عشبة ضارة في الفردوس، هيثم حسين (سورية)، رواية منشورات مسكيلياني وميارة في تونس 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الجمعة 04-09-2017
الصفحة : ثقافة
هيڤا نبي


"عشبة ضارة في الفردوس".. التهميش بطلاً


يفتح الروائي السوري هيثم حسين في روايته الجديدة “عشبة ضارة في الفردوس” نوافذ بيوت بلدة نموذجية ليطل من خلالها على حيوات وهموم مختلفة يجمعها، إضافة إلى المكان، التهميش القومي والسياسي والاجتماعي. تلك البلدة النموذجية من حيث حضور التراجيدي والكوميدي والدرامي فيها هي إسقاط لصورة ذهنية مرتبطة ببلدة بعينها (عامودا) رغم أن الكاتب لا يميزها إلا باسم “البلدة”.

تحاول الرواية تجسيد فكرة أن كل فرد هو عشبة ضارة في فردوس الآخر: “فمعظم من أتذكرهم كان يعد الاخر عشبة ضارة في فردوسه. يلقي عليه باللوم لانه عكر صفو أيامه، ولولا حضوره الباهت لكانت حياته فردوسا دائما متجدداً”. وانطلاقا من عنوان الرواية واستهلالها الجذاب الذي تسرده منجونة نستكشف لدى الكاتب تصوراً عما يمكن أن يكون ثمرة الصراع الذي يخلقه تخبط الأنوات “في فردوسها” المزعوم. في هذا الفردوس يمكننا تتبع كل أناة في صراعها على حدة، إذ ليس ثمة ما يجمعها سوى همومها الفردية الأنوية بشكل خاص، رغم أن همها الأكبر والذي يخلق لهذه الأنوات مصيراً جمعياً(لا مرئياً) لا يغيب عن الرواية، بل على العكس، يحضر بصورة مباشرة جداً من خلال أحداث وتواريخ حقيقية مرت على البلدة الكردية. كما أن العنوان يحمل تصورات سابقة على مصائر الأفراد بحيث نجد سعي الكاتب واضحاً لرسم فردوس شبيه، للمفارقة، بجحيم صغير. في هذا الجحيم يحترق الأفراد بنيران مزدوجة آتية من الداخل (نيران صديقة إن صح التعبير) ونيران خارجية تلهب تلك الكرة الجهنمية. مع إصرار الكاتب على دور النيران الخارجية التي تعد التهميش والتحطيم أدواتها، ويتمثل هذا في الإحتلال الداخلي لنظام البعث للكُرد في سوريا.

تهميش التهميش

لا أبتغي هنا إعادة سرد لرواية اكتفت بقول ما أرادت قوله بل أبتغي التركيز على نقطتين هما التهميش والنخل اللذان يبرزهما الكاتب بطرق واضحة وأخرى خفية.
ما يتمثل للذهن بمجرد قراءة الرواية هي فكرة التهميش التي، وإن لم تُوصل الأمور إلى حدودها القصوى، تظل حاضرة حضوراً قوياً من حيث أنها المدخل والأرضية التي يبني عليها الكاتب روايته. هذا التهميش الحاصل هو ثمرة العيش في البلدة بقدرما هو ثمرة لتصور الكاتب لشخصياته.

إن فكرة التهميش تلغي هنا (ولا أقول تبرر) كل الأسس الأخرى للصراع الذي يسعى الكاتب لإبرازه. ففي هذا الفردوس الذي يشبه الجحيم لحد بعيد لا نكاد نجد صراعاً شريراً بمعناه العام. إذ إن الشرّ لا يأتي من أحدٍ ما بصورة قوية وتنافسية مقابل الخير، بل يعكس الشر نوعاً من القدرية التي يحكم بها أهالي البلدة على انفسهم. فلو تمعنّا بأكثر الأحداث إجرامية وشراً (عدا إجرام المساعد اول) لا يمكننا إدانة الشرير إدانة واضحة صريحة، إذ إن البؤس المعمَّم أقوى حتى من الشر الذي يخلّفه هذا البؤس. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فإن أبعاد الخير والشر مختلطة ولا تقاس بمقاييس معروفة كمقياس الدين، أو القانون أو أخلاق المجتمع، بل تتعلق بالخيال الشعبوي والأحكام الاجتماعية كمثل الأحكام الخاصة بالمرأة أو قوة الإشاعة وتأثيرها في تغيير الأقدار.

