غيمة أربطها بخيط، عبده وازن (لبنان)، أحلام هاشيت أنطوان - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣١٠٤ الثلاثاء ١٤ شباط ٢٠١٧
جريدة الأخبار
ادب وفنون
جمال جبران


«غيمة» تتسع لحياة كاملة : عبده وازن يلوذ بأحلامه


ما شأن الناس بأحلام الشعراء كي يكتبوها لهم؟ تساؤل يصبح مشروعاً أمام كتاب عبده وازن «غيمة أربطها بخيط» (نوفل ــ هاشيت أنطوان) الذي جاء كأرشفة لأحلام زارته طوال سنوات ورغب في تدوينها. يضع الكاتب والشاعر اللبناني الاستفهام نفسه «هل تعني هذه الأحلام - النصوص القارئ حقاً؟ ماذا يعنيه أن يقرأ أحلاماً أبصرها شخص سواه؟ هل يجد فيها نفسه؟».

لكن قبل ذلك، كيف نقبض على أحلامنا التي ذهبت كي نعيدها إلى الحياة ونثبّتها في الزمن؟! أنربطها بخيط فلا تضيع منّا! ليس سهلاً الإمساك بالأحلام حيث لا يبقى منها في البال غير صور هلامية يصعب التأكد من ملامحها بوضوح. ننسى الحلم الذي تزيد مدته عن أربعين ثانية. لكننا لا نحكي أحلامنا، بل كوابيسنا فقط. وحدها الكوابيس قادرة على مقاومة النسيان وبعضها يتكرر لمرات ويأتي في كل مرة على الصورة نفسها كأنها تقوم بامتحان روح صاحبها: «وكم من أحلام تفوتنا فننساها ولا تبقى منها ملامح ولو ضئيلة». مع ذلك «كم من أحلام تتكرّر وكأنّها تصرّ على طرق أبواب النوم لغايات غير واضحة».

على هذا، تبدو تلك المسافة بين اليقظة والنوم مريحة لأولئك الذين تعبوا من الحياة، ولذلك يذهبون باحثين عن أدوات مُغايرة على نحو يتيح لهم إعادة ترتيب سيرة الحياة نفسها، وبالتالي روايتها في قالب يناسب نفسية فاعلها. قد يبدو هذا مدخلاً لقراءة «غيمة أربطها بخيط»، وصاحبه يبدو مرتاحاً في رواية حياته على هيئة أحلام حيث «الحلم يوفر للشخص ما لم يتيسر له في حياة اليقظة». أحلام أبصرها صاحبها ليلاً «طوال أعوام» أو هي أحلام يقظة «يعمد المرء عادة إلى تخيّلها أو «صنعها» في حال من شبه اليقظة أو اليقظة الخدرة».

هي ليست المرة الأولى التي يروي فيها صاحب «حياة معطلَّة» (2008) أحلامه. لقد فعلها سابقاً في «قلب مفتوح» (2010) حين سار على درب «جدارية» محمود درويش ودخوله ذلك الممر اللولبي الفاصل بين حالتي الصحو والغياب إثر عملية مفتوحة أجراها لقلبه. لقد استثمر شاعر «أبواب النوم» (1996) تلك الحالة لتدوين أجزاء تأملية لحياته السابقة، كأنما يجري تصفية حساب معها: طفولته والمراهقة، الحب الأول ومشقة الوصول إلى سن الثلاثين، والاقتراب خطوة من الانتحار إضافة إلى قصة الأب الذي رحل باكراً. قصة الأب وحدها سيكون لها كتابة منفصلة في «غرفة أبي» (2013) وهي مُقيمة أيضاً في منطقة الأفكار المُنتجة عن طريق أحلام صاحبها وهو المُعترِف في «قلب مفتوح» بأنّه «لا أستيقظ من نوم بل من حلم»، إضافة إلى إعلانه صراحة بأنه «مدمن أحلام، في النوم واليقظة»، أو كأنه «مريض مصاب بداء هو الحلم». وعليه، يبدو وازن بأنه يكتب «ليحلم أنه يحلم، ليصنع عالماً لا يمكن أن ينهض إلا في مثل تلك اللحظة المتوهمة التي يعيشها بحواسه كافة». لكن مع ذلك، لا يمكن اعتبار «غرفة أبي» سيرة واضحة لصاحبها، حيث يختبئ وراء «سيرة روائية» ويلجأ إلى أقوال الآخرين بهدف الاحتماء بهم. وهنا، في «غيمة أربطها بخيط» نجد احتماء بالأحلام التي لا تدين أصحابها، إذ تبقى أحلاماً لا يُسأل كاتبها عنها على عكس الزمن القديم حيث كان يُدان من ظهر في حلم وهو يعتدي على أحد أفراد القبيلة: «وكان الذين تقع عليهم التهمة لا يجرؤون على إنكار هذه التهمة التي كيلت لهم، فالحالم هو الشاهد الأصدق وما دام الحالم أبصر في الحلم ما يرويه، فلا بدّ للمذنب من الاعتذار». ومن ذلك الزمن القديم، يستقي شاعر «الأيام ليست لنودعها» (2016) محاكمات جرت بسبب أحلام، وحروباً اشتعلت جرّاء تفسيرات غير دقيقة لأحلام أُخرى.

لكن هناك ما يستوجب التوقف عند أحلام تأتي على أرضية مُغايرة ومرغوبة، حين كانت لدى واحدة من القبائل البدائية أعراف تُتيح لرجل مضاجعة امرأة حلم بأنه نام معها وصار بينهما وصال «هذا العرف لو طُبّق في زمننا لكان لي من العشيقات كثيرات، حلمتُ أنّني أضاجعهنّ». وفي هذا تأكيد على أن الحلم ما هو في جزء كبير منه سوى «تحقيق، مقنَّع أو غير مُقنَّع لرغبة مكبوتة أو غير مكبوتة».

لكن بعيداً عن الرغبات المكبوتة، هناك حديث عن أحلام مربوطة بالغياب وبمن رحل. تُفتح سيرة الأحلام بذلك المشهد في بيت العزاء مع قيام الراحل من موته «وكانت النسوة يندبنه» وهو يسير مؤكداً «لستُ أنا مَن مات». ولن تنتهي المسألة هنا، إذ ترتبط الأحلام نفسها بموت من كانوا قريبين من حياة الكاتب. بالنسبة إلى وازن، سيظهر أنسي الحاج في أكثر من منطقة في «كتاب الأحلام»، خصوصاً أن وازن كان منشغلاً أثناء تحرير أحلامه تلك في التنسيق لإصدار «كان هذا سهواً» في إشارة لطبيعة ظهور العناصر المكّونة ليوميات الناس في أحلامهم. سيظهر شاعر «لن» في حلم يخص جماعة مجلة «شعر» وهو «يرفع نظارتيه بيد ويده الأخرى على ذقنه». كما سيأتي على سيرة «الرأس المقطوع» مع رجل «مقطوع الرأس ولكن ما من دم يسيل من عنقه»، ويعرف الحاج فيسأل عنه، وصولاً إلى بول غيراغوسيان وأمامه أُنسي يرسمه ليظهر، بعد انتهاء العمل، في لوحة «طويل الشعر، مثل امرأة لم تتسع الورقة البيضاء لشعرها، فراحت خصلاتها تتدلى من الرسمة».

في حلم آخر، يصطحب وازن صديقاً ويذهبان لزيارة أُنسي في بيته، الباب مفتوح والغرف فارغة وصوت زوجته ليلى يتبدد في قلب البيت «حين أصبحنا على الطريق أبصرنا أنسي ينادينا بضحكته الأليفة رافعاً يده اليمنى: أنا لم أعد أسكن هنا، ألا تعلمان؟». ومن مكان إقامته الجديد، سيبعث بنّص لفيروز. ستريه لصاحب الحلم ليقول «ما زال أُنسي يكتب بشغف». هكذا تتوالى أحلام وازن وهو يعبر من منطقة إلى أخرى سارداً حياته على نحو مُشتهى، يرويها بقالب مُنتج على هيئة قناع حيث يظهر التردد من ارتكاب «سيرة ذاتية» على نحو صريح. التهرّب من تدوين الـ «أنا» الساردة بطريقة مُباشرة خشية من وضوح الذات علانية أمام عيون الآخرين. لكن مع تتابع سرد تلك الأحلام بشكل يشير إلى أن «لا نهاية لنصوص هذا الكتاب» بحسب تصريح وازن نفسه، نجده وقد ختم الإصدار بـ «الحلم حارس النوم والنوم أرض كنوزه»، دراسة لمقام الحلم في حياته. أو كأنها محاولة لإقناع القارئ بما صار مُنجزاً بين يديه. وفي الدراسة إعادة موجزة لعلماء الأحلام ومن قام بتفسيرها من يونغ إلى فرويد وابن سيرين والنابلسي وعودة إلى الحقبة الإغريقية وأرطميدوس وأرسطو وانتقالاً إلى هيغل وبيرغسون وتوما الأكويني وسواهم. لقد وضعت هذه الدراسة ختاماً لتلك الأحلام على عكس رغبة صاحبها الذي أعلن أن لا نهاية لها. لقد أثقلت عليها وعارضت الانسياب الذي سارت عليه طوال الكتاب. لو أنها أتت منفصلة خارج الكتاب، لكانت تركت للأحلام مواصلة انسيابها وسيرها كنهر طويل وهادئ.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال بالـ Pdf في جريدة الأخبار


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأحد 05-02-2017
الصفحة : ثقافة
هيثم حسين


"غيمة" عبده وازن.. مُطارِد الأحلام وطريدُها


يشكّل عالم الأحلام، ميدان اشتغال اللبناني عبده وازن في كتابه الجديد “غيمة أربطها بخيط”(*)، والذي لا يختار له تجنيساً معيّناً “قصة، رواية..”، يبقيه نصّاً مفتوحاً على القراءات والتأويلات، يجمع خيوط الشعر والسرد، وهي أحلام اليقظة والنوم معاً، كما يشير، يخرجها من حُلميّتها، يضعها على مسرح الحياة الواقعيّة حين يؤطّرها بالكتابة ويقيدها باللغة، يحرّرها من صُورها المنطلقة في الخيال، ويتخيلها واقعاً، ماضياً، أو مستقبلاً.

