صديقتي المذهلة، إيلينا فيرّانتي (إيطاليا)، رواية ترجمة معاوية عبد المجيد، دار الآداب، 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الإثنين 24-04-2017
المدن - ثقافة
طارق أبي سمرا


إيلينا فيرّانتي : العالم النسائي المشحون بالعنف


العالم النسائي الذي خلقته فيرّانتي، عنيفٌ إلى حدّ لا يُطاق


لنقُل الأمور كما هي، ببساطةٍ وذاتيّةٍ مُطلقة، بسذاجةٍ وحتى بشيءٍ من السفاهة : إن “صديقتي المُذهِلة” (*) للإيطاليّة إيلينا فيرّانتي أجملُ رواية راجعتها حتّى الآن.

كنتُ قد سمعتُ بـ"رباعيّة نابولي"–السلسلة الروائية الضخمة التي تُشكِّل “صديقتي المُذهِلة” أوَّل أجزائها–من أصدقاءٍ نصحوني بقراءتها، كما اطّلعتُ على بعضٍ من المديح منقطع النظير الذي أغدَقته الصحافة الأميركيّة على هذا العمل وعلى مؤلِّفَتِه مجهولة الهويّة، المتوارية خلف الاسم المستعار إيلينا فيرّانتي، فقلت لنفسي بشيءٍ من الإستخفاف والتعالي: “قد أحاول يوماً قراءة هذه الكُتُب... لكن كلّ هذا التمجيد... وكلّ هذا الرواج الشعبي... إن الضجّة المفرطة حول عملٍ ما ليستنذير خير”.

وكم كنتُ على ضلال! فبعد أن استجبْتُ أخيراً لإلحاحِ شخصٍ أثِقُ برأيه، وقرأتُ الصفحات الخمسين الأولى من “صديقتي المُذهِلة” في ترجمتها الفرنسيّة، وجدتُ نفسي عاجزاً عن التوقف، فأنهيتُ الرواية سريعاً وانتقلتُ توّاً إلى الجزء الثاني فالثالث من “رباعيّة نابولي” (أما الجزء الأخير، فلم يُترجَم إلى الفرنسيّة بعد). كانت تلك أيامُ قراءة محمومة، تملّكتني خلالها نشوةٌ قلّما اختبرْتُها بعد سنّي المراهقة. ففيرّانتي تُتْقِن شيئاً صار نادراً، يتجنَّبُه الكثير من الكُتّاب باعتباره لا يليق بالأدب الرفيع: روايةُ الحكاياتِ بطريقةٍ مُشوِّقة للغاية، تدفعُ القارئ إلى التهام الصفحات بنهم لمعرفة ما الذي سيحدث لاحقاً. حتّى إن فيرّانتي لا تتوَّرعُ في الـ"رباعيّة"، عن اللجوء إلى التقنيّات السرديّة الخاصّة بالمسلسلات التلفزيونيّة الدراميّة الطويلة، فتتبَّعُ، على مدى فترة زمنيّة تتجاوز نصف قرنٍ، مصائر حوالي أربعين شخصيّة روائيّة، موليةً عناية بالغة في نقل صغائر شؤون عيشها وكبائرها: من الحياة المنزليّة اليوميّة وما تنطوي عليه من شجارات صاخبة وعنيفة، مروراً بالصداقات والخصومات والنميمة؛ بالغراميّات والزواج، الخيانات والفضائح، الإنفصال والطّلاق؛ الإنجاب وتربيّة الأطفال؛ الإرتقاء الإجتماعي أو الإنزلاق نحو الفقر المدقع؛ وصولاً إلى وفاة بعض الشخصيّات وارتكاب بعضها الأخر جرائم قتل. وخلال لحاقه اللاهث بكل هذه الأحداث والتقلّبات – بكل هذه الحبكات المتناسلة والمُتداخلة –، يشعر القارئ أنه على وشك اكتشاف شيءٍ لم يُقَل من قبل: شيء يصعُب تحديده، عَثَر، في أعمال إيلينا فيرّانتي، على شكله الأدبي والروائي لأوّل مرّة. وها هو معاوية عبد المجيد، الذي نقل “صديقتي المُذهِلة” إلى العربيّة، يمنحنا فرصة الكتابة عن هذا الشيء الغامض والجديد، علّنا ننجح في الإهتداء إلى بعضٍ من ملامحه.

