عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، أبو عبد الله بن زكريا القزويني

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ٢ أبريل/ نيسان ٢٠١٥
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«عجائب المخلوقات» للقزويني : البحث عن العقل حتى في الخرافة


لا شك في أن قراءتنا اليوم لكتاب «عجائب المخلوقات» للكاتب الموسوعي المسلم زكريا القزويني، ستضعنا في مواجهة الكثير من «الحقائق» التي سيمكن بسرعة اعتبارها من الحقائق العصيّة على التصديق. ومن الواضح أن المؤلف يدرك هذا الأمر منذ عنوان كتابه، لذلك ركز في العنوان على الغرابة وعلى العجائب من دون أن تكون غايته الوحيدة من ذلك أن يثير دهشة قرائه. غير أن تلك الأمور ليست كل شيء في الكتاب. ففيه أيضاً أجزاء، تشكل معظمه على أية حال، سيتبين للعلم لاحقاً - ومهما كانت غرابتها في زمن القزويني - أنها حقائق راسخة كان القزويني، وربما قطاع كبير من العلماء العرب والمسلمين في زمنه، يتعاطون معها بحذاقة ويحاولون أن يصيغوا من خلالها نظريات علمية تتوافق مع العقل وتبتعد كثيراً من الخرافة التي كانت لا تزال حتى في ذلك العصر (القرن الميلادي الثالث عشر) تهيمن على العقل الغربي فيما كان عدد من المفكرين والكتاب العرب والمسلمين يحاولون إما التخلص منها أو على الأقل استيعابها عقلياً. من هنا، فإن اختلاط ما هو غريب وعصيّ على التفسير، مع ما هو علمي، في كتاب القزويني، إنما يعكس تلك الحالة الانتقالية التي كان يعيشها العقل الإنساني في ذلك الحين، بين ما تراكم لديه من أساطير نسجتها أذهان حاولت جاهدة الإجابة على أسئلة أساسية كان العقل لا يزال أقل نضجاً من أن يجيب عنها انطلاقاً من التجربة العلمية نفسها، وبين وعي جديد بالكون والعالم تكوّن أثر تراكم معرفي وعقلاني نتج من الاختلاط الحضاري.

ومن المؤكد أن القزويني شأنه في هذا، شأن معظم المفكرين والعلماء العرب والمسلمين الذين هيمنوا على الإنتاج المعرفي والفكري في تلك العصور المزدهرة، كان يمثل في شخصه ذلك المزيج الحضاري والثقافي. من هنا، انعكاس ذلك في مؤلفاته الكثيرة، والتي غلب الطابع العلمي والموسوعي على غالبيتها، لا سيما منها «عجائب المخلوقات» الذي نتحدث عنه هنا.

«عجائب المخلوقات» هو، في الأساس، أشبه بموسوعة علمية جغرافية طبيعية تحاول أن تنقل إلى قارئها مقداراً كبيراً جداً من المعلومات، بعضها عرفه المؤلف بالتجربة أو بالمعرفة العقلية، وبعضها وصله - وأوصله إلينا - بالاستناد إلى مرويات آتية من لدن الكثير من الشعوب والحضارات. من هنا، يمكن القول أن هذا الكتاب يمثل ذروة - أو تراكم - ما بلغته معرفة الإنسان بشؤون الطبيعة وأحوالها ومخلوقاتها في زمن القزويني، ناهيك عن كونه أيضاً وفي شكل موارب بالتأكيد، نوعاً من التأمل في نظرة الإنسان نفسه لما يعرفه عن الطبيعة وبما يجهله أيضاً من خفاياها ومدهشاتها.