يكتب وازن عشرات الأحلام في صيغة أقرب إلى قصص قصيرة، أو قصيرة جدّاً، يكون بطلها الأوحد الخيال الشعريّ المنطلق في أعماق الشاعر نفسه، يمنح منها ما عاشه في الحلم، وما تخيّله محلوماً به، يكثّف الصور ويفتح المجال للأنا كي تبوح بأحلامها التي تكون صدى اعترافات من جهة، وصوت الداخل المسكون بعوالم وشخصيّات كثيرة تصل حدّ التناقض في ما بينها أحياناً.

يستعيد وازن في كتابة ما قيل عن الحلم، سواء ما يشار إلى أنّه تفسير أو تأويل أو تعبير، وكيف قاربه العلماء والفلاسفة والأدباء من مناظيرهم المختلفة ومن زوايا معتمة بعيدة من بعضها البعض، لكنها تتكامل لتخرجه من العتمة التي تغلّفه، إلى النور الذي يتكحّل بحضوره الملوّن بعد تظهيره كصور مكتوبة ونثرٍ شِعريّ.

لا يسعى صاحب “قلب مفتوح” إلى تقديم بحث عن ماهيّة الأحلام وآليّاتها التي تتفاعل لتتراءى للمرء وتتجسد أمامه، أو تستمرّ معه، وتؤثّر فيه برغم عدم القدرة على الإحاطة بها. بل تراه يسبغ على الأحلام نفسها ألوان الحياة المتباينة، وكيف تتكامل في ما بينها لترسم صورة النقصان التي تظلّ تحاصر الإنسان في نومه وصحوه.

الحلم ملاذ الشاعر المنشود، منفاه الأثير، ملعبه غير المسوّر بجدران أو قيود، يقلب فيه الموازين، يجمع شخصيّات من عصور متباعدة، يؤالف بينها، يناجيها، يبحث في رؤاها وأحلامها بطريقته، يكون الحالم الواعي بأحلامه، يدوّن جزءاً من سيرته الحلميّة، تلك السيرة التي تتقاطع في أجزاء مع سيرته الذاتية، وتفترق في منعطفات حلميّة عنها، تكون تجسيداً لصور ورؤى أخرى تسكنه، أو يتهرّب من مواجهتها.

يدوّن مؤلف “غرفة أبي”، أحلامه، كوثائق معقلنة عصية على الإحاطة والتقييد، بحيث يكون الإطار اللغويّ أحد تجلّياتها. فالعالم اللاواعي الذي تحدث فيه، يتحوّل إلى واقع ملموس ينبغي نقله إلى الورق، وينبغي تمثيله وتجسيده. يكون الوعي بالحلم وباللاوعي نفسه، مثار إعجاب الحالم المعرّض نفسه لتجربة تأريض الصُّور الماضية في فراغ مشرّع على خيال متمرّد.

يشير وازن في مستهلّ كتابه إلى أنّه لا نهاية لنصوص كتابه، وأنّه قد يكتب يوماً نصوصاً تماثلها، ما دام شخصاً يحلم ويكتب أحلامه أو ما ينتقيه منها. ويلفت إلى أنّ كلّ النصوص التي يتضمّنها ما يصفه بالكتاب “المفتوح”، هي “أحلام أبصرتها في الليل أو أحلام يقظة، تلك التي يعمد المرء عادة إلى تخيّلها أو”صنعها" في حال من شبه اليقظة، أو اليقظة الخدرة. إنّها نصوص أحلام عكفت على تدوينها طوال أعوام".

يطلق الكاتب أسئلة عديدة وهو يضع أحلامه بين أيدي قرّائه، منها: “هل تعني الأحلام-النصوص، القارئ حقاً؟ ماذا يعنيه أن يقرأ أحلاماً أبصرها شخص سواه؟ هل يجد فيها نفسه؟ هل يجد فيها، مثل صاحبها، نافذة تطلّ على عالم آخر متوهَّم وحقيقيّ؟”. ويعترف أنّه عندما كان يكتب أحلامه، كان يخامره شعور بأنّه يكتب أجزاء أو مقاطع من سيرته الذاتيّة، لكن بطريقة لاواعية، مشرّعة على المصادفات والمفاجآت. يصفها بأنها سيرته الذاتيّة المجهولة، التي عاشها في ظلام الليل وعتمة الذات واللاوعي.

في القسم الثاني من كتابه، يخرج وازن من دائرة الأحلام المستعادة والاعترافات الحلمية، وكأنّه يكمل سرد قصصه، ليدخل عتبة عقلنة أحلامه بتقديم رؤاه عن هذا العالم المتشعّب. يكتب سيرته كحالِم، لا يفتأ يطارد أحلامه وينقلها إلى قرّائه، كأنّه بصدد إعادة اكتشافها أثناء تدوينها.
يستذكر وازن آراء فلاسفة وعلماء أبحروا في هذا المجال وأحدثوا ثورات فيه، مثل فرويد ويونغ، ولا يخفي انتصاره ليونغ الذي أبدع في روحانيّاته وكتابته أحلامه وخرج عن سطوة معلّمه فرويد في ربط الحلم بالرغبة المحسوسة أو اللذة المفترضة المأمولة. كما يسترجع المقاربات الدينية للحلم، وتفاسير علماء كابن سيرين ونظرته ذات المركزيّة الدينيّة.

يستعيد الكاتب النظرة الشعبيّة للأحلام، والأساطير تغلّف عوالمها، سواء كانت حكايات الجدّات والأمّهات المتوارثة المتداولة، أو تلك الحكايات التي يشيعها المتديّنون في محاولة إحاطتهم بالأحلام وتوجيهها هذه الوجهة أو تلك. فقد توَصف بالرؤى، أو بأنّها أضغاث أحلام، ولكلّ توصيف مراده وما يستبطنه. أحدهما يشير إلى الخيّر والآخر إلى المدنّس، إلى المشتهى في حالة الرؤيا، والمتعوَّذ منه في حالة الحلم، تبعاً لبعض الشروحات ذات الجذر الدينيّ.

يؤكّد وازن أن الحلم ليس وجهاً من وجوه الحياة، بل هو الحياة نفسها، الحياة بصفتها حياة أخرى، حياة كاملة، حياة مضافة إلى الحياة. ويشير إلى أنه لا يستعير هنا مقولة غولدوني “الحياة حلم”، لكنّ هذا ما لمسه خلال أعوام، وما عاشه، من دون أن يبرّره أو يسعى إلى تأكيده. وقد يغدو الحلم مرسالاً يبثّ البهجة في روحه، أو قد يُكئبه ويدسّ أرقاً في كيانه، وذلك بصيغة لا يجد سبيلاً لتقنينها أو إخراجها من عالمها لتكون تحت سيطرة الوعي. الحلم يعيش معه كصديق، منذ طفولته ويفاعته وشبابه ونضجه، يستمرّ في زيارته. ورغم انقطاعه أحياناً، يحرص على إثراء ليله بالخيالات والآمال، وحتّى بالكوابيس التي تغيّر حالته.

النصوص المدوّنة تشتمل على بطولة مطلقة للأنا المتعقّلة الواعية بحلمها ويقظتها، أحلام هي أحوال النائم الحالم الصاحي، ونجد كثيراً من الأسماء حاضرة في أحلام الشاعر، منها مثلاً بورخيس، بسام حجار، سمير قصير، بول شاؤول، أنسي الحاج، عباس بيضون، علوية صبح، وغيرهم، يستحضر أصحابها الراحلين منهم والأحياء، يتداول معهم شؤون الحياة والكتابة والحلم.

يظلّ الشاعر يحلم في حلّه وترحاله، في ساعات الليل والنهار، يسترق أحلامه من فم الزمن الهارب، ويستذكر أوقاتاً استعصى عليه الحلم وتعذّر، وكيف وقع فريسة انعدام الحلم، واشتاق إليه بطريقته الخاصّة، وتراه ينوّه بأنّ الليل يفتح كنوزه له مثلما يفتحها لسواه، لكنّ الباب الذي يلج من عتبته مملكة الأحلام يختلف عن أبواب الآخرين.

(*) صدر عن دار نوفل في بيروت 2017.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 24-01-2017، العدد : 10517، ص(15)
الصفحة : ثقافة
العرب - بيروت


أحلام الليل والنهار في كتاب جديد لعبده وازن


عبده وازن يعترف أنه عندما كان يكتب هذه الأحلام كان يخامره شعور وكأنه يكتب أجزاء أو مقاطع من سيرته الذاتية، ولكن بطريقة لاواعية مشرعة على المصادفات والمفاجآت.

