ظل الأفعى، يوسف زيدان (مصر)، رواية دار الشروق - 2006

, بقلم محمد بكري


جريدة البناء


جريدة البناء
نُشر في 19-11-2016، العدد : 2174
الصفحة : ثقافة وفنون
ريتا التنوري


«ظلّ الأفعى»... حكاية الأنثى


«ظلّ الأفعى»، روايةٌ كتبها الروائيّ المصريّ وخبير المخطوطات، يوسف زيدان، عام 2006، وصادرة عن «دار الشروق».

تدور أحداث الرواية حول شخصٍ، اسمه «عبده»، يحاول استرضاء زوجته، الملقّبة بـ«نواعم»، بعدما تمرّدت عليه وأبغضته بلا سببٍ واضحٍ. فيستعين بجدّها الباشا لإعادتها إلى صوابها. يتبيّن، في ما بعد، أن الزوجة كانت تتلقّى رسائل بالبريد من أمّها التي كانت قد هجرتها، قسراً، منذ صغرها بعد وفاة والدها.

وزمن القصّة يدور في يومٍ واحدٍ ألا وهو الثلاثين من حزيران عام 2020. أمّا أحداث الرواية، فتجري في منزل الزوجين المليء بالأسرار.

الهدف من الرواية، بيان أهمية الأنثى تاريخياً، وانتقالها من منزلة التقديس في الحضارات القديمة وتأليهها، إلى منزلة التدنيس في الوقت الحالي ومعاملتها معاملةً دونيّةً في ظلّ مجتمعنا الذكوريّ. ويتم ذلك من خلال الرسائل التي كانت ترسلها الأمّ إلى ابنتها والتي تتمحور مواضيعها حول الأنثى.

تحوّلات الأنوثة من المقدّس إلى المدنّس

أفصح يوسف زيدان عن ماهية تحوّلات الأنوثة من التقديس إلى التدنيس عبر إيجاز المراحل التاريخية التي مرّت بها الشعوب والحضارات، بدءاً من تبجيل الأنثى وتأليهها وصولاً إلى تقديس الرجل وبالتالي تدنيسها.

ولكي يتوضّح لنا هذا الانتقال، لا بد من الإجابة أولاً على اشكاليةٍ بردّ جاء على لسان أستاذةٍ باحثةٍ في الآثار ومتخصّصةٍ بعلم الحضارات، بحسب الرواية:

«هل تبدّدت دواعي تقديس الأنثى، أم انطمرت؟».

دواعي تقديس الأنثى وتأليهها قسمان: الأول منهما مرتبطٌ بطبيعة الأنوثة وجوهرها. والقسم الثاني مرتبطٌ بذلك الوعي الفطريّ القديم الذي لم يكن قد وقع، بعد، فريسةً في شباك المتلاعبين بالعقول.

فأما ما يرتبط بطبيعة الأنثى، فمظاهره كثيرةٌ، منها: الحيض، الولادة، الاستدارة والتعهّد.

وانعكاس هذه المظاهر في الوعي الفطري للإنسان كان على الشكل الآتي:

منذ فجر وعي الإنسان ذاتَه والعالم، ارتبطت فكرة وجوده الحيّ بالدم. «فالدم سرّ الحياة». والأنثى، باعتقاد الإنسان الأول، كانت تملك سرّ الحياة، لأن هذا السائل الأحمر نفسه يفيض فيها كلّ شهرٍ، ولا ينقطع حيضها إلا خلال شهور الحمل أي فترة الاستدارة الكبرى لها التي تنبئ باللحظة الأشد رهبةً، لحظة الولادة.

فنظر إلى الأنثى باعتبارها «الكائن الغامض السحريّ»، من حيث ارتباطها بهذا الفعل المقدّس، الممتلك أسرار الحياة والوجود الدائمة من ناحيةٍ، والمفعّل شهوة الرجل الجنسية الموقتة من ناحيةٍ أخرى. من هنا، أدرك الرجل دوره الثانوي في إتمام دائرة الوجود، لحظة إطفائه الشبق، وأدركت الإنسانية دور الأنثى الأصلي. «فالعبادة للربة، والقداسة للمرأة، والتبجيل للنساء».

