فايسبوك Facebook

, بقلم محمد بكري


جريدة الرياض السعودية


النسخة الإلكترونية من صحيفة الرياض اليومية
السبت 26 ربيع الأول 1436 هـ - 17 يناير 2015م - العدد 17008
«ثقافة اليوم» - فاطمة المحسن


الفيس بوك


دخلت ثقافة التدوين مع وسائل الاتصال الحديثة مثل الفيس بوك وملحقاته، مرحلة جديدة، فهي تحمل مفارقة الثبات والأفول السريع، فقدر ما تجد الأفكار والخاطرات السريعة حيزا للإعراب نادر الحدوث في الماضي، قدر ما تصبح النتاجات الفكرية والأدبية من خلالها قابلة للاستنساخ والتحوير والتدوير والزوال حتى.

مخترع الفيس بوك، وهو شاب لم يغادر بعد تقاليد الجامعات عندما شرع في مهمته، خلق ثقافة عالمية ربما تفوق في متغيراتها ما أحدثه مخترعو المطبعة والراديو والتلفزيون. فشبكة التواصل الطلابي السريع ، والذي يتم عبره تبادل الأغاني والأفلام والمعلومات المدرسية والكتب، غدت ثقافة عالمية تشمل ربات البيوت والفلاحين والعمال وحتى الناس الذين يعيشون في معتزلات طبيعية كالجبال والأرياف والصحارى. لعل المساحة بين الثقافتين العارفة والشعبية ضاقت عبر هذه الوسائل، كما اتسع أفق تعميم الثقافة، حتى غدا مفهوم “شعبية” الثقافة قابلاً للمراجعة على غير صعيد. فهناك جمهور جديد يتشكل غير الجمهور السابق للمغني والسياسي والعالم والكاتب والممثل والمخرج وسواهم من “النخبة” التي كانت تراه في السابق متباعداً ونائياً ومن وراء حجب، أصبح هذا الجمهور له هويات محددة سواء حقيقية أم مختلقة .كما غدا الفيس بوك وسيلة لاختبار المواهب بين الناس العادين، ففيض خاطرات الغزل التي تدونها النساء المهجورات، وعلى وجه الخصوص اللواتي يعانين من ظروف الحجز، لها حكاية تشابه تلك الشتائم التي يخترعها الشباب ليعلن سخطه الاجتماعي وتمرداته عبر تلك الوسائل. إنها ثقافة جديدة قابلة للاختبار السوسيولوجي والسايكولوجي وعلى غير صعيد ،وهي بعد الثورات العربية غدت تحتل مساحة واسعة تكاد تطغى على الثقافة الورقية. قلة من الدراسات التي تناولت هذه الظاهرة في البلدان العربية، ربما لأسباب تعود إلى كونها متحركة تخضع إلى متغيرات سريعة وتحمل طابعها الشبابي المتفجر الذي يمضي بها أفقيا نحو تخوم بعيدة تصلها بالعالمية، أو ربما لأن الثقافة العربية “العارفة” بطيئة التلقي والاستيعاب. ولكن الثقافة الشعبية وبسبب وسائل الاتصال الحديثة، لم تكن بها حاجة الى أزمنة طويلة للحاق بتلك المتغيرات، فهي تقطف ثمارها الإيجابية اليوم على نحو غير مسبوق، حيث ترتفع نسبة الناس المستفيدين من العلاقة التفاعلية مع الثقافة العارفة وانتشار الوعي بالتواصل، والتعبير عن الفردانية خارج حدود الجماعات القديمة بما فيها العوائل المحافظة.

بيد أن فضاء الفيس بوك وملحقاته، وهو فضاء مفتوح وعالمي، بدأ يتشكل في العالم العربي وفق مواصفات محلية ، فقدر ما تتسع دائرة التلاقي عربياً عبر هذا الحيز الإفتراضي، قدر ما تضيق في محليتها، فالمستخدم يرى نفسه بمرور الوقت أسير شبكة محدودة من المعارف والمشاركين في الرأى الذين لا يختلفون عنه أو يضيفون إليه معلومات أو آراء طازجة. فأنت ترى المصري له حيزه الخاص، والسعودي والجزائري والسوري كذلك، ولكن التقسيم السياسي وحتى الجغرافي للبلد الواحد يشمل المحلية نفسها، فالمعارضون السوريون لا يلتقون إلا نادراً مع من يخالفهم الرأى، وكذلك العراقيون أو بقية الجنسيات العربية. هل بمقدورنا القول أن ثقافة الفيس بوك تكرّس التشظي في اللغة الواحدة على عكس الثقافة الورقية ؟ الحق انها تمنح القول السياسي مساحة أرحب كي يطغى على الإضافة الفكرية أوالأدبية أو الفنية، فتلك الجذاذات الصغيرة من الآراء السياسية والاجتماعية المتطايرة يميناً وشمالاً في عالم الفيس بوك وتويتر وسواهما، تقترب من مصطلح بورديو عن الصحافة التلفزيونية التي رأها أقرب إلى وجبة الطعام السريعة Fast Food ، لا تغني عن جوع وتؤدي إلى سوء الهضم. كما ان مساحة الجدل المثمر في الميدان السياسي تنحسر في تلك الدوائر المغلقة،لأن الهتافين والمحرضين والشتامين، هم الأكثر قبولا في شبكات التواصل الجديدة، وهم يؤدون دوراً في تضييق أفق النقاشات وحصرها في شيفرات خاصة بكل مجموعة، إنهم يصرفون النظر عن القضايا الأكثر جدارة بالتداول أو التي بمقدورها خلق مساحات مثمرة للاختلاف.