على ناصية اليقظة يدخل الكاتب اللبناني عبده وازن مدنا متخيّلة ويرسم على جدرانها أحلاما حائرة تقيم على جسر يربط الواقع بحافة هاوية مفتوحة على ليل ونهار، في كتابه الأخير “غيمة أربطها بخيط”. والكتاب عبارة عن نصوص تجمع بين الشعر والسرد التخيلي. ويصنفه الكاتب على أنه أشبه بمدونة كتب فيها أحلاما أبصرها. منها ما ينتمي إلى أحلام الليل ومنها ما ينتمي إلى أحلام اليقظة.

يقول وازن “انطلقت في تأليف هذا الكتاب من تجربة ذاتية وخاصة. لم أجد ما أستند إليه من مرجع أدبي قائم على ما يسمى النص الحلمي. فشئت أن أكتب ما يمكن تسميته أدب الحلم، وليس مجرد تدوين أحلامي كما هي”.

ويضيف الشاعر والكاتب “انطلقت من الأحلام ورحت أكتب نصوصا قائمة على ذلك البعد الفني والتقني، وقد اعتمدت تقنية جديدة في كتابتها مستندا إلى الآلية التي قال بها عالمان كبيران هما سيغموند فرويد وكارل يونغ. وبدت هذه النصوص بعدما جمعتها وكأنها متراوحة بين القصص القصيرة وقصائد النثر”.

كل نصوص هذا الكتاب يمكن وصفها بأنها من النصوص المفتوحة، كما يقول وازن، إذ هي أحلام عكف صاحبها على تدوينها طوال أعوام. ومن بينها أحلام أبصرها منذ سنوات وظل يتذكرها جراء أثرها فيه أو حبه لها أو خوفه منها.

وبينما يسرد في بعض النصوص الحلم كما هو، فإنه في أحيان أخرى ينطلق من أضغاث حلم لينسج حوله نصا. ولكن ما من نص كُتب خارج الحلم، حلم ليل أو حلم يقظة. وفي كلتا الحالتين يغدو الحلم الذي يبصره وازن مختلفا عن الحلم الذي يكتبه، مؤكدا أنه عندما يعيد كتابة الحلم يبدو وكأنه يحلم به مرة أخرى ولكن عبر الكلمات. فإبصار الحلم أمر وكتابته أمر آخر.

تحمل كل صفحة من الكتاب، الصادر عن دار نوفل هاشيت -أنطوان ببيروت، قصة أو حلما أو شيئا من الخيال. لنفهم طبيعة الأحلام التي يدونها الشاعر نستحضر مقطعا من نص بعنوان “البئر” يقول فيه “البئر التي جف ماؤها راحوا يرمون فيها كتبا ودفاتر حتى امتلأت. لم يرم أحد فيها حجرا. مددت يدي لآخذ كتابا فوجدته أخضر مثل ورقة دلب”.

هنا يمكننا أن نفهم الطبيعة الشعرية للأحلام التي تتمظهر لنا وفق رؤية شاعر يرصدها من قاعه الدفين ليقدمها لنا مشهدا أو مشاهد متخيلة لا نقف عند حدود جماليتها الصورية، بل لها عمقها ودلالاتها الخفية.

يدخل في أحلام وازن الواقع بأماكنه ومكوناته وحتى بشخصياته، نذكر مثلا الصحافي سمير قصير، الذي اغتيل في بيروت عام 2005، ونجده في أحد أحلام عبده وازن، الذي يقرع بابا قصيرا، ويسأله “كيف كان وقع الانفجار عليك في السيارة؟ قال: لم أحسّ شيئا. أبصرت ما يشبه البرق ثم لا أذكر ما حصل. لكنني عندما فتحت عيني أبصرتني منحنيا على مقود السيارة التي كانت تحترق، ومن حولي أناس لم أعرف من أين أتوا. رحت أضحك. ظنّوا أنني فارقت الحياة. ثم رفع كأسه وقال: هيا نحتفل الليلة. السلام حل على العالم”.

ويفسر وزان مرامي كتاباته فيقول “لست راوي أحلام. إنني كاتب أحلام أو حالم داخل اللغة نفسها. حالم أحلام أبصرتها. وكم من أحلام تفوتنا فننساها، ولا تبقى منها ملامح ولو ضئيلة. وكم من أحلام تتكرر وكأنها تصر على طرق أبواب النوم لغايات غير واضحة. وكان لا بد من أن أكرر بضعة أحلام راودتني مرارا”.

ويتوقف وازن عند أمر ملحّ يقترب إلى السؤال “هل تعني هذه الأحلام- النصوص القارئ حقا؟” وهنا يعترف الشاعر أنه عندما كان يكتب هذه الأحلام كان يخامره شعور وكأنه يكتب أجزاء أو مقاطع من سيرته الذاتية، ولكن بطريقة لاواعية مشرعة على المصادفات والمفاجآت. إنها سيرته الذاتية المجهولة التي عاشها في ظلام الليل وعتمة الذات واللاوعي.

أما في شأن العنوان الذي يبدو عنوانا لديوان شعري أو لقصيدة فيقول وازن “إنما اخترته عن طريق الحلم أيضا وبمحض المصادفة. حلمت ذات ليلة أنني أكتب قصيدة وعندما استيقظت لم أحفظ منها سوى سطر: ‘غيمة أربطها بخيط‘. لا أذكر كيف كنت أكتبها. لم يبق من القصيدة سوى هذا السطر، بل لعلني كتبتها في الحلم ليبقى منها فقط هذا السطر”.

وترافقت النصوص الواردة في الكتاب مع دراسة مطولة حول مفهوم الحلم في نظريات العلماء وأبحاثهم التطبيقية مركزا على فرويد ويونغ، وهما من أشهر العلماء الذين اشتغلوا في هذا المضمار.

كما توقف الكاتب كثيرا عند آراء الفلاسفة العرب القدامى والفلاسفة الغربيين في قضية الأحلام، لكنه ركز على عالمين مسلمين كبيرين هما ابن سيرين وعبدالغني النابلسي، وقد وضع كل منهما كتابا في “تفسير الأحلام”.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



جريدة الحياة


الخميس، ١٩ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
رجاء نعمة


عبده وازن يطلق أحلامه نصوصاً غرائبية


لا شيء يشبه الحلم مثل الغيمة؛ كلاهما، يقتحمك بلا استئذان في فضاء كثيف يصعب لمسه وبهشاشة مذهلة القوّة والأثر. كلاهما خاطف في عبوره الدائم التجدد في شكله وتقلباته، سريع في تبدّده، إنّما شديد البلاغة لجهة علاقته بالحياة. لا غرابة إذاً في أن يتراءى للشاعر عبده وازن عنوان كتابه في المنام فيستسلم له اعترافاً منه بأهمية الدّلالة التي يحمل، هو المتمرس بالتواصل مع أعماق ذاته تمرساً جعله يربط «الغيمة» بخيط رفيع سحري يصل الحلم بالإبداع. سحري كما ألاعيب الخفة ما أن تمسك به حتى تنسل من شرنقة لاوعيك آلاف الخيوط مشكلةً نسيج الحلم. هكذا هي حكايات عبده وازن غيمة نُسجت أثناء النوم. يا لحظّه أن يكون هذا المدى لصيقاً بأحلامه! هبة كهذه لا تتيسر لكثيرين وإن كان إثراؤها يستدعي هبة أخرى: القدرة على استشفاف أعماق الذات والدأب على القيام بذلك، لا في النوم وحسب بل وفي اليقظة أيضاً وفي الكتابة. فما ذات النوم وذات الوعي سوى كينونات متصلة لا سبيل إلى فك اشتباكها.

لا مبالغة إن قلت إن كتاب عبده وازن هو المرادف الشعري والسردي لمؤلَّف فرويد «تفسير الأحلام» ولمقولات يونغ في «سعي الإنسان إلى اكتشاف نفسه» وكتابه «حياتي». في بدء قراءتي تساءلت عما إن كان الشاعر قد تبحر بمؤلفات هذا وذاك. تساؤلات ظهرت أجوبتها في الفصل الأخير من الكتاب الذي يبيّن أن عمق اطلاعه على آراء يونع يوازي انجذابه إلى هذا العالم الفيلسوف المرهف. لا عجب أن ينهل كلاهما، يونغ ووازن من ينبوع التصوف، الميتافيزيقيا والفلسفة، بينما انشغل فرويد بتشييد النظرية العملاقة التي كاد يعتبرها إيديولوجية لا تقبل الجدل. ولكن، على رغم التباين في الرؤية يتفق العالمان على صلة الحلم باللاشعور وأعماق الذات وعلى رمزيته وعلاقته بواقع الحياة. وإن كان يونغ في تحليله الحلم يبدع في تجاوز الذات الفردية إلى الجمعية وتجاوز آنية الحالم بالزمن السالف وأهله؛ فثمة تباينات كثيرة عبّدت درب الاختلاف الذي تفجر بينهما، فرويد ويونغ، على سطح باخرة كانت تقلهما إلى أميركا. كانت مناسبة الاختلاف تفسير حلم! في معرض تبادلهما أحلامهما حكى التلميذ يونغ للمعلم فرويد ما رآه ليلة البارحة وهذا قدم تفسيره القطعي بصلف جرح نرجسية الصديق المرهف. على أن القراءة العميقة المتأنية للأحلام من ناحية ولنظرية فرويد ومقولات يونغ من ناحية أخرى تؤكد أن رؤيتي هذين العملاقين تكمل الواحدة منهما الأخرى على رغم التباين والاختلاف؛ ولولا تشبث فرويد بتحويل نظريته إلى إيديولوجية ولولا رهافة الحس لدى يونغ، لأثرى كل منهما نظريته ونظرية الآخر بالمفاهيم التي بلورها.