وكما جاء في الكتاب حرفياً، «القداسة فعل الجماعة، لا الأفراد. فلا يوجد مقدّسٌ في ذاته! لا يوجد مقدّسٌ إلا في مجتمعٍ». يشكّل الاحترام والتبجيل جوهرها، ولا تعني الإيمان الذي يقوم على الغيب والعقل عقالٌ له! ومع مرور الزمن، تحولت القداسة من تأمليةٍ إلى بديهيةٍ موروثةٍ.

لكن الإنسانية خلطت بين القداسة والدين، «ورفعت المقدّس إلى مرتبة الإيمان، فألغت حكم العقل فيه». بخاصة بعدما انهارت مصر القديمة، واجتاح العالم القديم الفكر اليهودي، بحيث وصف اليهود مكانهم الموهوم بأنه: قدس الأقداس! وربطوا بينه وبين الرجل الكاهن، بقولهم: «الكاهن الأعظم يخلع رداءه قبل أن يدخل قدس الأقداس». مع العلم أن الإنسانية لم تعرف قبل عشرات الألوف من السنين إلا الكاهنات.

من هنا، سارت الإنسانية في عكس الطريق الذي كانت سائرةً فيه فبعدما كان الوعي الإنساني ينتقل من الأعلى الربة / الآلهة إلى الأدنى الأنثى / المقدّسة / المرأة على نحوٍ تأمليّ عقلاني، لزمنٍ امتدّ ما بين ثلاثين وخمسين ألف سنة، انتقل إلى الطريق المعاكس، من الأرضي الأدنى الرجل / السيد إلى السماويّ الأعلى الربّ / الإله ، نتجت عن هذا الانتقال فكرة أن الملك ابن الإله، وأن الله خلق آدم لا حواء على صورته ومثاله! «في حين دلّت الاكتشافات الأثرية، على أن أولى مظاهر الدين كانت مرتبطةً بإعلاء الأنوثة، وكانت أولى الآثار الباقية من عصور الإنسانية الأولى، أي رسوم الكهوف، عبارةً عن صورٍ بدائيةٍ للأشياء تتحلّق بصورة امرأةٍ حبلى! وكانت أولى التماثيل عبارةً عن دمى لامرأةٍ حبلى! وكانت أولى أشكال الديانة في الحضارات القديمة، كافةً، تقوم على عبادة الربّة والألوهة المؤنّثة…

خلال السنوات الثلاثة آلاف الأخيرة، صار الوعي الإنساني، المتأخر زمناً، ينظر إلى دواعي القداسة في المرأة، على أنها علامات الدنس! مع العلم أن تلك الدواعي لا تزال على حالها فالمرأة لا تزال تحيض، وتستدير أعضاؤها، وتلد، وتتعهد.

هذا التحوّل التدريجيّ البطيء، «بدأ باندثار الروح الأنثوي للحضارة المصرية القديمة، وتجلّى في صوغ الأدبيات السومرية المتأخرة والمدونات التوراتية المبكرة، واكتمل مع الاجتهادات المصاحبة للانتقال التدريجي للسلطة. وكلها تحولاتٌ، ظهر معها الزعم بأن الإله الذكر أزاح الربّة، وبأن الله رجل خلق آدم على صورته ثم استلّ حواء من ضلعه الأعوج، وبأن رمز الأنوثة هو حواء المستلة المتحالفة مع الشيطان لإخراج الرجل من الجنة، حواء الناقصة والمدنسة كل شهرٍ بدم الحيض، حواء التي تبجحوا فزعموا أن الله أرادها وعاءً للبذرة التي يلقيها الرجل بباطنها، حواء التي خلقت لإطفاء شهوة الرجل ما لم يعف ويتنسك ويكون من الربانيين، حواء التي لا مكان لها في الحضرة الإلهية إلا على سبيل الاستثناء والندرة والتجلي الأنثوي في صورةٍ ذكوريةٍ، حواء التي لا تكف في زعمهم عن ملء العالم فتنةً واضطراباً وتشويشاً لعقل الرجل… حواء المدنسة أبداً!

