فلفل حار، صبحي فحماوي (الأردن)، مجموعة قصصية دار مجدولان للنشر والتوزيع/عمان - 2012

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8778 الأربعاء 29 آذار (مارس) 2017 - 1 رجب 1438 هـ
رشيد أمديون - كاتب من المغرب


الغالب والمغلوب وسخرية قصص «فلفل حار»


في حكاية الجاحظ وما وقع له مع المرأة التي قادته إلى صائغ خواتم أرادت أن ينقش على فص خاتمها صورة الشيطان، كان الصائغ قد احتجّ لها بقوله «ما رأيت الشيطان قط في حياتي». فأتته المرأة بالجاحظ وقالت: مثل هذا.

في هذه الحكاية الطريفة – التي تتناقلها كتب النوادر والأدب – ما يجعلنا نتذوق ملح السخرية الغالب على هذه النادرة التي رواها الجاحظ بنفسه، فالمرأة سخرت من وجهه الدميم، سخرت من الذي ألف كتاب «البخلاء»، بل شبهته بالشيطان، لجحوظ عينيه وبروزهما إلى الأمام. وكان في طريقتها ما يشبه التحايل، فهي قادته دون أن يعلم إلى أين تأخذه، ثم أمام الصائغ أشارت إليه بعبارة «مثل هذا»، وانصرفت… فهِم الجاحظ من الصائغ بعد ذلك ما قصدته المرأة.. ولعله شعر بنفسه في موقف المغلوب.

لم تكن مؤلفات كثيرة قبل كتاب «البخلاء» تناولت السخرية كأسلوب فني إبداعي، رغم أن طرق الإضحاك كانت موجودة في المجتمع العربي وبشكل عفوي. لكن بتأليف الجاحظ لـ«البخلاء» أحدث أسلوبا جديدا وفنا خطابيا في النثر الأدبي عبّر فيه عن تذمره من سلوك اجتماعي وأخلاقي كان غريبا عن البيئة العربية الاجتماعية المعروفة بالكرم منذ عصر الجاهلية.

السخرية لم يعد يقتصر دورها على الهزل والإضحاك فحسب، لأن النكتة تؤدي هذا الدور، أما الكتابة الأدبية الفنية كالرواية والقصة القصيرة خاصة، بما عرفته من تطور أصبحت معها السخرية وظيفة للنقد يتكئ عليها الكاتب لطرح المفارقات، وإبراز الخلل الواقع في النظم الاجتماعية أو السياسية، أو إشارة إلى خلل في طريقة التفكير أو في الممارسات الفردية والمجتمعية. بهذا تكون السخرية أسلوبا يتضمنه خطاب الكاتب يعبر من خلاله عن مواقفه ووجهات نظره بشكل يجعل القارئ يتقبل هذا النقد ويسهل معه الوصول إلى الفكرة التي يومئ إليها الكاتب، أو حسب فولفغانغ «السخرية ذرة الملح التي تجعل ما يُقدم إلينا مستساغا».

في مجموعة قصص «فلفل حار» يعود إلينا الجاحظ من خلال عنوان قصة «ما لم يقله الجاحظ في كتابه». يعود اسما ذا دلالة، وليس بصفته حاكيا أو راويا. فالكاتب عبْر عتبة العنوان يُهيئ المتلقي قصد وضعه أمام مغامرة كتابية جديدة حتى يستقبل نادرة أخرى من نوادر البخلاء. لكنه في الآن نفسه، يقوم بإيهام المتلقي أن هذه النادرة سقطت من بال الجاحظ فلم يقلها في كتابه «البخلاء»، لهذا فلا يُعتبر الجاحظ هنا هو الراوي، بل كاتب القصة الذي كتب مجموعة «فلفل حار»، إضافة إلى أن هذا العنوان يعلي من شأن حكاية القصة بالتلميح إلى أنه لم يسبق إلى ذكرها أحد، يعني بذلك حتى الجاحظ الذي كان السبّاق إلى تأليف كتاب يسخر فيه من ظاهرة اجتماعية وأخلاقية. وبهذا يشحن العنوان المتلقي بإثارة اللهفة إلى معرفة ما حدث.

إننا إذ نقرأ للأردني صبحي فحماوي، نجد أنه يتكئ على السخرية ليجعلها ركيزة لنصوصه القصصية الممتلئة حيوية وتصويرا ووصفا وإصغاءً للأشياء عبر دلالات تشرك المتلقي في بناء النصوص. وهذا راجع إلى أسلوب الكاتب وقدرته على استثمار محكياته في قالب أدبي يدنو من حياة الإنسان العربي ويقارب قضاياه، فإضافة إلى انتقاده للسياسات العربية التي أنتجت لنا مجتمعات مغلوبة على أمرها، لا ترى إلا ما يراه المسؤول، ولا تفكر إلا من خلاله ومن خلال تصرفاته وحركاته واختياراته، كما جاء في قصة «في حضرة السيد المحافظ» التي صاغها، كما أغلب النصوص على خلفية ساخرة من الوضع القائم، الذي تنطلق دلالته من فعل النادل الذي لم يستجب لطلب الحضور في قاعة المكتب – أثناء انتظارهم خروج السيد المحافظ – حيث أن النادل الماكر أحضر للجميع الشاي، رغم أن كل شخص طلب مشروبا خاصا ومختلفا. ولأن السيد المحافظ سيشرب الشاي، فقد فرضه النادل على الجميع. فالقصة تعالج الوضع العربي الذي تطفو على سطحه تصرفات الغالب وقراراته واختياراته وآرائه، فتتراجع أمامها كل الاختيارات والآراء.