على سعة اطلاعه لا يحتاج شاعر مثل عبده وازن إلى نظرية كي يتوغل في مسكن أحلامه. بل إن عكس ذلك هو الصحيح. العالِم يحتاج إلى الشعراء والفنانين والروائيين ليُفهم وتبقى أحلام هؤلاء من الشواهد التي تؤكد مفاهيم فرويد ويونغ إذ لا قيمة لأي مقولة خارج الشواهد. ولطالما لجأ فرويد ويونغ إلى أعمال هؤلاء لبلورة المفاهيم و المقولات التي تبدو غامضة، لهما في المقام الأول، ومن ثَمّ لقرائهما ودارسيهما.

في «غيمة أربطها بخيط» ومنذ الحلم الأول يدرك القارئ شفافية الفضاء الدي يخلد إليه الشاعر وتلمّسه بواطن نفسه ومعايشته عالمه اللاواعي. إنه الفضاء الذي يكمن فيه الحلم وتتشكل فيه صوره وآلياته ومساره وعناصره وعلاقة هذه بعضها ببعض، كما الصفات التي تتسم بها وفي طليعتها الخارق والعبث واللامنطق واللامعقول وسيادة الرمز وانكسار الأزمنة والأمكنة أو دمج متناقضاتها بطريقة سريالية عصيّة على العقل الواعي ومرفوضة من أحكام المنطق. كلها معطيات نعثر عليها في الفن السريالي مثل أعمال بيكاسو كما في أحلام عبده وازن. في هذا الصدد لا ندري أي الطرفين أوفر حظاً: عالِم مثل فرويد يرسي نظرية محكمة ويمضي حياته في الدفاع عن مسوغاتها أم شاعر يجره قلمه بلا تخطيط أو غاية، تماماً كما يجرنا الحلم إلى حيث نرغب أو نمقت الانجرار إليه. منذ «التوأم» - وهو الحلم الأول في كتاب عبده وازن - تُكشف الغلالة عن عجابة اللاوعي الذي ينجح الصحو في كمّ أصواته والتعتيم على حقائقه. والعنوان ذاته شديد البلاغة إذ لا يخلو حلم من توأم، من قرين أو نقيض. وجوه وتوائم تتكرر في منامات عبده وازن. توأمك في المنام هو في الأغلب أنت نفسك استحضره لاوعيك رمزاً مموَّها ليريك وجهك الآخر في مرآة عجيبة يتكرر ظهورها في أحلام وازن. مرآة وتوأم يجسدان لك حقيقتك المغايرة المناقضة لتلك التي اعتدت على تقمّصها وسط النهار. الحقيقة المغفلة المنسية أو المقهورة تحت وطأة الواجبات والضرورات والمبرّرات وأحكام المجتمع والعقلانية. في كتاب عبده وازن وجوه كثيرة تتقابل مع توائمها في المرايا أو وجهاً لوجه. وذوات عدة منشطرة تسعى إلى أن تتعرف على نصفها الآخر. أو تتعرف على سالف وجودها وعبور أمثالها في الدنيا وفق رؤية يونغ. لا مراء في أن الذات المحددة تتجاوز مكنوناتها إلى ذات جمعية أشد ثراء وتجذراً في الحياة وهذا تماماً ما يحدث في حلم «التوأم» الذي في وداعه توأمه ومسيرته إلى المقبرة ينجلي الرمز الجزئي لتوأم ميّت - حي في مكان محدد وتاريخ معين عن رمز كلّي وجوديّ الدلالة يجسد مسيرة الإنسان في الدنيا وعبثية النهاية المقدرة له. وداعاً يقول التوأم لتوأمه: «صلِّ عن نفسي» أوَليست هذه العبارة ذاتها التي تتكرر على الأفواه المعذبة منذ فجر التاريخ؟

وداع التوأم هو ذاته وداع الحلم وتحقيق الانفصال بين الذات النائمة وتوأمها المطالب بالصحو. لدى الشاعر الحالم مسؤوليات مغايرة في «الحياة» تستدعي اليقظة والتنبه وشحذ العقلانية. آلاف الصفحات الثقافية تمر كل عام من بين أنامله يلزمها الصحو وعدد من فناجين القهوة لتنأى به عن معابثة الأحلام. على أن الشوق لذاته الأخرى لن يلبث أن يأخذه يومياً إلى المسكن السرّي وهذه المرة إلى جنة «الغابة» (ص117 ). يدخلها دخول طيف حرّ طليق يطارد طيف حورية بالغة الجمال. يتتبعها وهذه تهرب وهو يمعن في مطاردتها وهي في الهرب. لكنها ستتوقف هنيهة وراء شجرة! «تتلصص عليه وملء نظراتها الدهشة والحنان والشهوة». إنها الغواية المترسخة، لا في وجدان الشاعر وحسب، بل وفي الوجدان الجمعي لكل من تشرّب ثقافة التوحيد وحكاية بدء الخليقة. على أن الحالم هنا لن ينال المراد المعروف؛ فالشاعرية، لا البدائية، هي ما يميّز غيمة الأحلام التي أتاحت له ولوج «الغابة».

أحلام عبده وازن لوحات تشكيلية سريالية يرسمها بالكلمات. قصص أو قصائد أو نصوص، لا يهم. ولا غرابة فالأحلام بطبيعتها فن تتشكل صوره في اللاوعي على نحو سريالي. بل ومفرط في السريالية إفراطاً جعل الناس يلجأون طويلاً إلى المشعوذين والسحرة لفك أسرارها. البصرية والمشهدية والأماكن هي أكثر ما يميّز الأحلام فلا نقول سمعت حلماً بل رأيت. الحلم فيلم سينمائي كأنه خضع لمونتاج شرّير في عبثه، بليغ في رموزه، عجيب في تقطيعه وتوصيله. لا لشيء إلا تمييزاً منه لحلم الليل عن صحو النهار. ومهما توغلنا في تفسيرات الأحلام لدى العالميْن الآنفي الذكر، وعلى رغم صواب تلك أو مبالغاتها أو تصلّبها، يبقى تفسير المونتاج السريالي سرُّ الحلم ذاته وضرورة لسرياليته. هذه وحدها قادرة على تجسيد نقائض النفس ونوازعها، تشتتها ومخاوفها في مشهد عابر. ماهية الأحلام أن تكون ألغازاً تنطق بلسان مقطوع ونفس مدجّنة وتجري أحداثها في أماكن عتيقة أو مبتكرة. أماكن غريبة مألوفة في آن واحد هي البيوت القديمة أو مغاور السالفين. سريالية تنطق بالحقائق الممنوعة الجارحة المنافية للواقع والوجه اللصيق به. ظلّ لا مرئي إبان النهار ساطع الحضور في الظلمة. وحده المنام يسمح بأن يكون الكل جزءاً والنصف نصفه النص والواحد قرينه («أنت الذي هو أنا» ص 53 ومنام «النص» ص163).

هذه أفلام شاعر ضاق بعالم الواقع فأطلق العنان لجياد أحلامه وغزلانها تسرح في جنة اللاوعي وجحيم دانتي. شاعر عبر «أبواب النوم» ليتوغل في العالم الخارق الأخرق الذي لا مثيل لصدقه وأمانته وقدرته على الاصطدام بالواقع واستشفاف المستقبل. ها هو «برج بابل» (ص 171) إنما لا في حجمه الواقعي بل هو برج هائل يطال الغيوم ويكتظ «بحماعات من البشر من مختلف الأجناس والألوان» يتدافعون ويتصايحون مثلما في ساعة الحشر. الكل يتكلم ولا أحد يسمع وإن سمع فلا يصغي ولا يفهم. حتى الحالم نفسه لا يفقه العبارات التي يتفوه بها. صورة بليغة لعصر أُتخم بوسائل الإعلام والاتصال تخمة أفقدتنا نعمة التواصل. نِـعَم كثيرة نفقدها في هذا العصر الصاخب الذي قدّر علينا أن نحيا ترهاته. ويا لهذا الحلم الفيلم «إعدام الكتب»،(ص 78). ساحة الإعدام ممتلئة بآلات هائلة الحجم تطحن والصناديق تتدفق وسر ذلك أن «اليوم هذا قد خصص للتخلص من الكتب مجاناً». هذه ليست نهاية مكتبة وحسب بل زوال ثقافة تشربها الإنسان حقبات مديدة من التاريخ البشري منذ ابتكار الكتابة. ها هي الكتب في المطاحن «تئن فللكتب أرواح مثلنا نحن بني البش. مثلنا تتألم وتخاف حين تودع أصحابها ...» تماماً كما نودع نحن مؤلفات عشقناها وتاريخاً لا نأمل بعودته. أوَليس الحلم علماً واستشراف رؤية تنتظر شاعراً يحولها إلى مشاهد يصعب عليك إن رأيتها نسيانها؟

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


غيمة أربطها بخيط - عبده وازن - هاشيت أنطوان - 2017



أحلام بأحلام - غيمة أربطها بخيط - مقاطع من الكتاب نُشرت في ملحق جريدة النهار اللبنانية


