طبطاب الجنة، نقشبندي (السعودية)، رواية دار الساقي 2014

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٧ فبراير/ شباط ٢٠١٥
جريدة الحياة
منى الشرافي تيم


اللامعقول الإنساني في «طبطاب الجنة»


يحاكي الكاتب السعودي هاني نقشبندي في روايته «طبطاب الجنة» (دار الساقي) اللامعقول، في رسمه عدداً من اللوحات النفسيّة والحسّية، المغلّفة بالرغبات المكبوتة، والأحلام المجهضة في أجواء من العبثية، فضلاً عن استئثار القوى الذهنية والعاطفية والروحية المحكومة بفلسفة الحياة والموت... وكل ذلك من خلال منظومة لغوية ذات إيقاع ذهني منفتح على الرمز والاحتمالات المكتسية بالصبغة الوجودية، فضلاً عن الطاقات الشعورية التي تدفقت من دون كلام، وتحركت في فضاء اللاشيء، وطافت النفوس بأشباحها، فتفوق الحب على الحياة، وأصبح الموت مبتغى الروح. أما في شأن العنوان، فإن طبطاب الجنة هو نوع من الحلوى الشعبية تصنع من السكر المحروق والدقيق.

شخوص «طبطاب الجنة» محاصرة بقدرها، تغالب المجهول والغيب، وتصارع الحياة، تحيا وتتصرف بصورة عبثية، مغمورة بحالة من الضياع والقلق والعجز والحيرة. عشق سلومي سلمى، وعشقت غرسة سلومي، وماتت سلمى. ومن اللحظة التي سكنت فيها سلمى القبر، سكن سلومي المقبرة، وسكنت غرسة نافذة بيت أم عتيق التي تطلّ على مقبرة «أمنا حواء» في حي المعمارية الشعبي في مدينة جدة. لقد عايشت شخوص الرواية الرئيسة معنى الموت الذي اتخذ أشكالاً متعددة.

اتبع الكاتب في تقسيم أجزاء روايته أسلوباً فنيّاً مختلفاً، فقد عنونها بأسماء أشهر السنة، بدءاً بشهر أيار (مايو) الذي خطف فيه الموت سلمى حبيبة سلومي، وصولاً إلى شهر آذار (مارس) الذي ضرب فيه الموت ضربته الثانية! وبهذا الأسلوب رسم الكاتب المسافة الزمنية لروايته التي استغرقت عشرة أشهر. وجسّد حي المعمارية الذي تقع فيه المقبرة، واقع رواده، وأرسى رواسب الخوف والحرمان التي تسكنهم، فارتبط المكان ارتباطاً وثيقاً بحركة الشخوص، وحبل الزمن الثقيل المظلم، الذي تواطأ مع الحدث، فبدت الرواية وكأنها لوحة بيضاء متشحة بظلال مكانية وزمانية ووجودية وعدمية. هذا المزيج الرهيب يجهد القارئ في تفكيك أبعاده التكوينية، واستنباط مكنوناته، وكل ما يسببه من اختلاجات في العاطفة والفكر، لأنه يضع الوجدان الإنساني في مواجهة حقيقية مع فلسفات الحياة والموت والقدر.

ولم يغفل الكاتب إضاءة صور المرأة في مجتمع الرواية، المتمثلة في عنف الأب والزوج، والتحرش الجنسي، وقد عبرت غرسة عن ذلك مراراً: «حتى في الموت، نحن أقل درجة»، «يا الله كم هم الرجال مخلصون في خياناتهم». وانتقدت بشدة ألسنة النساء التي تطاول سير الناس في الحي الذي تسكن فيه: «وأي سفاح ذاك الذي لا يتوقف في رؤوسهن».

«طبطاب الجنة» رواية ذهنية بامتياز، نجح كاتبها في تشخيص كل ما خفي، وكل ما هو بعيد من العقل الإنساني وفهمه بُنيةَ الكون! وأظهر ضعف النفس الإنسانية وتناقضاتها، ومنحها صوراً شاذة عبثيّة بعيدة من المألوف، مُحددة بأسوار مقبرة، والسلبية سيدة الموقف من الوجود والحياة. كل هذا في النص وأكثر... إلا أن صوت الأذان طغى على كل الأصوات.

ركّز الكاتب في روايته على البواعث النفسية، التي أراد من خلالها تغليب عبثية العاطفة على العقل والمنطق، وجسّد فكرته هذه في سلومي الذي اختار بملء إرادته أن يغلق أبواب الأمل ويصبح فريسة للضياع واليأس، وتملّكه الوهم، فكانت غربته في نفسه أكبر من غربته في مجتمعه. ولم تكن غرسة بعيدة من واقع سلومي، فهي قضت أيامها تراقب من نافذة بيت أم عتيق المطل على المقبرة: «ذاك الساكن فوق القبر» ويعتاش على «طبطاب الجنة»: «هذا الصمت والأفعال القليلة التي يقوم بها ليست سوى موجة خفيفة على سطح ماء ثائر في عمقه. كان يبكي، يصرخ، ويناجي التراب بلا كلل في صمت مطبق».