وهكذا، انطمرت قداسة الأنثى، بالدناسة التي ألحقتها بها خاتمة تحوّلات السنوات الألفين الأخيرة».

الحرب والعسكرية

«فجر العسكرية ارتبط بالأنثى المقدّسة والأمّ الأولى. وجيوش الحضارات القديمة، كانت في بدء زمن السيادة الذكورية، تنطلق تحت راية الربّات، لا الآلهة الذكور!».

هذه العبارة التي أوردها زيدان في صفحات كتابه، قد تلخّص تحوّل السيادة، بمفهومها العسكري، من الأنثوية إلى الذكورية.

فالجيوش الأولى لمصر القديمة حاربت تحت راية الإلهة «سخمت» المتّخذة صورة اللبؤة. والجيوش البابلية حاربت تحت راية الإلهة «عشتار». والربّة «أثينا» ذات الدروع، كانت إلهة الحكمة والحرب عند اليونانيين.

«والجيوش النظامية، برزت في تراث الإنسانية على أنقاض السلام الأنثويّ»، بدءاً من اتّساع رقعة الأرض المزروعة وبالتالي اتّساع الأسر، فبروز مفهوم الحيازة. لكن، ما لبث أن تغيّرت هذه الحال مع زمن السيادة الذكورية، بدءاً من الحيازة الواسعة، فالأسرة الممتدة، فالجيش النظامي بحيث تم الانتقال التدريجيّ من اكتشاف الزراعة، إلى الاستيطان، إلى الحيازة الزراعية الواسعة فتراكمت الثروة… ومن الإتاحة الجنسية، إلى الأسرة النواة، إلى العائلة الممتدة ونظام القرابة فتأكدت هرمية السلطة… ومن الحماية والدفاع، إلى المبادرة لدرء الخطر، إلى استدامة الجيوش الغازية وإعلاء العسكرية بِاسم حماية أمن الجماعة وثرواتها.

وبهذه الجدلية الثلاثية، انتقلت الإنسانية من روح الحضارة الأنثوية إلى أزمة السيادة الذكورية… انتقلت من الولادة إلى الإبادة!

ومع هذا التفاعل التطوريّ بين الجوانب الثلاثة المشيدة للسلطة، انتقل عمل خوض المعارك من الدفاع عن الأرض والعرض تحت راية الربّة، إلى الحرب التوسعية التي تخدم الملكية الذكورية وتؤكد حيازة الرجل وهرمية السلطة… فسادت الحروب.

نقدّم على سبيل المثال، حضارة سومر القديمة المجيدة، التي بدأ فجرها بعبادة الأمّ المقدّسة «ننخرساج»، والتي انتهت نهايةً رخيصةً بعدما وضعت قياد المجتمع بيد الرجال. وهو ما ذكرته اليهودية، من بعد، في «سفر التكوين ـ التوراة»، بالعهد القديم، عهد الإله يهوه / إلوهيم / الربّ للقَتَلة والفَجَرة وسفّاكي الدماء.

«كانت المرأة في الزمن السومري الأول، مبجّلةً في المجتمع باعتبارها الأصل. وكانت المرأة آنذاك هي مصدر القيمة، وعماد الأسرة، وروح الجماعة… ولقرابة ألفي سنة من حياة سومر، كانت المرأة تتزوّج بأكثر من رجلٍ، وتتحكّم في أكثر الأشياء. حتى أصدر الملك السومري أوروكاجينا عام 2355 قبل الميلاد، شرائعه التي تحرّم على المرأة الزواج بأكثر من رجلٍ واحدٍ، وإلا ترجم بالحجارة، في حين أن لا عقوبة تقع على الزوج الأول ولا الثاني. ليمهّد بذلك، لتلك الشرائع الآسيوية التي أباحت للرجل، أن يتزوّج بأكثر من امرأةٍ!».

عن موقع جريدة البناء اللبنانية


جردة البناء اللبنانية جريدة يومية سياسية قومية اجتماعية.