نتساءل هنا: هل يمكننا أن نرى في ذلك الإحجام عن إدانة الشر قوة للرواية أم ضعفاً لها؟ حقيقة لا أتخيل أية إمكانية لإعطاء الشر لمَعانه الشيطاني في بيئة شبيهة بالبلدة التي يرسمها الكاتب. لهذا فإن كل إدانة للشر لا تُقيّم إلا بالتفكير مجدداً بالنقطة الجغرافية المنتهَكة التي تولِّد الشر وتعززه أو تخفف من جرمه. أي العودة إلى مكانة البلدة من حيث تموضعها في أسفل السلم الإجتماعي والسياسي والضغط الممارس عليها من رأس الهرم انتهاء بأضعف نقطة فيها وهي النقطة التي تنتهي بمنجونة المهمّشة والمشوّهة. ولا يتعلق الأمر بتبرئة أطراف الجرم والتهميش بقدر ما يتعلق بالعامل النفسي الذي يلف تلك الأنوات البائسة الجامعة للخبث والبساطة في ذات الوقت.

إن سمة التهميش لا تتفرّد بها رواية “عشبة ضارة في الفردوس” فحسب، بل ترد كذلك في كل روايات الكاتب بحيث تصبح الثيمة القائدة فيها، وإن كانت غير واضحة المعالم رغم حضورها الكامل. هذه الروايات تحدث كلها في ذات البقعة الجغرافية وتولّد بالتالي ذات المعالم المشوهة للإنسان الكردي المكلوم. هذا التتبع (اللا إرادي) لحياة المهمشين الفريدة يصورها الكاتب من عمل لآخر بتصعيد التهميش من جهة مقابل ازدراء البطولة من جهة أخرى. ففي “إبرة الرعب” التي تحدث في بقعة جغرافية شبيهة بـ"البلدة"، يختار الكاتب بطلاً مستهتراً بالبطولة، يختاره مهمشاً ومن عائلة مُورس عليها التهميش طويلاً ليؤسس عالماً غريباً، فيه معالم الخير والشر غير واضحة... أما في “رهائن الخطيئة” فلا شيء يمكنه البرهان على الدرجة المتدنية من التهميش سوى سيرة الأخوين أحمى وعلو بكل تفاصيلها بدأً من طفولتهما وحتى شبابهما وتخبطهما اليائس في أقدارهما.

أما عملية النخل وإنتقاء أكثر الأفراد تهميشاً فتتجلى واضحة أكثر في “عشبة ضارة في الفردوس” من خلال إختيار تسليم مفاتيح السرد لمنجونة. إذ يفتتح الكاتب الرواية بالكائن الأكثر هشاشة وبالحدث الأكثر مأساوية. منجونة الساردة التي تمد الرواية بالحكايا تغرق وهي تكرر بوضوح تام كل الرفض الذي تلقته في حياتها. إنها تختار غرقها وشخصيتها وكل صورها الرديئة في عين المجتمع في رحلتها نحو الأسفل. تختار هامشيتها وهي تغادر عالم المهمشين المحيطين بها. هل ثمة شي أكثر وضوحاً من إصرار منجونة على موقعها الهامشي في عالم الأحياء ثم الأموات؟

