصعد الذي يقلها إلى عيادة الطبيب النفسي، عندما قالت للمراهقة التي كانت تستقل المصعد نفسه: «انتبهي ما ياكلوك الشباب» إشارة إلى حالة الاستفزاز التي تسببها لها التقاليد الاجتماعية. فالفتاة كانت ترجو والدتها السماح لها بلقاء صديقها دون جدوى. وبعدها تكر السبحة لنتعرف إلى شخصيات أخرى مثل الزوجة (عايدة صبرا) التي تعاني من مشكلات مع زوجها تنعكس سلبا على علاقتها مع ابنها، وبائع دمى واجهات محلات الألبسة (حسان مراد) الذي كان لا يجد أحدا غيرها لتصغي إليه دون مقابل، مرورا بالمريض الوهمي (زياد عنتر) المدمن على تناول الأدوية الذي تضفي شخصيته الطريفة على الفيلم كمشة ابتسامات. أما المريض النفسي الآتي من سوريا (حسام شحادات) فهو يقصد لبنان للمعالجة لأنه يعده بلد الحريات وفيه يمارس هواية البوح الساحرة كما يقول دون خوف. ونصل إلى الزوجين (يارا أبو حيدر ومنذر بعلبكي) اللذين لا يجدان ما يتحدثان به بعد مرور عدة سنوات على زواجهما فيقصدان الطبيب النفسي ليشرحا مشكلتهما علنا، خصوصا أن الزوج، كما تذكر زوجته في الفيلم، لا يحسن التحدث سوى في صالة دورة المياه (الحمام). أما (ديامان بو عبود) فجسدت دور الفتاة التي يسكنها صمت ثقيل لا تستطيع التحرر منه بسبب تأثرها بوالدتها الراحلة التي كانت صاحبة شخصية خاضعة. طيلة عرض الفيلم نشاهد الطبيب النفسي الذي يجسد دوره الكاتب والمخرج والممثل المعروف «كميل سلامة» بالصوت أكثر من الصورة. فلقد عمد المخرج إلى تصويره بكاميرا ثابتة وضعت خلفه، وهي بالكاد تظهر تفاصيل وجهه، فتركيزه بالمجمل كان على مرضاه، وعلى حواره الموضوعي والمحترف معهم. في هذه الكادرات بالذات يستمتع المشاهد بلقطات قريبة للممثلين تدور في قالب متحرك وملون، تذكرنا بمشاهد أفلام إنجليزية أو فرنسية. ففي أجواء ديكور بسيط يتميز بإنارة هادئة وجميلة ندخل إلى أعماق هذه الشخصيات التي تحاول كل منها أن تفرغ من داخلها أكبر كمية ممكنة من القلق الذي تعيشه. كل ذلك كان يشير إلى مفاجأة تنتظرنا حول الطبيب فنكتشف بالفعل قبيل انتهاء الفيلم بأنه هو أيضا كان يعاني من حالة الفراغ مع زوجته (منال خضر) وأنه كان بحاجة ماسة لمن يصغي إليه، فالجميع ينادونه «حكيم» أو «دكتور» حتى نسي اسمه.

مونولوجات مختلفة وقفشات طريفة ينقلها إلينا المخرج محمود حجيج من خارج العيادة أيضا، كالشاب الذي يعمل في خدمة التوصيل المنزلي ويغتنم فرصة وجوده أمام مرآة المصعد ليتخيل نفسه مطربا، وناطور البناية الذي على عكس النواطير عامة يسكن في الطابق الأخير بدلا من الأرضي، وهو فخور بصوته الذي لا ينفك يمرنه بأغنية لعبد الحليم حافظ (أسمر يا اسمراني) أثناء قيامه بمهمته «طالع ونازل» في مصعد المبنى الذي يعمل فيه.

مشاهد متنوعة في كادرات متشابهة كسرها المخرج بين وقت وآخر بلوحات سوريالية، كالجمل المحمل بالزينة والألوان الذي يمر وسط شارع المدينة من أمام المبنى ليترك علامة استفهام لدى المشاهد عن معنى وجوده هناك. ويقول المخرج في هذا الصدد: «أردت أن أشغل بال المشاهد بلوحة مغايرة تماما عن باقي مجريات الفيلم، فرغبت في أن أكوّن لديه ردة فعل أجهلها أنا شخصيا».

«طالع نازل» يحدث فينا انقلابا يتعدى الصعود والهبوط أحيانا، ليلامس الغوص والعوم أحيانا أخرى، فنصاب بدوخة أقل ما يقال عنها إنها بصرية وسمعية وتثقيفية معا.. فأن نطلع وننزل بأفكارنا وأحاسيسنا ونحن مسترخون على كنبة في صالة سينمائية، وأن نشاهد فيلما مصورا بآذاننا بدل عيوننا، لهو أمر يستحق المغامرة. قد لا يلاقي الفيلم رواجا كبيرا لدى رواد السينما الرومانسية أو الترفيهية، فهو أقرب إلى الأعمال الوثائقية أو تلك المتخصصة في المهرجانات السينمائية، ولكنه دون شك يشكل نقلة نوعية لصناعة السينما في لبنان، التي بدأنا نشهد لها غزارة في الإنتاج.. فالمنتجون الذين كانوا يترددون بشكل عام في تبنيها لسنوات خلت، باتوا اليوم يشجعونها ويساهمون في انتشارها، فعام 2013 وحده شهد إطلاق أكثر من 10 أفلام لمخرجين لبنانيين استطاعوا وضعها على خريطة الانتشار العربي والعالمي. ويقول محمود حجيج معلقا على الموضوع: «لا يجب أن نسأل كيف فجأة تأمنت الماديات لصناعة السينما اللبنانية؛ بل علينا أن نمضي قدما في تطويرها والعمل على رفع مستواها».

يذكر أن فيلم «طالع نازل» من إنتاج شركة «أبوط برودكشن» لصاحبها جورج شقير، وبدعم من مؤسسة الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.


فيلم “طالع نازل” للمخرج محمود حجيج - دارين شاهين


العرض الأول للفيلم اللبناني طالع نازل ضمن فعاليات مهرجان دبي السينمائي


صفحة فيلم “طالع نازل” على فايسبوك


مقالات عن فيلم “طالع نازل” في وسائل الإعلام العربية

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)