جريدة البناء


جريدة البناء
نُشر في 19-11-2016، العدد : 2174
الصفحة : ثقافة وفنون
ريتا التنوري


«ظلّ الأفعى»... حكاية الأنثى 2/2


وصلنا في الحلقة الماضية من هذه القراءة التحليلية لرواية يوسف زيدان «ظلّ الأفعى»، إلى الزمن السومري الأول، حيث كانت المرأة مبجّلةً في المجتمع باعتبارها الأصل.

وقد عثر الآثاريون على لوحةٍ سومريةٍ، رسم فيها، قبل تدوين التوراة بألف سنة، شيطان وشجرة وامرأة تقدّم لرجُلها ثمرةً من الشجرة! القصة التي بدأت منها التوراة مسيرة تدنيس الأنثى وإعلاء الرجل والإله الذكر.

في هذا السياق، حاول المصريون تصحيح مسار اليهودية عن طريق المسيحية، وردّها إلى المفهوم الأصلي للربوبية، أي مفهوم الأنثى الخالقة من غير ذكر، مفهوم الربّة «إيزيس / مريم». لكن ما لبثت أن انقلبت المسيحية على ذاتها، فجاءت الفرصة ضائعةً. وأبرز دليلٍ على ذلك، تواري العذراء / الوالدة وبروز الذكر / المولود ، فتسيّد المسيح على حساب الحضور المريمي، مثلما تسيّد «حورس» على حساب الحضور «الإيزيسي».

«ثمّ استتبّ أمر المسيحية في الفاتيكان على نقيض ما ابتدأت به مصر! فمن الرهبانية والتقشّف والشهادة، إلى الفخامة والتذهيب والسيادة… صارت المسيحية ملكوتاً في الأرض، بدلاً من ملكوت السماء الذي دعت أولاً إليه. وصار رأسها هو البابا مع أنها كانت ديانةً حقيقيةً، بدأت أول الأمر بحقيقة الألوهة: الماما.

آلافاً ثلاث تشكلت خلالها هذه البنية الاحتقارية»!

وبحكم انتماء المجتمع إلى البنية الاحتقارية، فعلى المرأة أن تبجّل الرجل: أباً، وأخاً، وزوجاً. وعلى الرجل احتقار المرأة ليخفّف بذلك من شعوره باحتقار الذات، واحتقار من هُم فوقه، له. والمؤسف أن هذا الأمر مدعومٌ ببعضٍ من عاداتٍ شائعةٍ وتقاليد موروثةٍ ونصوصٍ دينيةٍ لها طابع الإلزام والقسر.

رووا في الحديث الشريف: «إذا صامت المرأة وصلّت وأطاعت زوجها، دخلت الجنة»! وخلا الحديث الشريف من أيّ وصفٍ للزوج، بحيث يبرّر طاعته، كأن يكون طيباً أو صالحاً أو غير ذلك من المبرّرات.

«فيصير جماع الأمر: أن مطلق المرأة، عليها طاعة مطلق الرجل والخضوع له… بلا تمييز»!

ووفقاً للعقلية العسكرية، فإن الخطر الأنثويّ المهدّد، يلزمه أن تظلّ المرأة دائماً تطالب ببعض الحقوق، فيمنحها الرجل شيئاً ويسلب منها أشياء. فتعود لتطالب مجدّداً بالمسلوب، فيمنحها ثانيةً شيئاً ويسلب منها مزيداً من الأشياء. وهذا كلّه بالقانون! القانون الذكوريّ الروح والذكوريّ التطبيق. «وذكوري هنا تعني نصف إنساني ، وللدقة: ناقص الإنسانية»!

وعلى هذا المنوال، تزحزحت الإنسانية عن الإنسانية.

رمزية الأفعى

وحدي، أنا، سأبقى

وأصير كما كنت قبلاً

أفعى، خفيّةً، عصيّةً عن الإفهام.

«ترنيمةٌ لإيزيس سجّلها المصريون القدماء، قبلما تتشوّه صورة الأفعى في الأذهان. كان ذلك في الزمن القديم، الذي اتّخذت فيه الربّة المقدّسة الأولى، رمزاً هو أقرب ما يكون إلى طبيعتها. كانت الأفعى رمز الربّات: «إنانا» و«عشتار» و«إيزيس» و«أرتميس»… وقد صارت الأفعى من بعدهنّ، شعاراً لآلهةٍ ذكوريةٍ مصطنعةٍ! لإله الحكمة المزعوم «هرمس» المثلّث العظمة، ولإله الطبّ عند اليونان «إسكليبيوس»، ولآلهةٍ كثيرةٍ غيرهما.