شخصية منجونة تثير التساؤل حقاً. هل هي أعظم مما تبدو؟ هل هي أسوأ مما تبدو؟ أهي التي تساعد الكاتب في ترتيب الحكايا أم أنه يستخدمها استخداماً لا أكثر؟ ما هو واضح في متن الرواية هو أن منجونة هي ابنة وسطها المهمّش بحق، لكنها تختلف عن الآخرين بكونها لا تحارب ولا تناقض ولا تتمرد. وحتى حين تتولى سرد الحكايا نجدها غائبة كفرد غياباً تاماً كما هي في حياتها: “بكماء”، “متلعثمة”، “قطعة أثاث”، بلا مزايا. وبالمختصر عشبة ضارة في فردوس، عشبة، لا زهرة ولا شجرة، بل عشبة عديمة النفع، وضارة.

أما الدور الذي تقوم به فهو دور مشكوك فيه، فلا ندري إن كان الكاتب يقصد استخدامها ليضفي عليها أهمية حُرمت منها، أم أنه يزيد هامشيتها بأن يستخدمها لتلتقط له حكايا الآخرين. فإضافة لكونها عكازة أبيها وعيون أمها فهي كذلك خيال الكاتب وأفكاره، ويده التي تكتب. إنها ليست سوى أدوارها.

منجونة التي لا تظهر إلا لتؤدي دورها في إيصال الأصوات الأخرى وإرسائها على الورق ليست في الحقيقة وعياً على الإطلاق. إنها كائن من ورق إن صح التعبير. لكن ما دلالة خلق مثل هذا الكائن في الرواية؟ ألا يمكن أن يكون اختيار منجونة كساردة هو إحدى خطوات الكاتب للإقتراب أكثر فأكثر من حياة الهامش التي قُسمت لمنجونة ولأفراد البلدة وللكُرد عامة في البلاد التي تحكمهم ؟ ألا تكون دلالة اختيار كائن “شبه معتوه” تمسكاً بالهامشية؟ لا أكاد أرى، حقيقة، في تسليم مفاتيح السرد لمنجونة إلا اقتراباً من الهامشية وعوالمها (خاصة أن إعطاء الأولوية لمنجونة في السرد لا يعني مطلقاً انحياز الكاتب للجانب الأنثوي أو دعمه)، رغم قناعتي بأن منجونة في ثورتها الداخلية والإلتفاف على كل مخططات الآخرين ودخولها الخفي في عوالمهم هي اليد الوحيدة التي تكتب الرواية.

بناء الرواية

لا يتوقف تأثير الهامشية على تصوير شخصيات متمرغة في البؤس والحيرة فحسب بل تتجاوزه لرسم مصائرهم بطريقة لا يمكن فصمها عن كينونتهم. من وجهة النظر هذه، نجد أن الكاتب يقطّع جسد الرواية بكسر الزمن التقليدي الموصوف بالتتابع الزمني وذلك بخلطه أولاً بطريقة عشوائية “ترتيب حكاياتي بما يوافق هندسة الذاكرة، لا سياق الواقع المسجل أو التاريخ المفترض”، وبواسطة التباطؤ والتسريع الاختياري في وصف الأحداث ثانياً. فالزمن إما بطيء يتراوح في مكانه أو مسرَّع يبتلع الأيام والسنوات بطريقة غير متوقعة. لكن الملفت أن الأحداث المهمة والمصيرية لا تحتل إلا الجزء الأقصر من الزمن بينما البطء مخصص للسرد والوصف والأحداث التي لاتحمل معها تغييراً مصيرياً في حياة الشخصيات. ومن وجهة النظر هذه، لا أجد إلا رابطاً قوياً بين فكرة التهميش الواقعي للأفراد والتهميش الممارس عليهم من قبل آليات السرد المختارة. لكأن السرد يبوح بسر اختياراته فيحكم بألا تفضيل هنا للمصائر أو امتيازاً لحدث على آخر. فلا أبطال هنا ولا أحداث تستدعي النظر إليها، الجميع في البؤس سواسية.