نصوص هذا الكتاب لا نهاية لها. قد أعاود يوماً كتابة نصوص تماثلها، ما دمت شخصاً يحلم ويكتب احلامه. كل النصوص التي يتضمنها هذا الكتاب “المفتوح” هي أحلام أبصرتها في الليل أو هي أحلام يقظة، تلك التي يعمد المرء عادةً إلى تخيّلها أو “صنعها” في حالٍ من اليقظة، أو شبه اليقظة. إنها نصوص أحلام عكفتُ على تدوينها طوال ثلاثة أعوام. ومن بينها أحلام أبصرتها منذ سنوات وظللتُ أتذكرها جراء أثرها فيَّ أو حبّي لها أو خوفي منها. في أحيان، أسرد الحلم كما هو، وفي أخرى أنطلق من أضغاث حلم لأنسج حوله نصاً حلمياً. وأحياناً، كنت أكتفي بصورة أو بلقطة أو بوجوه أبصرتُها في حلم لأكتب انطلاقاً منها نصوصاً حلمية صرفة. لكنّ ما من نصّ كُتب خارج الحلم، حلم ليل أو حلم يقظة. في كلا الحالين يغدو الحلم الذي أبصره مختلفاً عن الحلم الذي أكتبه، علماً أنني، عندما أعاود كتابة الحلم، أبدو كأنني أحلمه مرةً أخرى ولكن عبر الكلمات. إبصار الحلم أمرٌ، وكتابته أمرٌ آخر. لستُ في هذا الكتاب راوي أحلام، إنني كاتب أحلام أو حالمٌ داخل اللغة نفسها، حالم أحلام أبصرها أو أبصرتها. وكم من أحلام تفوتنا فننساها ولا تبقى لها ذكرى ولو ضئيلة. إنها تتناثر في ليل الذات الذي لا حدود له. هذه أحلام تعبر لئلا تُكتب، لئلا “تُصنع”. النصوص هنا ليست قصصاً قصيرة أو قصيرة جداً، كما قد يخيّل لبعض القراء، وليست أيضاً قصائد نثر بحسب ما يوحي شكل هذه القصيدة. لم أستخدم تقنيات سردية معروفة ولم أمتثل لنظام قصصي، وأنا أصلاً لا أهوى كتابة القصص ولا يعنيني هذا النوع، على فرادته وأصالته. لا أجيد كتابة القصص القصيرة ولو بدت بضعة نصوص لديَّ كأنها سليلة السرد الكثيف والموجز. ليست هذه النصوص قصائد نثر لأنني كتبتُها بصفتها أحلاماً، معتمداً طريقةً تختلف تماماً عن طرائق قصيدة النثر، ولا سيما عن الكتابة الالية. لكنّ ما يجعلها قريبة من هذه القصيدة هو المادة الحلمية التي تؤلّف نواتها أو جوهرها. يبقى أمرٌ يلح عليَّ: هذه الأحلام- النصوص هل تعني القارئ حقاً؟ ماذا يعنيه أن يقرأ أحلاماً أبصرها شخص سواه؟ هل يجد فيها نفسه؟ هل يجد فيها، مثل صاحبها، نافذة تطلّ على الماوراء؟ أعترف أنني عندما كنت أكتب هذه الاحلام، كان يخامرني شعور كأنني أكتب أجزاء أو مقاطع من سيرتي الذاتية، ولكن بطريقة مشرّعة على المصادفات والمفاجآت. إنها سيرتي الذاتية المجهولة، التي عشتها في ظلام الليل وعتمة الذات واللاوعي... هذا أنا، أكتبني حالماً نفسي وموقظاً إياها في آن واحد. هل أجمل من أن يكتب المرء سيرته، وهو غائب فيها؟ أما في شأن العنوان الذي يبدو عنواناً لديوان شعري أو لقصيدة، فإنما اخترته من طريق الحلم أيضاً، وبمحض المصادفة. حلمتُ ذات ليلة أنني أكتب قصيدة، وعندما استيقظتُ لم أحفظ منها سوى سطر: “غيمة أربطها بخيط”. لا أذكر كيف كنت أكتبها، على ورقة أم في الهواء. لم يبق من القصيدة سوى هذا السطر، بل لعلّني كتبتُها ليبقى منها فقط هذا السطر. هنا مقاطع من هذا الكتاب الذي يصدر قريباً بهذا العنوان: “غيمة أربطها بخيط - أحلام بأحلام”.

* * *

وجه

نظرتُ الى وجهي في المرآة فوجدتُه مشوّهاً. صرختُ: من هذا؟ رفعتُ يدي ورحت أتلمس المرآة ظناً مني أنها مهشمة. كانت المرآة مصقولة ولا كسر يعتريها. ابتعدتُ عن المرآة ولمستُ وجهي بيديَّ كلتيهما فكان كما هو، العينان والأنف والشفتان والحاجبان... كان وجهي نفسه. ثم اقتربتُ من المرآة ونظرتُ اليها فألفيتُ وجهي مشوّهاً. اعتراني خوف. عيني اليمنى مفتوحة ومنها يسيل دم، أنفي مجدوع كأنما نهشه كلب، الحاجب الأيسر سقط من محلّه، شفتاي كأنهما مقصوصتان ولم يبق منهما سوى فلقتين حمراوين... الدم يغسل ما تبقى من وجهي. لكنني لم أكن أشعر بألم. الخوف فقط. فتحت عينيَّ أوسع ما أمكنني عسايَ أرى جيداً كيف أمسى وجهي. الحمرة القانية حالت دون أن أرى جيداً. راح قلبي يخفق وصرختُ ثمّ شعرتُ كأنني استيقظتُ مع أنني لم أستيقظ.

* * *

يقظة

كانت الفتاة التي ماتت ممددة على سريرها والنسوة يبكين من حولها. لم يلحظ أحدٌ أنها حرّكت يدها ولكن عندما فتحتْ عينيها ببطء صرخت النسوة شبه خائفات. نهضت الفتاة قليلاً وبيديها سحبت المخدة البيضاء من تحت رأسها وابتسمتْ. لكنها سرعان ما اضطربت حينما وجدت نفسها تنام بفستان عروس والنسوة من حولها في حال من الدهشة. سألتهنّ: لماذا تبكين؟ قالت إحداهن بصوتٍ مبحوح: كنتِ ميتة. أصابتكِ جلطة في الرأس قبل يومين ومتِّ. هذا ما قاله الطبيب الذي عاينكِ. ضحكتْ: لم أكن ميتة أيتها الغبيات، كنت أحلم. إنني أذكر جيداً البلاد التي كنت أزورها. هل تسمّين الحلم موتاً؟ زغردت إحدى النسوة، ونهضت الفتاة من سريرها وخرجت الى الشرفة فرأتنا نقف قرب التابوت المهيأ لدفنها، وقد صُفّت على الرصيف أكاليل زهر. أصابنا شيء من الرعب عندما أبصرناها. كنا نتهيأ للصعود الى منزلها لنضعها في التابوت وكان الكاهن ينتظر ليصلّي عليها قبل حملها الى الكنيسة لتتم الجنازة. خلعت الفتاة المنديل الأبيض عن رأسها وراحت تلوّح به. حلّ على الجميع صمت رهيب. حتى النسوة اللواتي كنّ وراءها على الشرفة لم ينبسن بكلمة.

* * *

بسام حجار

كان بسام حجار يخرج من لوحة إدوارد هوبر، نهض عن كرسيّه في المقهى من دون أن ينظر الى المرأة الوحيدة الجالسة الى طاولتها. كأنه تذكّر أن لديه موعداً، ربما مع كواباتا، يريد أن يسأله لماذا انتحر خنقاً بالغاز وليس على طريقة الهاراكيري، كما فعل ميشيما الذي ترجم كتاب مارغريت يورسنار عنه، وهو كان يحمله بيده مع كتب أخرى. لكنه كان ضجران، مع أنه شرب كؤوساً عدة من البلاك ليبيل. راح يبحث في الشارع الطويل الذي سلكه في وسط ليماسول، عن مقهى يحتسي فيه كأساً أخرى. في مقهى إدوارد هوبر أرهقه الفراغ والضوء الواضح أكثر مما يلزم. على الرصيف نظر الى إحدى الواجهات وابتسم للمانكان المنتصبة، لم تردّ عليه. هو يعلم أن عباس بيضون مر من هنا وتحدّث معها باليونانية ووعدها أنه سيكتب قصيدة عنها. ابتسم ونظر الى البحر المترامي بزرقته في الضفة الأخرى. رأيته ينظر الى ساعة يده، ويقول: إنني تأخرت.

* * *

هوية

قال لي: ما اسمكَ؟ ارتبكتُ قليلاً ولم أجب. قال: ألستَ تدعى عبدو؟ قلت: لا. هذا ليس اسمي. ماذا تُدعى إذاً؟ نسيت، قلت. قال: ألا يدعى أبوك قيصر وجدّك ابرهيم وجدّ أبيك طوبيا؟ قلت: أجل. إذاً، أنت عبدو، قال. لا أذكر، قلت، ربما. قال: ألا تحمل هوية؟ سحبتُ الهوية من جيبي الخلفي وفتحتُها ثم قدّمتُها له. مَن محا اسمكَ عن الهوية؟ لم أجب. قال: كأن اسمكَ لم يُكتب بتاتاً على هويتكَ، ما زال محلّه فارغاً، لكن الصورة صورتكَ، انظرْ. حتى اسم ابيك مكتوب هنا. لم ألفظ كلمة. قال لي: ابقَ هنا. وأشار الى كرسي داخل الغرفة الكبيرة المغلقة. كانت الغرفة مملوءة بالكراسي وكنت وحيداً فيها. قبل أن يغادر قال لي: اجلسْ وانتظرْ، سنناديك ولكن لا أعرف متى...