وكانت الأفعى دوماً، شعار كل الملكات العظيمات في الأزمنة الأولى: «سميراميس»، «حتشبسوت»، «نفرتيتي»، «كليوبترا»… وغيرهنّ من ملكات الأزمنة الأولى التي كانت الإنسانية خلالها، لا ترى بأساً في تحكّم النساء، بل ترى أنه من الطبيعيّ أن تحكم النساء، وأن يتّخذن من الأفعى شعاراً… كنّ حاكماتٍ وقاضياتٍ في معظم الحضارات القديمة، حتى انقضى النصف الأوّل من حضارة مصر، ومن حياة سومر… ثم تغيّر الحال، فجاءت اليهودية لتحرّم على المرأة أن تكون حاكمةً أو قاضيةً، بعدما دنّس كَتَبة التوراة، بضربةٍ واحدةٍ، المرأة والأفعى».

ويبقى التساؤل: لماذا اتّخذن الأفعى شعاراً؟

لا بدّ من تفريغ صورة الأفعى من كلّ أحكامنا الوهمية الموروثة في أذهاننا، حتى تصبح مجرّدةً بعيداً عن الخرافات والاعتقادات.

الأفاعي بطبيعتها لا تهاجم إلا من يعتدي عليها، أو يعبث بجحرها، أو يقترب من ذرّيتها. وفي هجومها هذا إنذارٌ، اذ تنتصب محذّرةً فإن لم يلقَ إنذارها صدىً عند المهاجم، نهشته خاطفةً وهربت. إذاً، الأفعى كائنٌ مسالمٌ في الأساس.

الزحف مشيها. وقد تبنّت الجيوش هذه المفردة لتعبّر عن تنقلاتها. فيقال: زحف الجيش. وإن تقهقر الجيش، يقال: انسحب. فالانسحاب أيضاً شكلٌ من أشكال حركة الأفعى. وهنا، نعني الجيوش النظامية الذكورية الرائجة في الأزمنة الأخيرة. فحضارات أولى كثيرة، مجيدة، التي عبد أهلها الربّة وقدّسوا الأفعى، عاشت في سلامٍ طويلٍ من دون جيوشٍ نظاميةٍ وولّدت كل بذور الحضارة: الزراعة، الثقافة، الاستقرار، الحنين إلى الوطن، الضمير… السلام!

«لم يجد الآثاريون أثراً لصناعةٍ حربيةٍ بين حفرياتهم، مثلما وجدوا في المجتمعات الذكورية اللاحقة.

كان أهل الأزمنة القديمة يبنون المعابد للأفعى. والعجيب أن أكبر عددٍ من هذه المعابد، اكتشف في أرض فلسطين التي شهدت كتابة أسفار العهد القديم، التوراة، أول كتابٍ طمس صورة الأفعى، وجعلها مرتبطةً بالشيطان وبالمرأة والشر! ففي مطلع القرن الماضي 1903 اكتشف في فلسطين، أكبر هيكلٍ مخصصٍ لتقديس الأفعى. وجد الآثاريون فيه آلاف الأفاعي المحنّطة، وتمثالاً برونزيا ضخماً لأفعى الكوبرا»!

لفظ «الحيّة» هو اللفظ الأشهر المرادف للأفعى، الذي اختاره كلّ من ترجموا التوراة إلى نسختها العربية. لغوياً، «الحيّة» مشتقّةٌ من «الحياة»، ومنها سمّيت أمّ البشر، بحسب اعتقادهم: «حوّاء».

«وللحيّة والحيا في العربية معانٍ، كلها خطيرةٌ ودالةٌ:

المعنى الأول، الألصق بالمرأة، هو أن الحيا فرج المرأة. وفي لسان العرب: الحيا فرج الناقة. والحيّ، فرج المرأة.