كذلك فإن انتفاء العقدة المركزية في الرواية يسلط الضوء لا على الأحداث بل على صورة المجتمع ومصادر تهميشه والأيادي التي تلعب بأقدار أفراده. كما أن لانتفاء هذه العقدة علاقة مباشرة مع قيمة الفرد وقيمة مصيره في حياة البلدة. فالقيمة الملغية للأفراد يبرزها الكاتب بالقفز السريع على المصائر المتشكّلة فيما يتوقف طويلاً عند المواقف التي تهتم بكشف المستور وإيضاح الرؤية العامة للبلدة، لهذا نرى مصائر تحاك بسرعة إعجازية وبسهولة غير متوقعة. فتصبح جميلة ابنة نغم بلمح البصر وتمرقصة خيانة بهو بسرعة مرور إشاعة، كذلك الانتقال الفعلي لدمشق وعقدمصير جميلة لايحتاج سوى لبضعة أسطر،والأهم السرعة في إنجازعمليات القتل التي يقوم بها الجهاز الأمني داخل وخارج البلدة. وفي المقابل يسهب الكاتب في وصف الأسماء والحالات وبصائر وأفكار أفراد البلدة وحركة الإشاعات والفرضيات المحكية فيها.

في هذه الرواية القوية بلغتها وباختيار المفردة الضرورية دون غيرها، وبنقل الواقع حيوياً ونابضاً على الورق يعيد الكاتب سيرة البؤس الواقعي للكردي. لكنها سيرة تتغلب على بؤسها للحظات بفضل الميزات التي اختُصت بها البلدة دون غيرها، كقدرتها الخارقة في التحويرات وتأليف القصص ونسف الواقعي فيها والأهم جعل الإشاعات الوجه الآخر المُحكم لحياة أفرادها. إنها عامودا التي لا تتكرر.

تنتهي الرواية بما بدأت به وهي تسعى لأن تغلق علينا دائرة لم تتمكن تماماً من رسمها بشكلها الدائري المأمول. فنوقن من خلال تلك الدائرة غير المغلقة أن هناك شيئاً أكثر من الفردوس والجحيم في البلدة، هناك الكردي الضاحك الذي يسخر من كل الدوائر التي تُغلق عليه، ومن كل الحدود التي تردعه باحثاً عن مصير يشبهه هو، لا غيره.

• الرواية صادرة عن منشورات مسكيلياني وميارة في تونس 2017.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة التاسعة والعشرون العدد 8909 الثلاثاء 8 آب (أغسطس) 2017 - 16 ذو القعدة 1438هــ
كه يلان محمد - كاتب عراقي


«عشبة ضارة في الفردوس»: أزمة هوية غير مكتملة


يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور «إنَّ الحياةَ لا تُفهمُ إلا من خلال القصص التي تروى عنها» لعلَّ الرهانَّ على مادة القصة يتحول إلى عملية مصيرية بالنسبة لمن تُحيقُ بهويته وتاريخه المخاطر على مستويات متباينة.

كما تَصعُبُ حماية الذاكرة خارج الحكاية، لذا فإن الحاجة إلى الحكاية وسردها أزليةُ على حد قول الكاتب البوسني إيفو أندريتش، طبعاً يأتي إدراك صاحب «جسر على نهر درينا» لأهمية السرد وضرورته، بعدما راقب واستقرأَ من واقعه صراعات مُتعاقبة بين أجناس وقوميات مُتعددة في حقب تاريخية مُختلفة، كلما نذرت التطوراتُ بتحولات ومخاضات كبيرة تزدادُ مخاوفُ الشعوب والقوميات التي تعيشُ على التخوم، والقلق يكون آخذاً في التصاعد من تحول مناطقها إلى ساحة الحرب. ومن المؤكد أن هذه المواقع تصبح ورقةً للمساومة بين أطراف الصراع، هذا الخوف من انصهار داخل الكيانات والجماعات الإثنية الأخرى، يتعاظم أكثر خلال لحظات تاريخية فارقة، وينعكسُ طيفُ هذا التوتر في أعمال أدبية بصورة دقيقة، هنا يمكن الاستشهاد بأغوتا كريستوف في ثُلاثيتها أيضا، بما يعرضهُ الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه في رواية «الجسر» مثالاً على هاجس تهشيم مكونات الهوية، الأمر الذي تلمسهُ بوضوح في رواية «عشبة ضارة في الفردوس» من إصدرات دار ميارة ومسكيلياني للنشر والتوزيع تونس 2017 للكاتب السوري هيثم حسين، الذي لا يعينُ المكان الذي تنطلق منه أحداث روايته، وذلك إيحاء بأن ما يجري في هذه البقعة قد يتكرر في أي مكان آخر، إذا ما عاشت فيه مجموعةُ تكون هويتها رهناً لإرغامات الجغرافيا والتاريخ، كما يُفهمُ وجه آخر من التعتيم على اسم المكان، وهو ضبابية المصير بالنسبة لمن يظلله هذا المكان.