* * *

غرفة

كنا في غرفة واحدة في الفندق: راهبة ورجل عجوز وفتى في الثانية عشرة وأنا. راح واحدنا ينظر الى الآخر متعجباً. سألت الراهبة: كيف سأخلع ثيابي أمامكم؟ قال الرجل العجوز: سأزعجكم في الليل لأنني أتردد كثيرا على الحمّام وعليَّ أن أضيء الكهرباء فبصري شحيح. أنا والفتى لم نلفظ كلمة. هو لم يبالِ بالأمر، أما أنا فكنت حيران، لا يمكنني النوم الاّ وحيداً في الليل. قلت: لعل خطأ وقع. لكنّ الغرفة بأربعة أسرّة وهذا يعني أن مَن دبّر نومنا هنا يعلم جيداً أنّ علينا أن ننام هنا. فتحتُ النافذة ونظرتُ الى الخارج فإذا الليل دامس ولا صوت ولا بصيص نور. لا يمكنني أن أخرج إذاً. رفعتُ سماعة التلفون واتصلتُ بموظف الاستقبال الذي رافقنا الى هنا، فلم يجب. قلت سأسهر حتى الفجر فأنا لا يغمض لي جفن ما دام في غرفتي أشخاص آخرون. نام الثلاثة بثيابهم، وراح العجوز يشخر مثل ثور يختنق. أما أنا فجلستُ على الكرسي ولا أدري متى صحوت.

* * *

روليت

كنا ثلاثة فتيان نلعب لعبة الروليت الروسية، جالسين إلى طاولة في بيت أغلقنا نوافذه جيداً لئلاّ يسمع أحد في الخارج طلقة المسدس التي ستفجر رأس واحد منا. لقمنا بكرة المسدس برصاصة واحدة وبدأنا اللعبة. أطلق الأول النار فلم تنطلق الرصاصة ثم الثاني فلم تنطلق، ثم حان دوري فاستولى عليَّ هلع، قلت في نفسي أنا الثالث والأخير، رفعتُ المسدس ووضعتُ الفوهة على صدغي الشمال ويدي ترتجف وأطلقت... سمعتُ دويّ الرصاصة لكنني لم أسقط أرضاً، ثم سرعان ما صرخ رفيقي: لقد قتلته، لقد قتلته، ونهض عن كرسيّه وركض صوب الباب ففتحه وهرب. ركضتُ وراءه هارباً، وظللتُ أركض وأركض...

* * *

الغريق

عندما مددنا الغريق على سرير الموت في منزله راحت تسقط من عينيه دموع غزيرة. جلبنا مناشف لنجفف الماء الذي يجري من العينين كلتيهما فتبللت للفور. أتينا بخرق وأقمشة ووضعناها تحت رأسه لكنها ما لبثت أن تبللت أيضاً. لم تمض ساعة حتى تبلل الفراش وراح الماء يزرب من السرير على الأرض. امتلأت الأرض ماءً فراحت النسوة يمسحنها بالمناشف الكبيرة ثم يعصرنها في الدلاء فنحملها الى الحمّام وندلقها. خطر لي أن أذوق هذا الماء، هل هو حلو أم مالح. كان مالحاً ملوحة ماء البحر. اقترح عمّ الميت الشاب أن يوضع الجثمان في حديقة المنزل ليتشرب التراب الماء، فرفضت أمه وأصرّت على أن يبقى في المنزل حتى يُنقَل الى الكنيسة ليصلّى عليه ثم يُدفَن في مقبرة العائلة. عندما هبط الليل سمعتُ عويلا يرتفع من المقبرة وصرخات استغاثة: البحر، فاض البحر... انقذونا...

* * *

الحشرة

لم أدر من أين أتى هذا الصوت الأشبه بالأزيز. نزلتُ عن السرير ورحتُ أنظر من حولي، كان ضوء الفجر ينساب من بين الستائر، ثم رأيتُ في إحدى زوايا الغرفة حشرة ليست بصغيرة، قد تكون صرصاراً أو لا أعلم ماذا... “إنني حشرة كافكا”، قالت بحشرجة، وكأنها تتوجه اليَّ. لم أميّز بين قوائمها الكثيرة وجسمها المقوّس. قالت: أعرف أنك قرأتَ البارحة قصة “المسخ” لكافكا، وأنكَ تألمتَ لي، أنا غريغوار سامسا، الذي مُسخ حشرة. لا أعلم إن كان السيد كافكا هو مَن مسخني أم خالقي. لكنّ ما أود أن أقوله لك أنني لم ألفظ انفاسي تلقاء كما يحتضر البشر غالباً، بل هي خادمة المنزل، الخادمة الجديدة والشريرة التي استعانت بها عائلة سامسا أخيراً، هي التي قتلتني بضربة من مكنستها لتتخلّص مني وتُزيل الاضطراب الشديد الذي حلّ بأسرتي. ركلة أبي بحذائه لم تؤثّر فيَّ كثيراً. كرهتني الخادمة مذ أبصرتني، ولعلها لم تصدّق أنني غريغوار الذي استحال مسخاً، ثم بعدما سحقتني، وضعت جثتي في علبة وأغلقتها جيداً لئلا يبصر أبي وأمي ما فعلت بي ضربة مكنستها، مع أن عائلتي الصغيرة ما كانت لترغب في إلقاء نظرة أخيرة على جثتي. كانت تودّ التخلص مني بسرعة بعدما أربكتُ حياتها التي كانت هادئة ظاهراً. ولكم آلمني أن تكرهني أختي هذا الكره، فهي كانت تحبني حباً جماً. لم تشأ أن تصدّق أن هذا الصرصار هو شقيقها. كانت تشكّ، فالغرفة هي غرفتي وكنت قضيتُ الليلة السابقة فيها.
تنفست الحشرة قليلاً ثم أضافت: أودّ فقط لو تبلّغ أسرتي أولا ثم السيد كافكا، الكاتب الذي خلقني وكأنه البارئ الأزلي وأوقعني في هذه الورطة، لو تبلّغهما أنّ الخادمة الشريرة هي التي قتلتني سراً، عساها تُعاقَب على فعلتها هذه. كان الجوع والوهن يأخذان مني، لكنني لم أمت إلاّ عندما ضربتني الخادمة ضربتها القاسية. يجب على العائلة أن تعلم بالأمر، علّها تبلّغ الشرطة بالجريمة هذه، فتقبض على الخادمة المتعجرفة التي لم أحبها بتاتاً. إنني أوليك هذه المهمة لأنني شعرتُ كم أنكَ أحببتني وكم تألمتَ لمأساتي، عندما كنتَ تقرأ قصة “المسخ”. أنا المسخ، أنا غريغوار سامسا.

* * *

النصف

حلمتُ أنني أحلم. سمعتُ مَن يقول: أنتَ تحلم الآن. نصفكَ نائم، النصف الآخر مستيقظ داخل نومكَ. بعد قليل ينام هذا النصف ليستيقظ الآخر الذي هو نائم الآن. الوجه الذي تراه هو وجهكَ عندما تكون نائماً. انظر: عيناكَ مغمضتان لكنكَ تبصر، تبصر نفسكَ نائماَ. هذا سريركَ. على المخدة أنتَ تقلب رأسكَ وكأنك تحلم حلماً مزعجاً. عيناكَ مفتوحتان ولكن لا تبصران. الآن نصفكَ الآخر هو الذي استيقظ ليحلم. ها أنتَ تبصر وجهكَ مرةً أخرى. لكنّ عينيكَ ليستا عينيكَ مع أنهما مغمضتان. لستَ راقداً على سريركَ، مع أنكَ تقلّب رأسكَ على مخدة ليست أيضاً مخدتكَ. أنتَ لا تعلم ماذا تبصر، لا تعلم إن كنتَ تبصر. ترفع يديكَ وتتلمس جلد الليل. ناعم ولكن عميق. أنتَ تنهض، تمشي وكأنكَ لا تمشي. تتجه صوب نافذة لا تعرف على ما تطلّ. ترمي بنفسكَ من النافذة وترى نفسكَ تسقط في الليل. الآن تغمض عينيكَ. ثم تفتحهما. لستَ أنتَ بل نصفكَ الآخر. الآن تقلب رأسكَ على المخدة. أنتَ تحلم حلماً جميلاً وربما مزعجاً. تحكي ولكن لا تسمع نفسكَ.

* * *

جولييت

عندما فتح جورج باب المقبرة، صرخنا نحن الواقفين على الحافة. لم يبالِ هو بصرختنا، راح يسحب التابوت الى الخارج من دون خوف، وعندما انتهى، فتح الغطاء فإذا بنا نبصر جولييت ابنة حيّنا التي توفيت أمس في الثلاثين من عمرها بعدما صدمتها سيارة، ودُفنت للتوّ. كانت ترقد بفستانها الأبيض، وباقة الزهر لا تزال بين يديها. راح جورج يقص الفستان بسكّينه من ناحية الصدر حتى بان نهداها الجميلان ببياضهما. وراح يصرخ: انظروا، انظروا. ولم يكد يلامس النهدين حتى أطلّ وراءه بضعة رجال، خرجوا من وراء المقبرة حيث كانوا يختبئون، وهجموا عليه. أما نحن فهربنا راكضين وظلّ صراخ جورج يتعقّبنا. كان الرجال ما زالوا بربطات أعناقهم وبدلاتهم السوداء، بعد مشاركتهم في الدفن. هم من أهل الحي ومن بينهم حارس المقبرة ووالدي الميت ووالد جورج...

