فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال - ابن رشد

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٢٨ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
خديجة جعفر


ابن رشد وكتابه «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»


شهد تاريخ الفكر الإنساني حضارات قامت على وحي، وحضارات أخرى قامت على فلسفات. وفي ظل الحضارات المنفتحة، التقى نص الوحي وتراث الفلسفة، ليتنازعا الهيمنة على مناطق مشتركة، أهمها الميتافيزيقا أو الإلهيات. وفي الأديان نصوصٌ تشكِّل مبتدأً لعمل عقل الإنسان، وقيدًا عليه، وإذا أراد أن يحلق في سماء النص، فليس أمامه سوى التأويل، يتخفف به من قيود الألفاظ. وفي الفلسفاتِ وجودٌ ظاهريٌّ يعمل فيه عقل الإنسان بلا قيود أو نصوص، ويبدع مناهج للتفكير ثم يُلزم نفسه بها. وقد حاول مصلحون من حضارات وديانات مختلفة علاج هذا النزاع في الأزمنة التي شهدته.

وفي الحضارة الإسلامية نجد هذا الصراع على أشده، منذ أن ترجمت فلسفة اليونان، واطّلع عليها المسلمون، وتابعها أفذاذ وعلماء بالفهم والتلخيص والشرح والتفسير، حتى أسّسوا لتيارٍ عرف في تاريخ الفلسفة العربية باسم التيار الفلسفي المشائي. وقد تنازع الفلاسفة والمتكلمون حقَّ التقرير والحكم في مسائل مشتركة بينهما، واستمر النزاع طويلاً، وازدهرت بسببه مناهج استدلال وجدل ومناظرة، وبلغ هذا النزاع ذروته حين أعلن أبو حامد الغزالي تكفير الفلاسفة.

وفي ظل هذا النزاع، برزت قضية التوفيق بين الحكمة والشريعة كوسيط صلح بين طرفي الفلاسفة من جهة، والمتكلمين والفقهاء من جهة أخرى، فحاول المعتزلة أن يقدموا حلاًّ توفيقيًّا، وكذا حاول الكندي وفلاسفة آخرون. وقد ظلت المحاولات مضمّنةً، حتى أفرد ابن رشد كتابًا يعالج هذه الإشكال، هو (فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). وقد كان لابن رشد دوافع إضافية على غيره من المشتغلين بهذا الإشكال في المشرق، فقد كانت الأندلس دون سواها بيئة ممهدة لرفض الفلسفة والفلاسفة، واحتدام الصراع بين الفقهاء والفلاسفة، نوضحها في ما يلي من سطور.

توالت على الأندلس ست دول حتى عصر ابن رشد، اتّبعت كلّ دولةٍ سياسةً علمية وثقافية مختلفة. ففي عهد الدولة الأموية، أرادت السلطة السياسية في قرطبة منافسة بغداد عاصمة الخلافة العباسية، فاتبعت سياسة منفتحة على الثقافات، وحاضنةً للعلماء من مختلف الميادين، ويُذكر أنّ المستنصر بالله جمع في قرطبة من الكتب والكتّاب ما لم يجمع في مدينة واحدة قبل ذلك، حتى تسمّت دار العلوم. ودالت دولة الأمويين، ثم الطوائف، واستولى المرابطون على حكم الأندلس وكانوا قومًا بدوًا، وأرادوا مناهضة الباطنيّة، فضيقوا على الحكماء، وقربوا الفقهاء، وفرضوا المذهب المالكي في الفقه مذهبًا أوحد، وكذا المذهب الأشعري في العقائد.

ولم يمض زمن طويل حتى دالت دولة المرابطين كذلك، وقامت الدولة الموحدية، والتي تبنت في بداياتها الانفتاح على الفلسفة؛ ثم شهدت في أواخرها تضييقًا وحربًا على الفلسفة. فيُذكر أنّ ابن تومرت رأس الموحدين، وكان تلميذًا للغزالي، ثم أرادت الدولة الموحدية تثبيت ملكها بأسلحة العلم والفلسفة، فما زال المذهب الإسماعيلي يشكل تهديدًا، ما أوجب على الدولة الناشئة أن تناجزه بمثل سلاحه الفكري، ألا وهو التأويل، فتبنت سياسات احتضان الحكماء، ثم انقلبت عليهم في وقت الحروب مع الأوروبيين.