***

لنَعُد أدراجنا الآن ونبدأ، مرّة أخرى، من “صديقتي المُذهِلة”. تتمحْوَر هذه الرواية، كما “رباعيّة نابولي” بأكملها، حول علاقةِ صداقةٍ بين امرأتيْن (إيلينا وليلا)، موضوعٌ أقلّ ما يُقالُ فيه إنه نادرٌ جدّاً في الأدب. حين تختفي ليلا، البالغة من العمر 61 سنة، بشكل مفاجئ، ماحِيَةً كلّ أثرٍ لها – ثيابها، أغراضها، صورها، إلخ–، تُقرِّر إيلينا أن تستعيد، كتابةً، قصّة الصداقة التي جمعت بينهما منذ أيام الطفولة حتّى الآن، آملةً بذلك أن تجد تفسيراً ما لهذا الإختفاء. هكذا تعود بنا الراوِيَة إلى حيٍّ عمّالي فقير من أحياء مدينة نابولي، في الخمسينات من القرن المنصرم، حيث نشأت، بين فتاتيْن في السابعة من عمرهما، صداقةٌ اتّسمت، منذ اللحظة الأولى، بهوسِ كلا طرفيْها واحدهما بالآخر، حدّ أن مفردة “الصداقة” تتبدّى مُقصِّرة في توصيف هذه العلاقة توصيفاً دقيقاً. فما يربُط بين ليلا ابنة الإسكافي، وإيلينا التي يعمل والدها بوّاباً في مبنى البلديّة، أمْتَنُ من أيّ صداقةٍ، وأشدُّ ولعاً واضطراباً من أيّ عُشْق.

في واقع الأمر، إن كلّ ما نعلمه عن هذه العلاقة يقتصر على وجهة نظر إيلينا؛ أما ليلا، فتبقى، في كثيرٍ من أفعالها وجوانبِ شخصيّتها، عصيّة على الفهم حتّى للراوِيَة نفسها. منذ تعارُفهما، تُفتتَن إيلينا بليلا، بهذه الطفلة العبقريّة والمُشاكسة، العنيدة والبريّة، التي تكاد أن تكون خارقة: فهي قد تعلّمت القراءة لوحدها، وتفوقّت على جميع أترابها في المدرسة دون بذل أي جهدٍ يُذكر؛ هي لا تخاف أحداً، لا المُعلِّمة وعقوباتها، لا صبيان الحيّ الذين تُقاتلهم بالحجارة، ولا والدها الذي ينهال عليها ضرباً لأتفه الأسباب؛ كما أنها سليطةُ اللسان، يهابها حتّى الكِبار، إذ تبدو وكأنها تمتلك قدرات سحريّة تُخوِّلها تحقيق أيّ شيء تبتغيه، ما يدفع البعض– ومن ضمنهم إيلينا أحياناً –إلى وصفها ب"الشريرة".

بالنسبة إلى إيلينا، ليلا هي المثال الأعلى الذي تقتدي به، ما تطمح أن تكونه وما يحثُّها على محاولة تخطّي نفسها باستمرار، بالرغم من يقينها أنها لن تتقدّم أبداً على صديقتها، وأنها ستحتلّ دوماً المرتبة الثانية، في المدرسة كما في الحياة. إلا أن غرابة هذا الإفتتان تَظْهر حين تتخطّى إيلينا صديقتَها في السعّي وراء حلمهما المُشترك بمُغادرةِ حيِّهِما الفقير، ومع ذلك يُلازمها الإحساسُ بأن ليلا تتصُّدر السباق. فمهما تعاظمت نجاحات إيلينا، ومهما اشتدَّ بؤس ليلا، تبقى هذه الأخيرة، في عينيّ الراوِيَة كما في عينيّ القارئ، مُمْتلكةً لشيءٍ مجهول وسحري– أو ربما شيطاني –، يحيلها بعيدة المنال حتّى وهي في الحضيض.