ومثل ذلك ما عالجته قصة «مقامة عيسى بن مناف» التي ابتدأها القاص بحديث عيسى بن مناف، على طريقة المقامات. والنص يندفع نحو سياق تظهر فيه السخرية على وجهين. الوجه الأول: أن الكاتب يسخر من حالة تفكير أولي الأمر ممن لا يبالون بالأوضاع رغم تأزمها، حيث قال السارد في نهاية القصة: «بينما عدنا إلى طائرة الأباتشي، المحمية من الرصاص الثقيل، التي كانت في انتظارنا، تاركين أشلاء الجنود الممزقة في الصحارى، وبقايا الدبابات المعطوبة (..) بينما كانت ولائم كثيرة جاهزة تترقب عودتنا المظفرة على الغداء»، عادوا ضاحكين كأن شيئا لم يكن.

والوجه الثاني: تمثَّل في ممارسة السخرية من طرف الشخصيات (الغالبة) في النص تجاه الشخصية المغلوبة على أمرها. حيث أن الساخر الأول هو «المفتي عبد الجليل» باعتباره الراوي الذي يحكي ما حدث له مع زوجته الأولى. والساخر الثاني: المروي لهم «أمير المؤمنين» و«حامد قائد الجيش» والسارد باعتباره شخصية حاضرة في النص. هؤلاء جميعهم كطرف ثان سخروا مما حكاه لهم المفتي، إذ أنه تحايل على زوجته الأولى بحيلة جعلها تُصدق صِدقَ يقين أنه لم يتزوج عليها، فتلاشت كل ظنونها، وبالتالي فهي سخرية من زوجته المسكينة التي كانت ضحية التحايل، الذي يُبرز لنا تأثير الغالب على المغلوب.
نجد قصة «كأسك يا لبنان» تشير إلى أحداث الحرب الأهلية التي قامت على رغبة الـمُتَحكمين، حيث أن هؤلاء ـ حسب النص- هم من يحركون المتحاربين من خلف الستار، كالدمى.. هذه القصة أيضا اعتمد القاص فيها على توظيف السخرية من ذلك الوضع المضحك، الذي لا يعلم المحارب فيه من يقاتل من، «مجرد إطلاق نار، يأتي من جهات متعددة، فيصيب جهات متعددة». إنما الأمر كله أن الغالب يستغل المغلوب. الذين اتَّبَعوا يُسلّمون أمرهم للذين اتُّبٍعوا. ذلك بحسب السارد «لا يعرفون أنهم يُقاتلون نيابة عن جهات غريبة مريبة».

وحين ننتقل إلى القصة 21 – بترتيب المجموعة «البقرة الواقعة، تكثر سكاكينها»، الذي يتناص عنوانها مع المثل الشعبي.. نجد هذه القصة تُبيّن الفكرة نفسها: استغلال الغالب للمغلوب على أمره. فالمسافر الغريب أراد سائق الأجرة أن يستغله برفع أجرة «المواصلة» ومضاعفتها، وهذا بعدما علم منه ما حدث له مع سائق سابق لم يرتح إليه الرجل، فطلب منه أن يعيده من حيث حمله. وانكشفت أوراق الرجل للسائق الثاني فاستغل ريبته وحالته وعدم معرفته للطريق فاحتال عليه بعد أن مسح العداد قبل أن يراه. ليكون المسافر في موقف المغلوب باعتباره غريبا عن المدينة، والسائق في موقف الغالب الذي استغل تلك الفرصة.. وشبّه الساردُ ما حدث له بسمك القرش الذي لا يقترب من فريسته حتى يدور حولها عدة مرات ولا يهاجمها حتى تنزفَ دما.

في قصة «فلفل حار»، نرى المغلوب على أمره هو «أبو منور» أمام قوة وجبروت زوجته «بهيجة» التي تنتظر منه أن تعود إليه قوته وصلابته، بل وفحولته، (رغم أنه يتعب طول يومه في كسارة الحجارة)، وكانت وسيلة الفلفل الحار – كما يحكي السارد العليم – هي الحل، يقول السارد: «وبصراحة لم أكن أعرف أن الفلفل الحار يحفظ بقايا الطاقة المستنزفة من أبو منور عندما يعود مستهلكا من الكسارة في الليل، إذ لا ينفع معه ليقوم غير الفلفل الحار..».