من هنا يلتقي مؤلفُ «رهائن الخطيئة» مع أغوتا كريستوف وهي بدورها أيضاً تستخدم مفردة (البلدة) في رواياتها عوضاً عن اسم مُحدد. ينتقي الكاتب ُ شخصية هامشية في البلدة، هي ابنة الرجل الأعمي (موروي) مفوضاً إياها بسرد وقائع بلدتها، إذ تتدخل الساردُة في مُستهل بعض الفصول مؤكدة على ما تضيفه إلى مضمون القصة، التي تُبنى أجزاءُ من حلقاتها على ما دونه (المساعد أول) في أوراقه، بجانب ذلك فإن النكات التي تُطلَقُ وتتداول بين الجميع، وهي غالباً ما تكون وليدة مناسبة معينة وأمثال شعبية ترفدُ عنصر السخرية في الرواية، كأن المؤلف يؤمن بما قاله ميلان كونديرا «بأنَّ السخرية آخر ملجأ للكائن البشري».

حكايات البلدة

تفتتحُ الرواية بالمونولوج، حيثُ تستعيدُ الشخصية غير الفاعلة ما اختزنت في ذاكرتها مما مرَّ على بلدتها، وهي على وشك مفارقة الحياة، والفردوس هنا هو البلدة الواقعة تحت قبضة (المساعد أول) الذي يخطط لإعادة بناء المكان، وفقاً لما يخدمُ مشروعه السياسي، الذي يتمثلُ في التجنيس القسري وطمس الهوية، من خلال استدراج أهالي البلدة إلى إقلاع عن استخدام اللغة الكردية، وتداول لغة بديلة، أكثر من ذلك بعدما تستتب له الأمورُ يشنُ (المساعد أول) حملة لا هوادة فيها ضد من استهان به، كما قضى على بعض أصوات معارضة، ويذهبُ عدد من المواطنين ضحيةً لشراسة المسؤول، وكان كل من المزرباني والعجوز نازه في مُقدمةِ ضحاياه، أضافة إلى هذا فإنَّ يد المساعد أول تطالُ خارج حدود البلدة لتصفية أحد المشايخ الصوفية على الجانب التركي، يتصرفُ المسؤول الموتور على هذا المنوال مطوعاً شتى الوسائل لبناء سلطة أخطبوطية، إذ يسعى إلى توسيع شبكة جواسيسه، ولا يستثني من ذلك الرجل الأعمى، الذي ترافقه ابنته في مجالس الرجال، هنا ما يجبُ التوقف عنده. إنَّ المؤلف حالفه النجاح في نحت شخصية الراوية، التي يزعمُ أهل البلدة بأنها خرساء، بينما الأخيرة بفضل موقعها تكتشفُ أسرار البيوت وحكايات نسائها، ومما لا يجعل هذا الأمر نتوءاً بالنسبة للمتلقي، أن النساء يقبلن على الأم التي تعيد الجمال الأنثوي إلى أجسادهنَّ، مصاحبة الراوية في زيارتها لبيت برازق زوجة المساعد، تعطيها الفرصة لقراءة ما دونهُ المسؤول في أوراقه المغلفة باللون الأسود، ووضع لها عنواناً «درر المساعد أول الفكرية والسياسية والأمنية» تنطوي هذه الأوراق المضمومة في أربعة مجلدات على ملاحظات كتبها المسؤول عن أهل البلدة والأحزاب والانتماءات وتكوين الشخصيات. ويتضحُ الهدف من وراء ذلك وهو الإمساك بزمام الأمور، وتعميق الفجوة بين المواطنين، إذ يفتش في تاريخ القومية الكردية بحثاً عن الحكايات التي تُلَّهبُ القلوب وتشعل العداوات بين المنحدرين من عرق واحد.