كان الحب داخل سلومي أقوى من الموت نفسه، وكانت غرسة تشعر أن سرّاً في حياته لا تعرفه، ثم تعود لتواجه الحقيقة: «لكن أي سرّ أمام الموت الذي هو فيه؟». هكذا خرج الكاتب بشخوص روايته عن الأطر المألوفة التي تشاكل ما يجري في الحياة.

لقد جمع اليُتم بين سلومي وغرسة، فقد تيتم سلومي حين كان طفلاً لم يتجاوز الثانية، وتكفل بتربيته رجل من الحي اسمه خالد (والد سلمى). وكذلك ماتت أم غرسة بعد ولادتها بعامين، فنشأت تحت رعاية جدتها: «فقرها ويتمها خلقا لها شخصية غريبة ومتناقضة، وكأن أبراج العالم ونجومه اجتمعت فيها. عنيفة وحنونة، ثائرة ومهادنة، محافظة ومتحررة». جمع الكاتب في وصف شخصيتها الأضداد، ثم وصف بيئتها الاجتماعية: «نشأت في بيئة كل ما فيها عيب وخطيئة».

أما الحدث، فبدا مرتبطاً بمنطق الشخصيات ومن خلال وعيها، فالراوي نقل الحدث، وتتبع الشخصيات، ونقل أفعالها وأقوالها، ثم كان يتوقف وقتاً تلو آخر ليترك للشخصية حرية التعبير عن ذاتها ومشاعرها من خلال الحوارات الداخلية والخارجية. وبذلك خرج عن كونه الراوي العليم، فرفع بذلك مستوى الإثارة والتشويق.. غرسة تراقب وتحلل، وسلومي حيّ غارق في عالم الموتى وراغب بالموت. أما الحبكة، فكانت مختلفة عن المفهوم المتعارف عليه، فهي احتدت في ذهن القارئ أكثر من احتدادها في النص، فتنامت وفق اللحظات النفسية وتطورت معها، وبلغت أوجها حين اكتشف سلومي أن القبور يُعاد فتحها ليسكنها أموات آخرون بالمداورة، وأن قبر سلمى سوف يُفتح كي يدفن فيه زائر جديد. فقرر أن يموت في التوقيت الذي يحين فيه وقت فتح القبر كي يُدفن معها... وتحتدم الحبكة حين يطلب من غرسة مساعدته في تنفيذ خطته.

أما حلقات السرد التي تكررت وتشابهت وسارت ببطء، وبدت وكأنها أشبه بالمراوحة في المكان، والمشاهد تدور حول نفسها، إلا أن الكاتب نجح في خلخلة المتوقع وخرج به عن أفق انتظار القارئ. وكل ذلك من خلال لغة قوية جزلة سلسة متناغمة ومتناسقة: «إن كان الحب يخبر عن وصوله كنفحة عطر، فإن الكره بوق من الألم تسمعه قبل أن تراه»، فضلاً عن مقدرة كبيرة في توليد الصور الفنية المتقطعة والمتباعدة الحافلة بالمعاني والرموز: «تجتر الذكريات.. كأنها تتعمد الاصطدام بها لتكسرها، تحطمها وتطحنها». ووازن بين ألفاظه ومعانيه في تصوير الفعل البشري، ففي كل عبارة عبرة، وما بين سطورها حكمة. عبّر على لسان الشيخ عابد قائلاً: «إن الروح ليست سوى كتلة طاقة أكبر من كتلة الجسد. إنها كالمصباح تماماً. ترى الضوء، الذي هو الجسد، لكنك لا ترى الكهرباء التي هي الطاقة». ثم وصف ببراعة شخوص روايته. وصف غرسة وصفاً خارجياً: «ممتلئة الجسم، كاملة الدسم. عيناها تلسعان كسوط، وشفتاها تبتلعان رجولة عشرة رجال في طرفة عين». ووصفها داخلياً: «أصبح أنينها أكثر صخباً».

وأخيراً لا بدّ من الإشارة إلى أن رواية «طبطاب الجنة»، رواية ذات نكهة مختلفة تسبح بالفكر وتترك في النفس أثراً، وهي بحاجة إلى دراسة بحثية لتفسير أبعادها وقراءة فلسفتها العميقة: «الرغبة في الموت هي بداية فهم الحياة».

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


الكتاب على موقع أبجد

الكتاب على موقع دار الساقي

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)