* * *

الحاجز والبيت

الحاجز نفسه. كلما أوقفني عناصره يعروني خوف شديد. يطلبون هويتي ويقرأون اسمي واسم والدي وأمي وطائفتي وبلدتي... ثم يأذنون لي بالعبور. ولكن ما إن أعبر حتى أجد نفسي حائراً لا أعرف أين أنا ولا أيّ طريق عليَّ أن أسلك. لم أجرؤ كعادتي كل مرة أن أسأل أحدا إن كنت في الشرقية أم في الغربية. أذكر أنني مررتُ من هنا أكثر من مرة، لكنني هذه المرة أضعتُ الطريق. نظرتُ أمامي فوجدتُ نفسي على تلة ورأيتُ بلدتي الدكوانة تحتي. رحت أنزل حتى بلغتُ شارعاً مقفلاً، فتحتُ بوّابة أحد البيوت القديمة، اجتزتُ ممراً ثم سطيحة كانت تجلس عليها نسوة ثم فتحتُ بوّابة صغيرة من خشب وواصلتُ نزولي وبلدتي تلوح تحتي ببيوتها وحقولها وكنيستها. ظللتُ أنزل ولم أكن أصل. بيوت تليها بيوت وسطيحات وبوّابات. ثم وجدتُني أمام النهر. شعرتُ بطمأنينة. عليَّ أن أعبر فقط كي أصل الى بلدتي. ما إن وضعتُ قدمي على حافة النهر حتى تدفق ماء غزير وجرفني. لكنني لم أطلق ولا صرخة.

* * *

شارع الحمراء

هذا شارع الحمراء؟ لا ليس شارع الحمراء. قال لي بعدما سألتُه. كنت أقصد مقهى الاكسبرس لألتقي صديقي بول شاوول، لكنني أضعتُ الطريق. رأيتُ رجالاً ملتحين، خفتُ لم أسألهم. كانت الطريق تنحدر قليلاً وعلى جهتيها تتوزع مقاهٍ، توجهتُ شمالاً فإذا مقاهٍ أخرى تمتد هنا وهناك. قلتُ ليست هذه الحمراء. هل أنا في نيقوسيا؟ أنا غريب هنا والناس يرمقونني بنظرات قاسية وكأنهم يدركون أنني لستُ من هذه المنطقة. ظللتُ أمشي حتى انتهيتُ الى طريق تقود الى كورنيش يحاذي البحر. كانت المنطقة خلواً من البشر. انتظرتُ عسى سيارة تاكسي تعبر فأستقلّها عائداً بعدما عحزتُ عن الوصول الى مقهى الاكسبرس. عبرت سيارة مسرعة فرفعتُ يدي مشيراً إليها كي تتوقف فلم تتوقف. ثم مرّت سيارة عسكرية ولما رآني العنصران اللذان يستقلاّنها أوقفها السائق وقال لي: ماذا تفعل هنا؟ ألا تسمع دويّ القذائف؟ اهرب. وأكملا سيرهما. نظرتُ الى البحر فرأيتُه هائجاً ورحتُ أركض وأركض حتى وصلتُ لاهثاً الى شارع يعجّ بالناس فراحوا ينظرون اليَّ بشزر وكأنني غريب عنهم. قلت: هذا ليس شارع الحمراء. هذه المدينة ليست نيقوسيا. وواصلتُ طريقي.

* * *

الخلاء

كان الباب مفتوحاً في قلب الصحراء، باب بلا جدار ولا عتبة، مغروز في الرمل، وكان كل من يدخله يختفي. لم يخرج أحد منه، كان الجميع يدخلون ثم يختفون. أمام الباب وقفتُ حائراً لم أجرؤ على دخوله لكنني كنت أنظر من خلاله لأرى الخلاء الذي يتسع إلى لا نهاية.

* * *

حجاب

قالت لي: اغمضْ عينيكَ، سأخلع حجابي. أغمضتُ عينيَّ من غير أن أصدّق. قالت لي: افتحْ عينيكَ. فتحتُهما ولما أبصرتُها بلا حجاب: صرختُ: ما أجمل وجهكِ، شعركِ طويل وأسود، أين كنتِ تخفينه؟ ابتسمت ابتسامتها المشرقة: بعد الآن لن تبصرني بحجاب. أنا الآن أُدعى فيفي. حتى اسمي فاطمة تخليتُ عنه، ستناديني: فيفي. بدءاً من الآن لن يعرفني أحد. قلت لها: أعيدي الحجاب الى رأسكِ، سيقتلكِ والدكِ اذا شاهدكِ بلا حجاب. قالت: لقد قتلتُه. قلت لها: متى؟ أجابت: الآن. وفتحتْ يديها وقالت: انظرْ، هذا دمه لا يزال على راحتيَّ. ثم ابتسمتْ وأشرقتْ عيناها بنور ساحر.

* * *

قتل

كيف أتتني هذه القوّة، أنا الذي طالما كان جباناً. نظرتُ الى يديَّ فألفيتُهما مضرّجتين بالدم. لم أخف. كان الدم ما زال يقطر منهما، وعند قدميَّ كان رجلٌ يتخبّط مثل ثور مطعون، يحشرج ويشخر ولم يكن يموت، كنت رميتُ السكّين بعدما أمعنتُ في طعنه، مثلي مثل رفاقي الذين كانوا يطعنون رجالاً آخرين ويردونهم، تاركين إياهم يتخبّطون أرضاً. كنت في حال من الاضطراب، لكنني لم أخف. نظرتُ الى يديَّ الحمراوين ثمّ الى الرجال الممدّدين على الأرض. هتفتُ مع رفاقي، مع أنني كنت مضطرباً. لم أسأل نفسي ماذا فعلت. كنت مدهوشاً، زاغ بصري، كدت أقع. ثم أخذني دوار فسقطتُ فوق بقع الدم.

* * *

نزل الموت

عندما بلغنا مدينة “ياء”، أوقف السائق سيّارته أمام نزل صغير لا تحمل واجهته لوحة كتب عليها إسمه. طرقنا الباب الخشب وانتظرنا، فتحت الباب سيّدة تناهز الخمسين، بحسب ما تراءى لنا. قالت تفضّلوا. دخلنا بهو النزل ورحنا نلتفت يمنةً ويسرة، مذهولين بما نرى. كانت تحتل جدران البهو صور لأشخاص كأنهم ماتوا، بضعٌ منها بالأسود والأبيض، وبضعٌ بالألوان، نساء ورجال وأطفال، عائلات، رجل وامرأة كأنهما زوجان... وما هالنا كثيراً منظر أكاليل الزهور الموضوعة أسفل الجدران، وأدركنا للحين أنها زهور “اصطناعية” فلا رائحة تنبعث منها. أما الطاولة التي تتوسّط البهو فكانت أشبه بتابوت مغلق، ووضعت عليها مزهريتان وجمجمة. سألنا السيدة التي كانت تقف الى جانبه، وقد شعرت بحيرتنا: أهذا نزل أم...؟ ولم نكمل سؤالنا. قالت المرأة: كلّ غريب يدخل النزل، يسأل هذا السؤال. نعم، إنه نزل. لا تخافوا. كلّ الفنادق في هذه المدينة تشبه هذا النزل. حتى المنازل، كلّ المنازل. وعليكم ألاّ تستغربوا عندما تصعدون الى غرفتكم في الطبقة الأولى.

لم يكن أمامنا إلاّ أن نرضخ للأمر، الظلام حلّ قبل ساعتين ولم يبق أمامنا إلاّ أن نقضي الليل هنا. فتحت لنا باب الغرفة، وقد عُلِّق عليه إكليل صغير من معدن يشبه الأكاليل الصغيرة التي تُعلَّق على بوّابات المقابر، وعندما دخلنا حلّ علينا خوف وأخذتنا قشعريرة. لقد كانت الأسرّة الثلاثة توابيت حقيقية من خشب، وقد وُضع في داخلها أفرشة ومخدات. أُصبنا بذهول شديد، ونظرنا السيّدة بعيون تبرق ذعراً: كيف سننام؟ ضحكت السيّدة ثم قالت: كلّ الأسرّة في مدينتنا هي توابيت. سأشرح لكم لاحقاً هذا السرّ. ولكن الآن عندما تنامون، عليكم أن تغلقوا غطاء السرير وهو من خشب التابوت نفسه، وإغلاقه سهلٌ جداً، وستجدون فيه فتحة بمقدار الوجه أو لأقل الرأس، منها تتنفسون وتبصرون ما يمكن أن تبصروه في الظلام. قال لها أحدنا بصوت يرتجف: لن أنام في هذا التابوت. سأقضي الليل جالساً على الكنبة. ولكن، إشرحي لي هذا السرّ الذي حدّثتِني عنه. ابتسمت وراحت تحدّثنا: لعلكم لم تقرأوا ما كُتب على اللوح المثبت عند مدخل مدينتنا، هذه المدينة التي باتت مقصداً للزائرين الذين أصفهم بالحجّاج. لقد كتب على اللوح: أهلاً بكم في مدينة “ياء”، مدينة “الموت الحيّ”. إنّه الظلام الذي لم يدعكم تقرأون هذه الجملة. مدينتنا باتت مشهورة جداً، ويقصدها الأشخاص الذين يودّون التمرّن على الموت. يأتون الى هنا وينزلون في الفنادق، وعندما تضيق هذه بالزائرين، تفتح عائلات أبواب منازلها. فالبيوت أيضاً هي أشبه بالمقابر، والأسرّة كلّها توابيت، حتى أسرّة الأطفال. أهل هذه المدينة اعتادوا فكرة الموت وأضحوا يعيشونها بلا خوف ولا خشية. وإذا سرتم في الأحياء، تجدون هياكل من عظم وجماجم معلّقة على الأعمدة. أما البيوت فأبوابها مزيّنة بالأكاليل. إنها مدينة “ياء” التي يقصدها الزائرون ليتمرّنوا على الموت، ليعتادوا عليه ويصبحوا أصدقاء ويعقدوا معه اتفاق سلام.