لعل لغة الفيس بوك وملحقاته وهي في الغالب عامية، تضرب في العمق محاولات إنقاذ الفصحى من مأزقها الراهن، ففكرة استخدام العاميات بديلا للعربية الكلاسيكية يضاعف عبر الفيس بوك العزلات الجغرافية للعربية، على عكس ما كانت تؤديه المطبوعات الورقية من أدوار في مقدمتها تقريب آداب الدول العربية من بعضها. ولعل بمقدورنا التصور الآن أن “عقدة” الفصحى، تمر عبر فلترات التواصل الجديدة في مختبر تفكيك قيودها، حيث بقيت دون لغات العالم تنوء بحمولتها الثقيلة منذ قرون، وأياً كانت التسويات، فهي سُنة التطور التي تنطبق على كل الأشياء.

الثقافة في كل الأحوال لا تعني النصوص وطريقة كتابتها، بل هي العالم الرحب للسلوكيات ونمط العيش والتفكير، وفي هذا الصدد تصبح وسائل الاتصال الحديثة، قادرة على عكس صورة هذه الثقافة، ولكنها أيضا لها قدرة أكبر على تغريبها. ففي عوالم الفيس بوك تتشظى الهويات الذاتية عبر اصطناع هويات بديلة، أو عبر تنشيط الهوس المرضي بالذات وطرق استدراج المعجبين بشيفرات لغة خاصة، وهي كوميديات محلية يتبادل فيها المديح جمهور يرتدي كل واحد فيه أقنعة مختلفة. ولكنها أيضاً تتولى تشكيل مستعمرات صغيرة تضع لفكرة الكياسة والمجاملات اعتبارات مختلفة عن السابق، فهي تخلق “تضامنا” تبادلياً يتحول فيها قائل عبارة صغيرة يستلها من كتاب عابر إلى عبقري لا يضارع، وشويعرة صغيرة تغدو مبتكرة لقاموس الحب . لعل الصور الشخصية لمستخدمي الفيس بوك، وبخاصة تلك التي تكرس المرايا النرجسية للفرد، جديرة بالقراءة المتمعنة حول عروض النجومية عند الناس، وهي قضية لا ينبغي أن تدرج في باب الهجاء والرفض، قدر ما تتداخل مع فكرة الملمح المقبول في العرف المحلي، وكيف يتحرك الفرد داخل مجموعة خاصة، سواء عبر النص أو الصور. فالشابات العاريات والشباب الملتحي أو الذي يرتدي الزي الأفغاني، ترميزات لمعركة اجتماعية طاحنة تجري في العالم الافتراضي، حيث مرايا هذا العالم تعكس الواقع الأرضي على نحو ينذر بانفجارات مروعة، فبين الطرفين : التزمت والعري شعرة رفيعة، تحسب لسذاجة الشباب واندفاعاتهم وتهورهم، ولكنها تنطوي على توترات يغص بمراراتها العالم العربي.

لقد تغيرت بنية الفعل التواصلي، بتأثيرات الفيس بوك وملحقاته، ولعلها اليوم تذكّرنا بما قاله بورديو عن التلفزيون من حيث قدرته على تشكيل صورة خاطئة عن “الحقيقية”، وفي كثير من الأحيان تدعو الشبكة العنكبوتية المستخدم إلى توليد صورة كاذبة عن الذات، ولكن هذا الكذب هو الوجه الآخر للحقيقة الافتراضية في عالم اليوم، فقد سعى الإنسان عبر وسائل شتى وفي مقدمتها الفنون المختلفة، إلى تقريب الخيال من عالمه الواقعي، وهو اليوم يقطف ثمرة دخوله كمشارك في موشور الضوء الذي يرسمه على لوحته الافتراضية. وسواء كانت تلك العروض تبعث على الضحك أو تثير الأسى، فهي صورة من صور استلابه الجديدة، فهو يعيش في غربة عن عالمه الحقيقي، الذي كلما حاول تقريب حاجاته من ملمح الخيال الذي حلّق به بعيداً، كلما كان سقوطه مدويا في فراغ الواقع.

حلم مخرجو الأفلام بالإنسان الألي الذي يعيش بين البشر، ويحمل عاطفتهم، ولكن حلمهم تحقق عكسياً حين أصبح الإنسان يود الانتساب إلى عالم يخلقه العقل الألي، حيث من المتوقع أن تتحول كل أحلام البشر إلى واقع افتراضي.

عن موقع جريدة الرياض السعودية


جريدة الرياض أول جريدة يومية تصدر باللغة العربية في عاصمة المملكة العربية السعودية صدر العدد الأول منها بتاريخ 1/1/1385ه الموافق 11/5/1965م بعدد محدود من الصفحات واستمر تطورها حتى أصبحت تصدر في 52 صفحة يومياً منها 32 صفحة ملونة وقد أصدرت أعداداً ب 80-100 صفحة وتتجاوز المساحات الإعلانية فيها (3) *ملايين سم/ عمود سنوياً وتحتل حالياً مركز الصدارة من حيث معدلات التوزيع والقراءة والمساحات الإعلانية بالمملكة العربية السعودية، ويحررها نخبة من الكتاب والمحررين وهي أول مطبوعة سعودية تحقق نسبة (100٪) في سعودة وظائف التحرير.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)