وحيّة وحواء وحيا، ألفاظٌ اقتربت أصولها ومعانيها…

والحيا أيضاً في اللغة: المطر والخصب. كلاهما حياة… كلاهما حواء… كلاهما الحيّة.

الحيّة عكس الميتة، الحيّة ضدّ الفناء، الحيّة مرادف للخلود والانبعاث وتجدّد البقاء.

الحيّة لحظة الميلاد التي تتحقّق بها أنوثة الأنثى، على نحوٍ لا مثيل له. والحيّة، هي روح الوحي الأنثوي الساري في النساء، خافتاً كالفحيح، منذ فجر الوجود إلى يوم منتهاه.

وللحيّة معانٍ مستترة عن أعين الناس، وشت بها اللغة، وتناساها الناس. فمن مستتر معانيها، ما يأتي في متون اللغة عند الإبانة عن لفظ «إله». وبحسب قول ابن منظور: إن الإلهة هي الحيّة العظيمة! وفي بيان مادة «لوه» يقول في كتابه المشهور «لسان العرب» ما نصّه: الإلهة هي الحيّة، واللات صنمٌ مشهورٌ يكتب بالتاء «اللات» وبالهاء «اللاه»، والأخير هو الأصح، أو أصله لاهة وهي الحيّة»!

ورغم ذلك، طمست معاني ودلالات الأفعى إلى أن أزيحت عن عرش القداسة وحُطّ من شأنها.

التشكيك حالةٌ طبيعيةٌ ومرحلةٌ لا بدّ منها عند الإنسان. فليعمّم التشكيك وليشمل الاعتقاد بأن وأد البنات كان عادةً لدى كلّ العرب، في الزمن المسمّى اعتباطاً بالجاهلية.

وردت في القرآن الآية الآتية: وإذا الموءودة سُئلت بأيّ ذنبٍ قُتلت». الفعلان المستخدمان بصيغة المجهول، ينفيان عنها الفعل بالكلّية!

والأهمّ لنا في هذا السياق، أنه لم يصل إلينا خبرٌ تاريخيّ موثوقٌ به في شأن وأد البنات.

«ولو كان وأد البنات قد جرى حقاً، كعادةٍ جاهليةٍ منتشرةٍ بين العرب قبل الإسلام، فكيف تناسل هؤلاء الجاهليون جيلاً بعد جيلٍ؟ وكيف تسنّى للرجل آنذاك، الزواج بأكثر من امرأةٍ؟ وكيف حملت القبائل العربية الكبرى، أسماءً دالّةً على الانتساب للأنثى، مثل كندة وثعلبة وساعدة وبني أمية؟ وكيف اشتهرت نساءٌ ذات مكانةٍ من كلا الفريقين، مثل السيدة خديجة بنت خويلد الغنية الموقرة التي رعت الإسلام في مهده، ومثل السيدة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب بن أمية، أم معاوية أول ملوك الإسلام، آكلة كبد حمزة عم النبي… هل يستقيم ذلك؟ وهل كانت النساء ذوات المكانة، سيسمحن بوأد بنات جنسهن؟ وهل كانت دعوة الإسلام، ستعارض عقب وفاة النبي بدعوة امرأةٍ أرادت أن تردّ الأمر إلى الأنثى، أي سجاح التي نعرفها بلقب المتنبية!

لقد عبد العرب الأنثى قبل الإسلام، عبدوا اللات والعزى ومناة، الإلهات اللواتي ورد ذكرهن في سورة النجم».

هذا المسار التاريخي الحضاري الذي اتّخذته النصوص الأسطورية والمقدّسة، قد جسّده يوسف زيدان بشفافيةٍ وبساطةٍ وأمانةٍ، في عملٍ روائيّ لم تسلّط عليه الأضواء وأعين القراء والباحثين. هذا النبذ وهذا التهميش، هل افتُعلا عن قصدٍ، أو عن لامبالاةٍ، أو عن خوفٍ؟

عن موقع جريدة البناء اللبنانية


جردة البناء اللبنانية جريدة يومية سياسية قومية اجتماعية.


الرواية على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)