منذ سنّ مُبكر إذَن، تحلم هاتان الفتاتان بالهروب من هذا الحيّ حيث يسود المُرابون ومافيا الـ"كامورا"، وحيث يتفشّى العنف بأشكاله الصريحة، كالعراك في الشوارع والحانات، وضرب الرجال لزوجاتهم وأولادهم، والإغتيال أحياناً؛ كما بأشكاله المستترة التي تتغلغل في جميع علاقات الأهالي ببعضهم البعض، فتخلق جوّاً من الإحتقان الدائم. أضف إلى ذلك الضائقة الماديّة الشديدة التي يعاني منها معظم سكّان الحيّ، وشعورهم بإحباطٍ وعجزٍ مُزْمِنَيْن، فتتّضح حينها صورة هذا المكان الذي تسعى بطلتا الرواية للتحرّر منه. سبيلهُما الوحيد إلى ذلك التفوُّقُ في المدرسة، ما تُحققه ليلا بسهولة كبيرة، وإيلينا بجهد مضنٍ. إلا أن دربيْهما يفترقان بعد نيلهما الشهادة الإبتدائيَّة، إذ لا يرى والديّ ليلا مبرراً لمتابعتِها تعليمها، فتترك عندها مقاعد الدراسة لتشرع في مساعدة أمّها في تدبير شؤون المنزل، والعمل مع أبيها في محلِّه لتصليح الأحذية. وحين تُصبحُ مراهقةً فاتنة ومثيرة، لا تجد مخرجاً من مأزقها سوى الزواج من أحد شباب الحيّ الأغنياء والنافذين، فتقبل بـ"ستيفانو"، البقّال الثريّ الذي تربطه علاقاتٌ بمافيا الـ"كامورا"، خطيباً لها.

ينتهي الجزء الأوّل من “رباعيّة نابولي” بحفل زفاف ليلا؛ إيلينا التي بين الحضور، تتهيّأ للذهاب إلى الجامعة، وتشعر أنها صارت غريبة عن الحيّ وأهله الذين تصفهم بالرعاع. هما لم تبلغا السبعة عشر عاماً بعد : ما زالت أمامهما حياة بأكملها، سيكتشفها القارئ في ثلاثِ رواياتٍ لاحقة.

***

إن إحدى أبرز السمات التي تشترك فيها كلّ روايات فيرّانتي دون استثناء، أكانت “رباعيّة نابولي” أو الأعمال السابقة كـ"أيّام االهِجْران"(**)، هي تمحوُّرها حول الشخصيّات النسائية. في هذه الروايات، مكان الرجال في الخلفيّة: صحيحٌ أنهم قد يلعبون أدواراً ذات أهميّة من حيث تأثيرها على تطوّر الحبكة، لكنّها أدوارٌ تظلّ دائماً ثانويّة. لا يعني ذلك أن هؤلاء الرجال شخصياتٌ مُسطّحة أو كاريكاتوريّة، بل أن حيواتهم ودواخلهم ليست موضِع تساؤل روائي، لا من قبل المؤلِّفة ولا الراوِيَة (في عالم فيرّانتي، ثمة فقط راوِيَات)، ولا حتّى من قبل القارئ. بهذا، تكون فيرّانتي قد قلبت رأساً على عقب معادلة سائدة عند الكثير من كبار الروائيين الرجال، حيث الشخصيات النسائية، حتّى لو رُسِمَت بعانية، مجرّد أدواتٍ لتسيير أحداثٍ وحبكةٍ بطلها رجل.