قصة رسيلو وبعبدكي هي ما يريدُ (المساعد أول) أن يتخذها نموذجاً لإعادة إحيائه، ما يضمن له تثبيت مدماك سلطته أكثر، فخلاف بسيط بين الاثنين، تطور إلى درجة تنافس الشخصان على نقل تقاريرهما الشفوية إلى النسناس، وبهذا يتأسس جهاز مخابراتي متغلغل في مفاصل المجتمع.

تشريح الشخصيات

لا تخلو الرواية من محاولات لإبانة طبائع الشخصية الكردية، كون الإنسان الكردي عنيداً ولا ينتبه إلى حبائل اللعبة السياسية، فإنَّ فوهة بندقيته في لعبة الأمم لا تخدم كيانه القومي، بقدر ما يستفيدُ أطراف الصراع من التلويح بقضية الشعب الكردي، نكاية ببعضهم. يمررُ مؤلفُ «إبرة الرعب» هذه التصورات عبر مدونة (المساعد أول) الذي بدوره يعاني من اهتزاز رجولته في بيت الوردة، ويشعرُ بعجزه مخذولاً، آنذاك تشفق عليه المومسُ التي سمي منزلها ببيت الشعب، ويستغربُ الأهالي من تجشم زوجها عناء التجسس، بينما الأخبار كلَّها متناثرة في بيته، فضلاً عن ذلك أن كتبة التقارير لا يتحاشون عن ذكر ما تلوكه الألسنة حول شذوذ رئيس الفرع، وأنَّ كل ما يحيطُ به من مظاهر القوة والتسلط ليس إلا وسيلة لتستر على ما يمارسه مع العبد الأسود، هكذا تطوف بك الرواية بين طبقات المجتمع، حيث تتراص قصة بريندار الذي يتحالف مع المساعد أول للتجارة بالبضائع بين تركيا وسوريا، ولا يرضى لنفسه دور الجاسوس، بجانب قصة توفيقو الذي يطلقُ عنان موهبته في صياغة النكت ولا يصغي إلى التحذيرات إلى أن يفقد توازنه النفسي في السجن، ويبلغ به السيل الزبى، عندما يرى تحول إحدى المدارس إلى ثكنة عسكرية، إذ ذاك يبصق على الحيطان والشعارات ولا يكون الرد عليه إلا برصاصات، في ما أشرنا إليه سابقاً أن المؤلفَ لا يتقاعس عن نقد الشخصية الكردية التي تحملُ في ثناياها قدراً كبيراً من التناقضات، فخربو هو صورة ممسوخة للإنسان الكردي الذي تَتمثل مهمتهُ في تفتيت بنيان البلدة وتجريد السكان من الجنسية، كذلك إبن خورتو وجه آخر من الإقطاعية المستغلة، فهو يجري وراء نزواته العابثة، ولا يختلف أبو مأمون سمسار العقارات عن هذا الرهط.