وهكذا تعاقبت السياسات العلمية المتناقضة في قرطبة، ما بين انفتاح وانغلاق، وتقريب للفلاسفة، ونكبة بهم. وغابت في ظل ذلك الرؤية السياسية المستقبلية للبناء الحضاري، ولم تبصر السلطة أبعد من مصلحتها. فإن كان في مذهب ما سلاحٌ فكري، تحارب به لتوطيد دعائم ملكها، ومناجزة عدوها أخذت به، وإن كان فيه خطر محدق فتكت به.

ولد ابن رشد في نهاية عهد الدولة المرابطية في الأندلس، تحديدًا في عام 520 ه، وشهد في شبابه تسلم الموحدين السلطة في المغرب والأندلس (541 ه). وما لبث حكم الموحدين أن تمكن، حتى استقدمه عبد المؤمن بن علي الكومي الذي دام حكمه ثلاثين عاماً، إلى مرّاكش ليستشيره في قضايا النهوض العلمي وبناء المدارس والمعاهد. وأقام ابن رشد بمراكش سبع عشرة سنة ولم يرحل في طلب العلم إلى المشرق، كعادة أهل زمانه، فقد وجد في رعاية السلطة الحاكمة عوضًا، وقد عُين قاضيًا للقضاة في قرطبة (564ه)، ولم تستمر هذه الرعاية السياسية كثيرًا، إذ نكب الخليفة المنصور ابن رشد ونفاه إلى قرية بجوار قرطبة، توفي على إثرها في 595ه.

برع ابن رشد في الفقه والطب والفلسفة، وتنوعت آثاره بين التلخيص والشرح والتأليف في هذه الحقول الثلاثة. وقد اشتهر في أوروبا العصور الوسطى باسم الشارح الأكبر the commentator، الذي لم يكن إنجازه في شرح وتقريب وتفهيم عبارة أرسطو وفلسفته فحسب، وإنّما في أنّه خلّص فلسفة أرسطو من التشويه، ونقّاها من العناصر الأفلاطونية المحدثة، وحاول العودة بها إلى أعماق المذهب المشائي الحقيقي. ولم يكن ابن رشد حَواريّاً مخلصًا لأستاذه أرسطو، بل كانت له فلسفة وآراء متبلورة في الطبيعة وما بعد الطبيعة والسياسة والأخلاق، والتوفيق بين الحكمة والشريعة.

كتاب ابن رشد «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» وثيقة كاشفة عن الجماعات العلمية السائدة في بيئة ابن رشد، والتي كانت تستحوذ على رضا الحكام ورضا الجمهور، كما أنّه كاشفٌ عن الإشكالات الفكرية التي كانت مادة الجدل والنقاش والنزاع حينها، وكاشف عن المناهج العقلية والفقهية التي توصّل إليها الفكر الإنساني في تحصيله المعرفة وجداله عنها.

أوّل ما يلفت النظر في الكتاب أنّه تصدّر باستفتاء فقهي! لقد بدأ ابن رشد كتابه فقيهًا، والمحكوم عليه هنا هو الفلسفة، والحكم هو واحد من الأحكام الخمسة التكليفية، والحكم الصادر هو الوجوب. وقد عرّف ابن رشد الفلسفة بأنّها النّظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أي من جهة ما هي مصنوعات. وهنا نلاحظ اختلاف ابن رشد مع ابن سينا في تعريف الفلسفة، فابن سينا يعرف الفلسفة بأنها: النظر في الموجود من حيث هو موجود، أي في كنه الموجود، وهنا نقطة نظام، فهل أعاد ابن رشد تعريف الفلسفة؟ وحدد لها وجهة أخرى غير وجهة الفلسفة اليونانية؟ أي أنّه حاول أن يلبسها لباس الإيمان بأسلمة وجهتها، فادّعى أنها تبحث في الموجودات من حيث هي مصنوعات لا من حيث هي موجودات؟

هذا التوجه في تقويم أسس الفلسفة في عصره، نجد ملامحه كذلك في استعماله مصطلحات استمدها من القرآن، فهو يستعمل (الاعتبار) من قوله تعالى: «فاعتبروا يا أولي الأبصار» [الحشر: 2]، ويستعمل (النظر) من قوله تعالى: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت» [الغاشية: 17]، والاعتبار عنده هو القياس، «... وكان الاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس...».

