فقدان، نازك سابا يارد (لبنان)، رواية دار نوفل - 2018

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ٢٥ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٨
جريدة الحياة
سارة ضاهر


نازك سابا يارد تبحث عن الحياة في دفاترها


في روايتها الجديدة «فقدان» (دار نوفل)، تتحدّث نازك سابا يارد عن هواجس الإنسان في مرحلة متقدّمة من عمره، راصدةً مشاعره وهو في منتصف العمر أو في منتصف الطريق. تغوص في مشاعر المرء في سنّ التقاعد عن العمل والتفرّغ للشيخوخة، وما يعانيه الإنسان الأعزب الوحيد حين يعزم على البحث عن رفيقة نهاية العمر، وكذلك المرأة الأرملة التي تعيش صراع الوحدة من جهة، وأنانية الابن الذي يرفض أن يحلّ أحد مكان أبيه من جهة أخرى. ذلك كلّه عقب حرب لبنانيّة أهليّة كان عليها أكثر ممّا لها، وفي ظلّ حرب سوريّة، وخضّات إقليميّة كانت لها تداعياتها على لبنان، ولا تزال.

«فقدان» عنوان يختصر الكثير. فقدان الإنسان لرونق حياة يعتاد نهجها، ويصبح المجتمع يحضّره للرحيل. فقدان هدف الوجود بعد أن يكون قد دفع ضرائبه كلّها من دراسة وعمل حتى التقاعد، وبعد تأسيس عائلة وتربية الأولاد وتعليمهم ومساعدتهم للوصول إلى بر الأمان. هذه قضية غير مرتبطة بالعمر وإنما بالوجود نفسه، وهي تشكّل فضيحة في الأوساط الفكرية والاجتماعية. إنها مسألة مهمّة تطرحها يارد في روايتها لتضعنا أمام حقيقة حيّة لكنها لم تخطر ببال كثيرين. ربما لأنه لم يعالجها إلا مَن عاشها، وعانى مشاكلها، نذكر من الكتّاب اللبنانيين الذين عرضوا لهواجس هذه المرحلة العمرية علوية صبح في روايتها «اسمه الغرام» وحسن داوود في «أيام زائدة».

الزمان متكسّر في «فقدان»، يبدأ من الحاضر العبثي ويعود إلى الماضي المنتِج والفاعل، بارزًا مؤشّرات حديثة العهد كظهور جهاز الآيفون، والآلات المستحدَثة في مطارات العالم، إضافة إلى أزمة النزوح السوري إلى لبنان عقب الأحداث الأخيرة التي انطلقت شرارتها عام 2011... ذلك كلّه في ظل غياب أي إشارة لظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي كان ليكون لها دور كبير في حلحلة مسائل عالقة سبّبت مشاكل أساسيّة في مسار الرواية، لو لم يتم الاستغناء عن خدماته العديدة. من جديد، ومع اقتراب النهاية، يعود زمن الرواية إلى الواقع فاتحًا النوافذ على المستقبل من دون تحديد الخاتمة، وهو أسلوب سعت إليه الكاتبة، ربّما لأنها تطرح أمرًا ما زال مرفوضًا، إلى حد كبير، في مجتمعنا الشرقي، وهو زواج الأم على رغم معارضة أولادها، ورغم مأساتها من عيشها وحيدة في الوقت نفسه. ومع ذلك، فإنّ تسليط الضوء على أهميّة طرح هذا الموضوع مستقل عن أي اعتبار أدبي. ترك الخاتمة مفتوحة ينقذ الكاتبة من الكثير من التأويلات والتحليلات، إلا أنّ مجرّد طرح هذا الموضوع يمنحها إحساسًا بالرضا وبعرض قضيّة اجتماعيّة، آن الأوان ربّما لمناقشتها وحلّها كلّ حسب خلفيّته الفكريّة وظروفه الاجتماعيّة.

هذه الخاتمة المفتوحة، ظلمت شخصيّة أساسية في الرواية، بعد أن ألقت الكاتبة الكثير من الظلم على عاتق «فؤاد»، الذي عاش رحلة طويلة من المعاناة، بدءًا من الطفولة مع فقدان الأخ، ما بنى حاجزًا بينه وبين والدته، لعوامل نفسيّة تعود للَومه على بقائه حيًّا ووفاة شقيقه. ولم تتحسّن العلاقة بالوالدة إلا بعد أن كان البطل قد فقد مكانة والدته في قلبه وفكره، فقدان آخر لم ترمّمه النون.