يذكر أن الراوية في هذا العمل من النوع الذي يعقدُ علاقات بين وحدات حكائية مُختلفة من حيث زاوية الرؤية، لذا توجدُ راوية واحدة بزوايا متعدد للرؤية، الأمر الذي يسوغ لابنة الأعمى تصوير جوانب من المجتمع الدمشقي عندما تهاجر إليه الأسرةُ وتستقرُ في (المنارة) في ضواحي العاصمة، هنا ينصرفُ موروي إلى المسمرة، بعدما تتزوج ابنته جميلة (جيمي) بأبي مأمون ولا تصل إليه استخفافات أهل البلدة باختفاء زوجته (بهو) مع عشيقها وظهورها المفاجئ من جديد، تتزامنُ الهجرة مع بدايات العهد الجديد والإجراءات الشكلية تحت يافطة الإصلاح.

هوية جريحة

ما يُسْتعرضُ في ثنايا هذا العمل من عالم متفسخُ على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لا يتولد منه غير إنسان تائه، ضائع الهوية، خاسر لصفاته المميزة، هجين بلا ملامح، هنا تحوير الأسماء يُفهمُ منه أيضاً وجود جرح في الهوية، فجميلة التي تصبح (جيمى) في الوسط الفني لا تعرفُ هل هي من خربو أو من موروي، كما أن بريندار الذي لا يخطئ المتلقي في قراءة مدلولات رمزية للاسم، عصامي ينشأُ مفتقداً لحنان ودفء الأُسرة، وعندما يلتقي بجيمي في دمشق، يفلح الاثنان في بناء حياة مغايرة، ولا تفوت المؤلف الإشارة إلى بوادر الانتفاضة وتباين الآراء حولها، وبذلك يتداخل في تلافيف العمل الماضي مع الماضي القريب والمستقبل كون المستقبل مرهونا بما يتمخض عنه الحراك الشعبي. ما يجب ذكره أن أسلوب الكاتب يتميز بالخفة وسرعة التنقل من فصل إلى آخر، والتمازج بين معلومات تاريخية بالمتخيل. كما تنتهى الرواية بالتدوير وانتشال الراوية من البحر. ويحمل العنوان مفارقة عندما يحيلك إلى عشبة الخلود لدى كلكامش.

عن موقع جريدة القدس العربي

 عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 20-7-2017، العدد : 10697، ص(15)
الصفحة : ثقافة
العرب - تونس


’عشبة ضارة في الفردوس’ عالم من التناقضات في سرد روائي


رواية ’عشبة ضارة في الفردوس’ تقتفي أثر الأكراد الذين نزحوا من مدنهم وقراهم البعيدة في الشمال السوري إلى ضواحي العاصمة دمشق بعد سنة 2004.

يقدّم الروائيّ والناقد السوري المقيم في بريطانيا هيثم حسين في روايته الجديدة “عشبة ضارّة في الفردوس” حكايات متداخلة من واقع يبدو عبثيّاً في تفاصيله، يتبادل فيه الضحايا نظرات الاتّهام والانتقام في ما بينهم، يبحثون عن سبل لتفريغ أحقادهم المتنامية على بعضهم البعض.

تبدأ بطلة الرواية المهمّشة لعبتها المفضّلة ببناء الحكايات اعتماداً على تفاصيل تلملمها من هنا وهناك لتعيد مواجهة العالم بها. تتحدّى الاستلاب بالتذكّر وبناء الحكايات. تعدّها وسيلتها للاستمرار وسط ذاك الجحيم الذي يظنّه كلّ نزيل من نزلائه أنّه فردوس أسطوريّ، وأنّ الآخر يعكّر صفوه، ويبرز فيه كعشبة ضارّة ينبغي اجتثاثها وتطهير فردوسه منها.

تستعيد الرواية، الصادرة أخيرا بالاشتراك بين دار “مسكيلياني للنشر” و”دار ميارة” في تونس، تركيب الحكايات المتداولة والرائجة عن المحيطين بها؛ والد بطلة الرواية أعمى يتخيّل نفسه قائداً، ويبدأ بتصميم بلدته المتخيّلة على أطراف العاصمة، أمّها التي تعيش وهم الفرادة والتميّز، المساعد الأوّل الذي يهندس الخراب ويؤسّس له،

بريندار التائه بين الحدود والباحث عن ذاته في حقول ألغام موقوتة..