هذا العالم النسائي الذي خلقته فيرّانتي، عنيفٌ إلى حدّ لا يُطاق. ليس المقصود هنا العنف الجسدي، بل ذلك الذي، في رواياتها، يشوب العلاقات بين النساء كما علاقتهنّ بأنفسهّن. هناك طبعاً عنف المجتمع الأبويّ والذكوري، المتمثِّل، في “صديقتي المُذهلة”، بحيّ مدينة نابولي غير المُسمّى الذي هو دوماً على وشك سحق البطلتيْن؛ لكن ثمّة طبقات أخرى من العنف، متواريّة وغامضة، تتبدّى، مثلاً، في نفور الابنة من والدتها، كما هي حال إيلينا (وغيرها من شخصيّات فيرّانتي) التي تمقت أمّها وتقرف من جسدها، إذ أكثر ما تخشاه هو أن تصبح على صورتها في يوم من الأيّام. هناك أيضاً قرف المرأة من الأمومة، من الحبل والإرضاع والعناية بأجساد الأطفال، أمورٌ تصوِّرها فيرّانتي أحياناً (في “أيّام الهِجْران” كما في الجزء الثالث من “رباعيّة نابولي”) على أنها وظائف محض حيوانيّة. وقد يصل نفور الأمّ من أولادها، وحقدها عليهم نتيجة العبوديّة التي يفرضونها عليها، حدّ رغبتها بالهروب منهم أو تمني موتهم. أما العنف الداخلي، ذلك الذي يشوب العلاقة مع الذات، فيظهر بشكل أساسي في أسلوب فيرانتي، في جملها القصيرة والهادئة التي، فجأةً، تطول وتنفلت من عقالها حين تتزعزع حياة راوِيَاتها. ذلك ما يحدث لـ"أولغا"، بطلة “أيّام الهِجْران”، التي تُطلِعُنا، منذ الجملة الأولى، أن زوجها قرر أن يهجرها: ما يلي مجرّد وصفٍ لهذا الزلزال الذي يهدم حياة أولغا، لكنّ الأخيرة تنقل لنا إحساسها أنها صارت على حافة الجنون، بوحشيّة تُشعِرُنا أن الكَوْن برمَّته استحال حطاماً.

وأخيراً، ثمّة عنف الصداقة. فما لم نُشِر إليه سابقاً، هو أن الحقد والحسد والكراهيّة، إلى جانب المودّة والإفتتان، جزءٌ لا يتجزّأ من العلاقة بين ليلا وإيلينا. هذا ما قدّ يُفسِّر أن صداقتهما أقرب إلى العشق والولعمنها إلى الصداقة بين الرجال. تقول فيرّانتي في إحدى المُقابلات الخطيّة التي أجرِيت معها: “الصداقة بين النساء حيِّزٌ تُرِك دون قوانين. لم تُفرِض عليه قوانين الرجال: هو لا يزال حيّزاً تحكُمه قواعدٌ هشّة، وحيث الحبّ[...]، بطبيعته، يَجُرُّ معه كلّ شيء، المشاعر النبيلة كما الغرائز الوضيعة”. والمُدهِشُ في العلاقة بين هاتيْن البطلتيْن، أن المشاعر السلبيّة والإيجابيّة لا تبدو متناقضة بتاتاً، مهما اشتدّت حِدَّتها، بل تظهر وكأنها تُشكِّل كلّاً متكاملاً وعضويّاً، حيث الكراهيّة والمحبّة، أو الحسد وتمنّي الخير للآخر، وجهان لعلمة واحدة. هذا ما ينطبق أيضاً على أنماط العلاقات الأخرى التي تتطرّق إليها فيرّانتي: فتصويرها لأمٍّ تمقت أولادها حدّ تمنّي موتهم، ليس وصفاً لحالة إستثنائيّة وشاذة، بل لما تنطوي عليه الأمومة– وجميع الروابط العاطفيّة القويّة – من أحاسيسٍ عنيفة ومتضاربة، لكن متزامنة ومتداخلة. إن هذه الإزدواجيّة المتواصلة والهائلة في مشاعر البشر تجاه بعضهم البعض باتت أمراً معلوماً، أقلّه نظرياً، منذ نشأة التحليل النفسي؛ إلّا أن تجسيدها بهذا الشكل الحسّي والملموس، الفجّ والصارِخ، نادرٌ للغاية.