والكتاب بناء هرمي من الحجج المترتب بعضها على بعضها، فأول حجة صحيحة قوية هي إيجاب النظر في القياس العقلي، وهذا علم آلي، ثم يقيم الحجة على وجوب أخذ النظر العقلي عن القدماء المخالفين في الملة، واستخدم في ذلك تمثيلات عدّة، وقال إن التراكم المعرفي هو السبيل لبناء العلم، وما منه بد. وهو هنا يؤصل لوجوب استفادة كل حضارة من علوم الأخرى بغض النظر عن اختلاف الأديان.

ثم انتقل ابن رشد للحديث عن تفاضل الناس في التصديق، فطباع الناس في التصديق ثلاثة: البرهانية والجدلية والخطابية، وأشرفها البرهانية، ولكن الشريعة تخاطب كل الناس، لذلك يتحمل الشرع التأويل في هذه المستويات الثلاثة. ثمّ قسّم ابن رشد المعرفة الناتجة عن النظر البرهاني من حيث علاقتها بالشرع إلى: ما سكت عنه الشرع، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، وما عَرّف به، وهذا ينقسم إلى موافق لما أدّى إليه البرهان ومخالف له، وهذا القسم الأخير هو الذي يُطلب فيه التأويل. والتأويل عند ابن رشد هو وسيلة منهجية لفك التعارض المتوهم بين الشريعة والفلسفة، وله ضوابط، فهو لا يطبَّق إلاّ في القسم الثالث من نتائج المعرفة البرهانية، وهو محكوم بقانون التأويل العربي، فلا يمكن بشراً أن يحمّل النصوص أفهامه القريبة أو البعيدة من النص ويدّعي أنّها مما يتحمّله التأويل، كما فعلت الباطنية في عصره.

ثم يناقش ابن رشد المسائل الثلاث التي احتدم الخلاف فيها بين الفلاسفة والمتكلمين، وهي مسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة قدم العالم، ومسألة المعاد. والجميل أن ابن رشد يناقش آراء الفريقين رويدًا رويدًا، ويفكك أقوال كلّ منهم، ثم ينتهي إلى أنّه لا خلاف! وبالتالي فحكم التكفير مرتفع في حق الفلاسفة.

ويلاحظ أنّ ابن رشد يعمد أكثر من مرة إلى منع استخدام سلاح التكفير، حرصًا على تجنيب الأمة التفرق والتشرذم. وتقسيم ابن رشد الناس إلى أصناف ثلاثة، برهانيين وجدليين وخطابيين، وتصنيفه الشرع إلى أصناف ثلاثة، صنف يجب أن يؤخذ على ظاهره، وصنف يجب أن يؤوَّل، وصنف متردد بين الاثنين، ومنعه التصريح بالتأويل للجمهور، يكشف عن حكمة ابن رشد العملية، وبُعد نظره في أثر الآراء الفكرية في تقسيم الأمة إلى طوائف وفرق. ومن ثم فإنّ منهجه هذا يعد أساسًا في التعامل مع القضايا الفكرية الدينية المؤثرة في وحدة الأمة وتفرقها.

وقد اعتمد ابن رشد منهج القياس في ترتيب مقدمات صغرى وكبرى واستنباط نتائج منها، مستخدمًا آيات قرآنية كثيرة مواد لهذا القياس، كما استخدم منهج التمثيل الذي يماثل صورة بصورة، بشرط صحة التناسب بينهما أكثر من مرّة، «وإنما كان هذا التمثيل يقينيًّا وليس بشعري... لأنّه صحيح التناسب...». واستخدم ابن رشد القسمة حين قسم المعرفة الناتجة عن النظر البرهاني من حيث علاقتها بالشرع إلى الأقسام المذكورة سابقًا، كما ناقش دليلاً إجماليًّا هو الإجماع، وأنّه لا يؤخذ به في النظريّات، بخلاف العمليات، التي يمكن فيها الأخذ بالإجماع السكوتي كذلك، ولا يمكن هذا في الأمور العقليّة.

وبعد، فتلك قراءة سريعة لفصل المقال تحاول اكتشاف بعض ملامح منهج ابن رشد وفلسفته، هذا الفيلسوف الذي ملأ الدنيا صيتًا وسمعة وكان ملتقى حضارتي الشرق والغرب.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)