* * *

الجثة

عندما اقتربتُ من جثة الرجل الذي أردوه على الحاجز ورحتُ أحدّق الى رأسه المشقوق الذي صبّ المسلّحون رصاصهم عليه، أبصرتُ ظلاً أو ما يشبه الظلّ يحوّم فوق الجثة. كان ربّما شبحاً أو طيفاً له، غادر جسده للحين. كان جمعٌ من الرجال والفتيان يتحلقون حول الجثة المرمية على الرصيف، قرب حاجز المسلّحين، بعضهم ينظر بصمت وبعضهم يهتف منتصراً، فالرجل القتيل كان من الأعداء. واقترب رجالٌ فوق الجثة وبصقوا عليها، غير آبهين لمرأى الرأس المشقوق والنخاع الخارج منه. سمعتُ الطيف يخاطبني بصوت خفيض. اختارني وحدي بين الآخرين، أنا الذي لم يجرؤ على الاقتراب من الجثة ولا على النظر كثيراً الى الرأس المشقوق. قال لي: كنت داخل سيّارة الأجرة عندما أوقفوني ولم يكادوا يقرأون اسمي في الهوية حتى دفعوني الى الجدار المتاخم للرصيف وأطلقوا النار عليَّ، فسقطتُ للفور. لم أشعر بأيِّ ألم ولم يكن لديَّ ما يكفي من الوقت لأخاف وأرتجف... تركوني هنا على الرصيف وطفق الناس يقتربون مني ليتفرّجوا عليَّ. متُّ بسرعة لكني ظللتُ أسمع وأبصر وأشعر بما يحصل من حولي. هذا جسدي الآخر الذي تبصره أنتَ الآن، جثتي، جثماني، سمِّه ما شئت. أريد منكَ أن تتصل بزوجتي، إنها تقطن بعيداً من هنا. قال لي اسمها لكنني لم أفهمه ونطق برقم هاتفها الذي وجدتُه غريباً. ثم أضاف: أعرف، الآن سيأخذون جثتي ويربطونها الى سيارة ثمّ يطوفون بها الأحياء. إنهم سيسحلونها على مرأى الجميع حتى لا يبقى منها إلاّ القليل من اللحم والعظم. لكنهم لا يعلمون أنهم لن يتمكّنوا من سحل جسدي الآخر. ظلّي أو شبحي. وهم لا يعلمون أيضاً أنني أبصرهم بعينيَّ اللتين من أثير. لكنني لا أخفيكَ أنني سأخجل عندما تهترئ ثيابي ويبين جسدي الأول عارياً قبل أن يسقط اللحم عنّي. إنني لا أطيق نظراتهم الى جسمي عارياً.

ثمّ صمت وكأنّه علم أنّ ثلاثة رجال انقضّوا على الجثة وكبّلوا القدمين ثم ربطوهما بسيارة، متأهبين للتجوال في الأحياء سحلاً للجثة على مرأى الجميع. ثمّ...

* * *

في الزحام

وجدتُ نفسي وسط الزحام، أمشي مثلما يمشي الآخرون الذين من حولي، ومثلهم لا أعلم الى أين. كنتُ غريباً بينهم مثلما كانوا جميعاً غرباء بعضهم عن بعض. لم يكن أحدٌ يحدّث أحداً. كانوا يمشون بخطوات كأنها واحدة ينتظمها إيقاعٌ لا يُسمع. كنت أنظر الى الأمام، مثلهم جميعاً. لم أجرؤ على الالتفات الى الوراء، ولا أدري لماذا. كانوا رجالاً ونساء، لم يكن من أطفال. هذا ما خمّنتُه من رؤوسهم المرتفعة أمامي. الأرض التي نمشي عليها كانت من تراب وحصى. كنا حفاة ولم نكن نشعر بوخز يؤلم أقدامنا. ماذا كنّا نلبس؟ لا أعلم. لكننا لم نكن عراة. خطانا لا وقع لها، كأننا نمشي على الغيم، مع أن الحصى كان ينزاح تحت أقدامنا والغبار يهبّ. كنّا نمشي. وكلّما تقدّمنا كان ينضمّ إلينا آخرون، رجالاً ونساء، لا أحد يدري من أين يأتون.
كنا نمشي فقط. لم يكن التعب يأخذ من أقدامنا، مع أننا لا نذكر متى انطلقنا، منذ أسبوع أو سنة أو... لم نكن نعلم أيضاً إن كنّا سنصل الى مكان نقصده نحن الذين لا نذكر أننا انطلقنا من مكان نسمّيه طريقاً أو ساحة أو...

* * *

النفق

ما إن دخلتُ النفق حتى أبصرتُ فتى غريب الطلعة، قال لي: أنتَ في حلم لا تخفْ، العتمة شديدة كما في نفق كوروساوا الذي شاهدته مرّة في فيلم له هو “أحلام”... ادخلْ، لا تخفْ. كانت العتمة في تمامها، دامسة، مقفرة، حتى أنني لم أكن أُبصر نفسي ولا يدي إذا رفعتها. كنت أتنفّس العتمة، أرتديها، التقطها بيديَّ، اغتسل بها. كانت تتصبّب من جلدي، تسبح في مقلتي، عتمة دبقة، تسيل كالزيت... وكنت أمشي لا أعرف في أيّ جهة، لا أعرف إن كنت أمشي الى الأمام أم الى الوراء، يسرةً أو يمنة... كنت كمَن يغرق حيّاً، عيناي مفتوحتان ومغمضتان، ابتلع الظلام وأتنفّسه... تذكرّتُ النفق الذي أدخلنا أياه كوروساوا. أجل كوروساوا. تذكّرت... ولم يمضِ وقت لا أعلم إن كان ساعة أو شهراً أو سنة... حتى بدأ ينشقّ الظلام عن زيح أبيض راح يتسع قليلاً قليلاً ثم وجدتُني في وضح الضوء، ضوء دبق، كثيف كالحليب، أبيض، شديد البياض، ساطع، يعمي العين بسطوعه... ضوء كأنني أتنفسه وأبتلعه، كأنّه ينضح من جلدي، أو يقطر من وجهي. ولم أكن أبصر نفسي ولا ظلاً لي. رحت أمشي كمَن يتخبّط في نفسه، في كهف نفسه، لا الى الأمام أمشي ولا الى الوراء. كأنني أمشي في الجهات كلّها... ثمّ سمعتُ صوت الفتى نفسه الذي أبصرته عند مدخل النفق يقول: حذار، لقد اجتزتَ نفق كوروساوا...

* * *

أبواب

كنت أفتح باباً فأجد خلفه باباً فأفتحه فأجد باباً أفتحه فأجد فأفتح فأجد فأفتح... لم يكن من غرفة تطلّ على غرفة، بل أبواب فقط كأنها معلّقة في الهواء. لكنني لم أنتبه إن كنت أمشي أم أطير، كانت هناك أرض تحت قدمي ولعلّها كانت من غيم.

* * *

منظر

كان المنظر فسيحاً وكأنّ لا نهاية له: أسرّة وخزائن وكراسٍ وكنبات وطاولات ومشاجب وصناديق ومكتبات ومراحيض وساعات جدار وثريّات وفيترينات وشراشف وبُسُط ولوحات وصور وإطارات ومغاسل وطناجر وصحون وكؤوس ووو... كانت كلّها تحتل الساحة الكبيرة التي لا حدود لها. وبينها كان أناسٌ يمشون أو يتمشون ينظرون من حولهم، لا يحدّث أحدٌ أحداً، يقفون ثم يسيرون. سألتُ نفسي: هل كانت هنا منازل ثم غادرتْ أو طارت في الفضاء تاركة كلّ هذا الأثاث الرهيب في الهواء الطلق؟

لم تدمع عيناي كما أدمعت عيون كثيرة، ولم أضحك كما ضحك كثيرون، لكنني كنت مذهولاً مثل الكثيرين من أولئك الأشخاص الذين بدوا كأنهم يتفقّدون بيوتاً كانت هنا ثم غادرتْ بجدرانها ونوافذها والأبواب التي لم يبق منها سوى أخشاب مرتفعة كأعواد المشانق.

* * *

القتيل

عندما رفعوا القتيل كان بنطلونه مبلّلاً. ضحكنا جميعاً، ثم قال أحدهم: القتيل يبول على نفسه.


عبده وازن - 29 آب / أغسطس 2015


أحلام بأحلام - غيمة أربطها بخيط - مقاطع من الكتاب نُشرت في ملحق جريدة النهار اللبنانية

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)