(*) “صديقتي المُذهِلة”. إيلينا فيرّانتي. “دار الآداب”، 2017. ترجمة معاوية عبد المجيد. 440 صفحة.

(**) صدرت الترجمة العربيّة لرواية “أيّام الهِجْران” عن دار “شرق غرب” الإيطاليّة العام 2007.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



جريدة الحياة


السبت، ٣ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٦
جريدة الحياة
كاتيا الطويل


إيلينا فيرّانتي الروائية المجهولة شغلت ايطاليا بـ «صديقتي المذهلة»


دأب النقاد والصحافيّون على اكتشاف هويّة إيلينا فيرّانتي (Elena Ferrante) الحقيقيّة. وتُعتبر فيرّانتي من أبرز الروائيّين الإيطاليّين المعاصرين في يومنا هذا، هي التي دخلت قائمة المئة شخص الأكثر تأثيراً في العالم للعام 2016 وفق صحيفة التايمز الأميركيّة. وإيلينا فيرّانتي هو اسم مستعار لكاتبة إيطاليّة مجهولة رفضت الإفصاح عن هويّتها لاعتبارها أنّ ليس من الضروريّ أن تذهب إلى الأماكن نفسها التي تذهب إليها رواياتها، فليس من الضروريّ أن تتغيّر حياتها لمجرّد أنّها وضعت بين أيدي القرّاء كلماتها. تفصل فيرّانتي بين حياتها وكتبها وتعتبر أنّ على الكلمات أن تخوض رحلتها بمفردها من دون أن يرافقها كاتبها فلا ضرورة للكشف عن هويّتها وتفاصيل حياتها اليوميّة وظروفها المعيشيّة.

وصدرت مؤخّراً رواية «صديقتي المذهلة» بترجمتها العربيّة (ترجمة معاوية عبد المجيد، دار الآداب، 2017) وهي أولى أربع روايات جُمعت بعنوان «رباعيّة نابّولي» وصُنِّفت من أجمل ما أنتجـــــه الأدب الإيطاليّ المعاصر. وتروي «صديقتي المذهلة» (L’amica genial) قصّة صديقتين: إيلينا أو لينا وهي الراوية والكاتبة، وليلا الصديقة المذهلة، ضمن ديناميكيّة حياتيّة متفاوتة: صاعدة تارة وهابطـــة تارةً أخــــرى. فتروي فيرّانتي طفولة فتاتيـــن ومراهقتهما في هذا الجزء الأوّل، بالإضافة إلى تفاصيل حيّ صغير وفقيـــــر من مدينة نابّولي. رواية حياة، رواية مدينة، رواية صديقتين تتعاهدان على صداقة أبديّة فرضها عنف الزمن وشؤم الظروف.