في كتابه هذا، وفي الجانب الأقل غرابية فيه على أية حال، يتحدث القزويني حول عدد من الأمور التي يوزعها على قسمي الكتاب الأساسيين: القسم الأول الذي يتناول فيه الفلك، والثاني الذي يتحدث فيه عن الشؤون الجغرافية. وهو في الأحوال كافة وبخاصة بالنسبة إلى هذين المجالين كان من الواضح أن همه الأساسي كان أن يرجع النتائج - أي الظواهر بالتالي - إلى مسبباتها المنطقية في غالبية الأحيان، حتى ولو جازف بأن يصدم بمبادرته هذه قارئيه الذين كانت غالبيتهم معتادة على تقبّل الأمور الواصلة إليهم، لا سيما أمور الطبيعة، كما هي من دون تمحيص أو تساؤل عما قد يكون واقفاً وراءها. فمثلاً، حين يتكلم القزويني في أحد أبواب الكتاب، عن تشكّل الأنهار نراه يقول: «إذا وقعت الأمطار والثلوج على الجبال تنصبّ الأمطار إلى المغاور وتذوب الثلوج وتفيض إلى الأهوية التي في الجبال فتبقى مخزونة فيها وتمتلئ الأوشال فيها في الشتاء، فإذا كان في أسفل الجبال منافذ ضيقة تخرج تلك المياه من الأوشال فتحدث الجداول التي يجتمع بعضها إلى بعض فيحصل منها أودية وأنهار». وفي مجال علم الفلك مثلاً نراه يقول عن المجرة «إنها البياض الذي يرى في السماء ولم يسمع في حقيقتها قول شاف: زعموا أنها كواكب صغار متقاربة فطمس بعضها بعضاً فصارت كأنها سحاب». ويفسر الكسوف والخسوف قائلاً: «ووجه القمر الذي يواجه الشمس مضيء أبداً، فإذا كان القمر قريباً من الشمس (بيننا وبينها) كان الوجه المظلم منه مواجهاً للأرض فإذا بدأ بالابتعاد عن الشمس إلى المشرق وبدأ ميل النصف المظلم من الجانب الذي يلي المغرب إلى الأرض ظهرت من النصف المضيء قطعة هي الهلال (...) إلخ». وبالنسبة إلى القزويني، فإن سبب خسوف القمر توسط الأرض بينه وبين الشمس. ويكون كسوف الشمس «إذا حال القمر بين الشمس وبين أبصارنا». وبالنسبة إليه الأرض كرة «والدليل على ذلك أن خسوف القمر إذا كان يرى من بلدان مختلفة فإنه لا يرى فيها كلها في وقت واحد، بل في أوقات متعاقبة (...) والأرض واقفة وسط الأفلاك كلها بإذن الله تعالى (...) والأرض متحركة دائماً على الاستدارة، والذي نراه من دور الفلك إنما هو من دوران الأرض حول نفسها». وفي مجال علم الحيوان يقول القزويني: «وما من حيوان صغير ولا كبير إلا فيه من العجائب ما لا يحصى. وجميع ما في هذا الكتاب إما عجائب من صنع الباري من محسوس أو معقول لا ميل فيهما ولا خلل، وإما حكاية ظريفة منسوبة إلى قائلها لا ناقة لي فيها ولا جمل. وإما خواص غريبة مما لا يفي العمر بتجربتها». وهنا يخاطب القزويني قارئه قائلاً - في دعوة طريفة إلى سلوك درب التجربة المحسوسة: «فإن أحببت أن تكون منها على ثقة فشمر لتجربتها»، ما يضعنا مباشرة أمام دعوة إلى تلك العقلانية التجريبية التي سوف تسم جزءاً من العلم الغربي الأكثر تقدماً بعد زمن القزويني بقرون.

وفي السياق نفسه يرى القزويني أن الموجودات ثلاث مراتب (وكان إخوان الصفا يرون أنها أربعة تؤدي كل مرتبة منها إلى التالية في لعبة نشوء وارتقاء تمهد لاحقاً لما جاء به دارون): المرتبة الأولى - بالنسبة إلى القزويني - هي للمعادن الباقية على الجمادية لقربها من البسائط (الأجسام غير المركبة)، والمرتبة الثانية للنبات فإنها متوسطة بين المعادن والحيوان بحصول النشوء والنمو وفوات الحس والحركة، أما المرتبة الثالثة فللحيوان فإنه قد جمع بين النشوء والنمو والحركة، وهذه قوى موجودة في جميع أفراد الحيوان». وإذ لا يدرج القزويني الإنسان في هذه التراتبية (على عكس ما يفعل إخوان الصفا)، نراه يفرد للإنسان مكانة خاصة ويتكلم على سبب تكونه وعن حال الجنين في الرحم وسبب تخلق الجنين ذكراً أو أنثى داخل الرحم وذلك قبل أن يتحدث باستفاضة على تشريح جسم الإنسان. ويرى الدكتور عمر فروخ أنه «مع أن القزويني يتكلم في ذلك كلاماً وصفياً أخذه من ابن سينا وابن الهيثم، فإن غايته من الكلام إنما كانت تبيان حكمة الله في خواص هذه الأعضاء وترتيبها مما هو في الواقع أمر طبيعي، ولكنه عند التأمل يدعو إلى التعجب والاعتبار» ويخلص فروخ إلى أن كلام القزويني في ذلك إنما هو «كله أقرب إلى التفلسف المجرد منه إلى علم الحياة».

غير أن هذا التفلسف لا يُنقص من قيمة علمية موسوعة القزويني وأهميتها، وكذلك لا ينقص منهما أن وصف القزويني لعالم النبات والحيوان يمتلئ بالخرافة والأساطير، التي نبهنا هو أصلاً إلى أنه ليس مسؤولاً عنها وعن سريانها. ولد زكريا بن يحيى القزويني عام 1208 في منطقة قزوين بين رشت وطهران. وهو على عادة كبار العلماء في عصره، جعل نسبه يمتد إلى سلالة ولي من أولياء الإسلام هو هنا أنس بن مالك الأنصاري النجاري. وعرف كمؤرخ وجغرافي وكونه تولى القضاء. وهو أمضى معظم سنوات حياته وعمله بين بغداد ودمشق، كما ولي قضاء الحلة وواسط أيام الخليفة العباسي المستعصم. ومن أهم كتب القزويني إلى جانب «عجائب المخلوقات»، و «آثار البلاد وأخبار العباد» الذي يعرف أيضاً باسم «عجائب البلدان». وهو رحل عن عالمنا في عام 1283.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)