تراث

فنانو “الحَلَقَة” في ساحة “جامع الفنا” بمراكش يبحثون عن رواد Maroc

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


28 يناير (كانون الثاني) 2014
جريدة القدس العربي
تحقيقات
الرباط - من سارة آيت خرصةا


يصرون على الاستمرار في مزاولة حرفة، لا يجنون من وراءها سوى قروش يسيرة، ترتهن لمزاجية جمهور “الحَلَقَة”، ومدى استحسانه للعرض المؤدى، يركن كل واحد منهم إلى زاوية بساحة “جامع الفنا” في مدينة مراكش، شمالي المغرب، ورغم قصر ذات اليد، وقلة الدخل، لا يستغني رواد هذه الساحة التاريخية عن حرفتهم.

يقضون يومهم ينفخون المزامير، ويلاعبون الأفاعي والقردة، ويقرعون الطبول، وينشدون الأهازيج، مستغرقين في حديث ساخر أو في رواية أقصوصة وأُحجية، ويحمل الفنان كمانه العتيق (آلة موسيقية)، مرددًا أغنية شعبية، ويعرض “العَشَابُ” (نسبة إلى العشب) نباتاته الطبية، ويجول مروض سائق الخيول برفقة عربته معرفًا السياح بالساحة التي صنّفتها منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) إرثًا عالميًا.

ويصف مؤرخون مغاربة “الحَلقات الشعبية”، في ساحة جامع الفنا، بأنها “أكبر خشبة مسرح استعراضي عمومية في المغرب”، حيث يصوغ الممثلون حكاياتهم بطريقة عفوية، ويجسّدونها بشكل هزلي، ويقبل عليها الجمهور بتلقائية، فــ”الحْلاَيْقي” (نسبة إلى الحلقة)، ينقل زوار حلقته إلى زمن القصة الخاص لينتهي الاستعراض، إن نال إعحاب الجمهور، بإلقاء قطع نقدية؛ تشجيعًا لصاحب الحلقة ومكافأة له على عرضه.

ولا يقتصر انتشار فن الحلقة على ساحة “جامع الفنا” بمدينة مراكش، بل إن ساحات تاريخية بمدن مغربية عريقة كانت مسرحًا لهذا الفن العفوي، كما أن الحكاوتيين (نسبة إلى الحكي)، ومروضي الأفاعي (نوع من أنواع الثعابين)، ومحترفي التداوي بالأعشاب، كانوا يتجوّلون في أسواق القرى والأرياف، ويتنقلون بين القبائل، والمداشر (المناطق الصحراوية)، البعيدة بحثًا عن جمهور شغوف، يُسَلونه وينزعون عن يومه رتابته وهمومه.

ويعتبر المؤرخون أن هؤلاء “الفنانين” ساهموا بشكل كبير في نقل الأخبار وأنباء الوقائع، والحوادث السياسية، والاجتماعية، بين المناطق البعيدة، وكان البعض منهم يختارون رواية السيرة النبوية، وبعض القصص المستقاة من أمهات الكتب، فيستعيضون حينها عن دورهم الترفيهي، ليصيروا معلمين يلقنون جمهورهم، ومريديهم المعرفة والحكمة.

وفي “ساحة جامع الفنا”، تعود الذاكرة بالمتجول لعادات وممارسات أسطورية تعود للزمن الغابر، فعند مدخل الساحة يجلس فتى ممسكًا بـ”ناي” (آلة موسيقية)، متهالكًا، وينبري لمقارعة أفعى جسورة، تبادر إلى مهاجمته، مكشرة عن أنيابها، لكنه يواصل النفخ، فتتصاعد أصوات لحن خاص، تطاوعه الأفعى، مأخوذة بسحره، وتبدأ في أداء رقصة تنناغم وإيقاع الألحان.
وفي الجانب المقابل، تجلس فتاة وقد خلطت الحناء (نوع من النبات يستخدم في النقش على الأيدي)، وجهّزت عدتها، وعرضت نماذج للنقوش، التي تبرع في رسمها، على أيادي السائحات، والراغبات في تزيين أيديهن، بحناء مراكشية، تدعو من مرت بالقرب منها لتجريب حنائها”.

وغير بعيد عنها، يضع أحد محترفي التداوي بالأعشاب كل ما اجتهد في جلبه من أعشاب وخلطات للتداوي “مما استعصى علاجه من أمراض”، ورغم تطور سبل العلاج، والتطبيب، إلا أنه مايزال يحتفظ لنفسه بزبائن (عملاء)، يقصدونه متى ألم بهم مرض.

وبالإضافة إلى رواد فنون الحكاية والسيرك (مسرح يضم مجموعة من الفنانين الرحالة، بما فيهم البهلوانين، والمهرجين، والحيوانات المدربة، ولاعبي الأراجيح والموسيقيين)، والمطربين، ومروضي الأفاعي، تظهر في ساحة جامع الفنا، عدد آخر من “مهن الهامش”، كبائعي الفوانيس (لعبة ارتبطت عند المسلمين بشهر رمضان)، والسلل القصبية (سلة تصنع مع أعواد نبات القصب)، والحقائب الجلدية، والمشروبات، والأطعمة التقليدية، اختارالبعض امتهانها طلبا للرزق ولكسب قوت اليوم.
هناك انتقادات تستنكر جعل هذه الساحة العمومية “سوقًا مفتوحًا” لمزاولة المهن عشوائيًا دون احترام لخصوصيته الثقافية، ما يؤثّر سلبًا على السمعة العالمية لساحة “الفنا”، ويجعلها عرضة للفوضى، بتحولها إلى حلبة يتسابق فيها “طالبو الرزق”، دون مراعاة لجماليتها، وطابعها التاريخي العريق، بحسب مراقبين.

ومع التغيرات الحاصلة في أنماط المشاهدة لدى المواطن المغربي وأمام الفضاءات اللامتناهية التي أضحت تضمها السينما، والتلفزيون، للمشاهد لإشباع استهلاكه الثقافي، أضحى رواد “الحلقة” يقلون يومًا بعد الآخر، وسط تصاعد الدعوات إلى إعادة هيكلة هذا الفن التراثي، ورد الاعتبار إليه ، وصونه كجزء من الذاكرة الشعبية المغربية، التي تختزن تاريخ البلاد وتوثّق لماضيه.(الاناضول)

عن موقع جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)