تحاول الرواية بناء حكاياتها عنهم. تسند لأبطالها أدواراً معيّنة وتسلبها منهم في الوقت الذي تريد. تهدّئ من براكينها المتفجّرة. هنا تمنح نفسها سلطة القرار وتكون حرّة في اللعب بالحيَوات والمصائر. تعتقد أنّ الحكايات وحدها ميادين الحرّيّة في هذا العالم المعتم.

في الرواية كما جاء على غلافها، يتداخل الحب مع القهر، مع الضياع، ومع الأسى في عالم من التناقضات والنقائض، يقع عدد من الشخصيات فرائس للخيبة والهزيمة والجنون. يبحث القتلة عن تبرير يتقنّعون به، في حين يمضي الضحايا في رحلتهم إلى المجهول.

تقتفي الرواية أثر الأكراد الذين نزحوا من مدنهم وقراهم البعيدة في الشمال السوري إلى ضواحي العاصمة دمشق بعد سنة 2004، السنة التي شهدت أحداثاً دامية وقع ضحيتها العشرات من الضحايا، وتم سجن الألوف، وقد عُرفت في الأدبيات الكردية بانتفاضة 12 آذار.

كما تتقصّى الرواية التغيّرات التي طرأت على تفكيرهم وشعورهم المتعاظم بالاغتراب بعد أن أصبحوا نازحين في بلدهم، وقد أفضت بهم محاولات الاستقرار والعمل والتمكّن إلى عقد مصالحة مع المكان وأهله والحاضر ومتغيراته.

ولكن سرعان ما صدمتهم الحرب التي دوّت طبولها في الغوطة الشرقية وضواحي دمشق، وذلك إثر نشوب الاشتباكات بين النظام والجماعات المسلحة المعارضة له، فوجد أولئك النازحون أنفسهم ضحايا نزوح آخر، وتهجير جديد إلى وجهات مختلفة هذه المرّة، عادوا إلى ضياع مختلف أكثر شراسة وإيذاء.

هذه الرواية قطعة من الذاكرة الكرديّة ومن أحلام جيل تهافتت كلّها تحت سطوة الاستبداد والتهميش، قطعة من الذاكرة يرفعها الكاتب في وجه النسيان، حتّى لا يتكرّر ما حدث.

ونذكر أن هيثم حسين كاتب وروائي سوريّ، من مواليد الحسكة، عامودا 1978، مقيم في المملكة المتحدة/ إدنبرة. عضو في جمعية المؤلّفين في بريطانيا، وفي نادي القلم الإسكتلنديّ، وفي رابطة الكتاب السوريين. كان مدرّساً للغة العربيّة لسنوات قبل مغادرته سوريا 2012. يكتب في كبريات الصحف والمنابر العربيّة. مؤسّس ومدير موقع “الرواية نت”.

نشر حسين عددا من الأعمال الروائية مثل «آرام سليل الأوجاع المكابرة»، و«رهائن الخطيئة»التي ترجمت إلى اللغة التشيكية، وصدرت ترجمتها التشيكية في براغ 2016، كما تم تحويلها إلى عمل مسرحيّ باللغة التشيكية، و«إبرة الرعب» منشورات ضفاف بيروت، الاختلاف، الجزائر 2013.

أما في باب النقد الروائيّ فللكاتب أيضا مؤلفات هامة نذكر منها “الرواية بين التلغيم والتلغيز” و”الرواية والحياة”، و”الروائيّ يقرع طبول الحرب”، دار ورق، دبي 2014. و”الشخصيّة الروائيّة.. مسبار الكشف والانطلاق”، دار نون، الإمارات، 2015. في حقل الترجمة لهيثم حسين كتاب نقدي بعنوان «مَن يقتل ممو..؟».

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)