تستمر الرحلة الطويلة مع الفقدان لتصل إلى الحبيبة والوالد، وصولا إلى الحياة. وفقدان الحياة هنا ليس معنى الموت، وإنما بروحيّتها من عمل وإنتاج وانخراط واجتماعيّات. فهل تعاقب الكاتب بطلها على مثابرته في الدراسة ونجاحه في العمل؟ أم على وفائه لحبيبة خانته؟ أم على ترفّعه عن الدخول في مزايدات ومجاملات لا طائل له، ولا لسواه، منها؟

دعونا نعبر سريعاً عن الحياة اليومية، لأن ليس الأقارب يغادرون وحسب. المشاعر تموت أيضاً. والرغبة في أشياء كثيرة كذلك، يصيـــبها تشوهات ظاهرة ولافتة. الطــــموحات تتعفن بعد أن واجهت الكثــــير من خيبات الأمل. ولكن يبقى بعـــض بريق السعادة، بطبيعة الحال.

بحثنا طويلاً في سلوك البطل، على المستوى الاجتماعي، لنجد أنّ نموذجًا مثله، يبقى، بالفعل، رهنًا لردود فعل الآخرين، بانتظار أن يتّخذوا قراراتهم، لكي يحدّد مصيره ويتّخذ قراره. ومن ثم يتّضح أنّ الكاتبة عرضت لشخصيّة واقعيّة، وما كان من ظلمها لها، أو في شكل أدق، من محاولة توصيف أسلوب حياتها ونهجها، إلا حبّاً بهذه الشخصية وسعيًا للدفاع عنها وحثّها على قول كلمتها، انطلاقا من قناعاتها هي.

على الرغم من أنّ الرحلة كانت طويلة ومحمومة بين فؤاد ولميا، بحيث سافرت الكاتبة اللبنانية بهما منذ ما يقرب من خمسين سنة، ناشرةً رواية فيها الكثير من الهواء الطلق والحميم، ومن العمل الجاد والأدبي، على أنقاض الحرب الأهلية اللبنانية، وما خلّفته من زعزعة في النفوس وتشكيك في هوية الذات قبل الآخر. إذ لم يكن من السهل على الأهل، على سبيل المثل، تقبّل الزواج المختلط مسلم/ مسيحي. فامتلكت الكاتبة، من البداية، عدّة المجتمع الصحيحة، من خلال سرد قصة مجموعة من الأصدقاء، لرسم المواد اللازمة لروايتها: الزواج المختلط (عمر ولميا)، الاغتصاب (وداد)، الوحدة والتقدّم في العمر (فؤاد)، المرأة في منتصف العمر، التردّد في اتحاذ القرار بالزواج مرة ثانية في مواجهة أنانية الابن (رضا).

الرواية تحاكي الناس العاديين، مــــن خلال عرض حياة صغيرة، حياة مثـــل الآخرين، تكشف عن طبيعتها الحقــــيقية: رواية جميلة مؤلمة، تُجبـــر القارئ على عيش تجربة مذهلة مـــن التعاطف، ربما بمعنى اشتقاقي: يعاني باستمرار مع فؤاد، بطل الرواية، الذي واجه، على مدى عقود، طفولة ومراهقة متعِبة، شوّهت نفسه بعد أن أثقلتها بالكثير من المتاعب.

وفي تتبّع لحركة سرد الرواية، على مختلف المقاييس الأدبية لعمليّة القصّ، هي رواية تطابق معايير الكتابة الجديدة، من حيث الاختصار والمباشرة. تبدأ الأحداث من شعور البطل بالاضطهاد والوحدة، تلك الأيام التي يبدو أن لا نهاية لها، في زمن لم يعد أحد يسأل عنه بعد أن أحيل على التقاعد، بعدما كان يشغل منصب مدير قسم في الجامعة، ويشهد مكتبه ما يشهد من زحمة زملاء وطلاب وقاصدي خدمة. حتى تغيّر مسار السرد، وقام فؤاد بمحاولات عدّة للعودة إلى الحياة، من خلال فهرس الهاتف، بحثًا عن زميل أو زميلة، وصولا إلى العثور على الحبيبة، الحبيبة الوحيدة رغم مرور كل تلك السنوات. محاولات تقول أنّ الحياة لا تكون إلا لمَن أرادها وفتّش عنها. حتى الحب، يحتاج أن تفتّش عليه وتسأل عنه. فهل يستجيب؟

نعم هو الجواب. سيستجيب. لأنّ الحياة لا تنتهي بسن التقاعد، ولا حتى بتراكم الخسارات. وإنما قد تبدأ من جديد، بروح أخرى، تناسب العمر والوعي والرؤيا الجديدة. وهذا يكون لمَن يبحث ويسأل، لمَن يريد ذلك.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)