هذه القصة الجميلة التي تحمل المجموعةُ عنوانها نفسه، توحي أكثر مما تقول، فالكاتب اتَّبع فيها أسلوبا ساخرا بديعا، كما أن ما تضمره من إيحاءات عميقة ودالة تجعل القارئ يملأ التفاصيل المسكوت عنها داخل نصه المفترض، على اعتبار أنه شريك في بناء النص حسب نظرية القراءة، لهذا فالإشارات تؤدي إلى فهم المضمر، لأن الكاتب لا يفضح شخصياته بقدر ما يترك للقارئ مهمة التأويل.

أما قصة «عريفة لا تعترف» فتُمثل عريفة الشخصية المغلوبة على أمرها تحت جبروت أخوها «أبو حمامة». رغم ذلك فهي تعيش الإصرار والتحدي، وتواجه ظلمه وجبروته بالصمود. أعتقد أنه إسقاط مُوَفق إلى حد ما على القضية الفلسطينية، وواقعها المر المؤلم تحت جبروت الاحتلال الغاشم. قصة «عريفة» رغم ما تعالجه من موضوع جاد، إلا أنها لم تخلُ من مسحة السخرية على واقع أليم يظل فيه المغلوب متشبثا بإصراره على البقاء والحياة، مواجها سخرية الآخر واحتقاره، يقول السارد: «وفي هذا اليوم المشؤوم، بقّت الملطوشة عريفة الحصوة. وقالت له: أنت تقول (إنك وإنك وإنك..) لقد أشبعتنا مراجل، ولكنك في الحقيقة لست شيئا». لهذا خنق «أبو حمامة» «عريفة» وداسها حتى تعترف به كدولة مستقلة، ورغم ذلك لا تريد.

قصة «أيام جامعة» أشارت أيضا لمسألة الغالب والمغلوب. الطالب مصطفى المغلوب على أمره بسبب احتياجه للمال لتأخر المصروف عنه، و«أبو إسماعيل» المعروف بالبخل صاحب المطعم الذي يمثل الطرف الغالب حين لجأ إليه الطالب.

وكذلك قصة «مخالفة شديدة اللهجة» بين موقف الشرطي وموقف الشاب…

إن قصص فلفل حار تنتقد واقعنا العربي ومآسيه بما يمنحُ القارئَ فسحة ضحك وسخرية. لكن، وكما يُقال، هو ضحك كالبكاء. كل المواضيع التي تناولتها المجموعة تصر على أن تطرح الوعي بمسؤولية الإنسان العربي تجاه قضاياه الكبرى، وقضايا مجتمعه الصغيرة قبل الكبيرة، ومحاولة الوعي بوجود عفريت التناقض داخل هذا الجسد العربي المنهك بسبب الضعف والانبطاح. التناقض في المواقف والتصرفات، والتناقض بين التدين والواقع، ولهذا نجد أن ما تطرحه قصة «الصف الأعوج» يدعم هذه الفكرة وهذا الطرح، فالدين لم يأت لتسوية الصفوف قصد أداء الصلاة فقط، بل هذا السلوك الأخلاقي والديني كان من المفروض أن يتجاوز فضاء المسجد إلى فضاء الشارع، حيث يتم اصطفاف السيارات بشكل عشوائي، ما يؤدي إلى إغلاق الطريق وتعطيل مشاغل الناس.. فالعبادة تسوية وتقويم للسلوك الإنساني وتربية للفرد على أن ينعكس تدينه على المجتمع، ثم إضافة لهذا، فالقصة تتناول مسألة القول بلا فعل، فالإنسان العربي صار فما مفتوحا بالثرثرة دون أثر للفعل على الواقع.

وتعبر بعض قصص المجموعة كذلك عن ذلك الدمار والتشويه والتغيير إلى الأسوأ الذي تركته وتتركه الحروب في المجتمعات العربية، فالحرب لا تقتل إلا البقايا الباقية من الجمال في الوجود وفي النفس الإنسانية (قصة تقرير مصور من لبنان، نموذجا).
إنها محاولة إعادة الحياة المستحقة والجديرة بأن تعاش إلى سياقها الصحيح. وإنه وعي بامتلاك حياة ذات معنى، لأن حياة بلا معنى لا قيمة لها.

يعي فحماوي كيف يكتب القصة القصيرة بشكلها الفني، وبمضمونها الذي يؤسس الوعي بالقضايا ويأخذ من الواقع ثيمات نصوصه، ويعكس صورة للوجه الآخر من العالم العربي المغلوب على أمره في دائرة الصراع الذي تخلقه السياسات القبيحة التي تقضي على مَواطن الجمال، وتنتج القبح وتصدِّره.، لكن كاتبنا يعرف أيضا كيف يوظف أداة السخرية الواعية ليُنتج من القبح جمالا أدبيا ممتعا يقرأه المتلقي فتبلغه المفارقات.

«فلفل حار» مجموعة قصصية تضم 23 نصا في 160 صفحة ـ عن دار مجدولان للنشر والتوزيع/عمان

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)