صديقة مذهلة تربح وتسيطر وتسود

«كان ثمّة شيء ما، منذ تلك الأعوام البعيدة، يمنعني من أن أتخلّى عنها. لم أكن قد عرفتها جيّدًا، ولم نكن قد تبادلنا أيّ كلمة رغم منافساتنا المتواصلة، في المدرسة وخارجها. لكنّ هاجساً غامضاً كان يُشعرني بأنّني لو هربتُ مع الأخريات لتركتُ عندها قطعة منّي لن أستطيع استردادها أبدًا.» (ص 33) منذ العنوان، يتبيّن القارئ حقيقة الشخصيّتين الأساسيّتين والعلاقة القائمة بينهما. فعنوان «صديقتي المذهلة» هو فعلاً عنوان جامع يحيط بما بين البطلة (الصديقة) والراوية (الأنا) وعلاقة التابع والمتبوع القائمة بينهما. فالصديقة أي ليلا هي البطلة الفعليّة للنصّ والمحرّك لأحداثه، والأنا أي الراوية إيلينا هي مجرّد متفرّج وكاتب ينقل الأحداث ويعلّق عليها. أمّا صفة «المذهلة» التي تلتصق بليلا منذ العنوان فتلخّص شخـــصيّتها وهالة التبجيل التي تُحيطها بها إيليــنا الكاتبة: «كانت ليلا، باختصار، أقوى من أن يضاهيها أحد» (ص 54) وفي فصلين اثنيـــن «الطفولة» و «المراهقة» يكتشف القارئ شخصيّة ليلا الأخّاذة والجبّارة التي تسيطر على إيلينا وعلى الحيّ بأكمله.

وعبر التمعّن في العنوان وحده الذي يشكّل مرآةً للسرد، يدرك القارئ أنّ الكاتبة ستخبر قصّة صديقتها وستكون هي في الدرجة الثانية. فالكاتبة التي تخبر تفاصيل طفولتها ومراهقتها إنّما هي تؤطّر ذلك بتفاصيل طفولة ليلا ومراهقتها. وكأنّ طفولتها ومراهقتها ليستا إلّا حجّة لسرد طفولة ليلا ومراهقتها، ليستا سوى تفصيل من تفاصيل حياة ليلا. وتتتبّع الكاتبة حياة صديقتها وتحاول الانتصار عليها عند كلّ منعطف، لكنّها عندما تظنّ بأنّها سجّلت نقطة تقدّم على صديقتها تلاحظ أنّ الأخرى تسبقها بأشواط. وهذه المنافسة التي تسيطر على حياة الكاتبة ليست منافسة شرّيرة أو حاقدة هي بالعكس منافسة مستسلمة تدرك الكاتبة أنّها خاسرة فيها لكنّها مع ذلك لا تنفكّ تحاول أن تختلف، أن تتميّز. فتقول الكاتبة بصدق إنّها لا يمكن أن تنجح في أيّ عمل إلا بوجود هالة ليلا تراقبها وتتصدّرها: لا يمكن لها أن تبرع بغياب ليلا، كما لا يمكن لها أن تتفوّق بوجودها.

نابّولي المدينة الساحقة

وليست ديناميكيّة الصداقة التي تربط ما بين إيلينا وليلا هي وحدها المحرّك لحبال السرد. فالكاتبة تمكّنت من وصف المدينة الإيطاليّة نابولي بأهلها وأحيائها وأنماط عيشها. فالمكان بطل، إلى جانب ليلا التي تنتصــر عــلى الشخصيّات كلّها وتتحكّم بزمام الأحداث والتطوّرات. المكان بطل، يسحق الشخصيّة ويحدّد مساراتها والآفاق التي لا يمكن أن تتخطّاها أو أن تلمسها حتّى.

وقصّة الصديقتين التي تبدأ بدميتين مهشّمتين تتبادلانهما، تتحوّل إلى قصّة نابّولي بأحيائها الفقيرة، بأساليب التربية القاسية التي يعتمدها أهلها، بنظريّات الوالدين حول التربية والمدرسة والعمل والزواج والبنات والصبيان. وقصص حبّ الصغار التي تتحوّل على حين غرّة إلى علاقات غضب وحقد وحسد، تخبر قصص عادات وتقاليد وأنماط تفكير لا يمكن كسرها كما لا يمكن العيش في ظلّها. فتسرد فيرّانتي صداقة فتاتين صغيرتين في حيّ مُعدم، تسرد قصّة حياتين ومدينة بشكل غزير وغنيّ وهادئ، ليجد القارئ نفسه في بيت عائلة الإسكافيّ، وعائلة البوّاب، وعائلة النجّار، وعائلة الأرملة المجنونة، وعائلة موظّف سكك الحديد، وعائلة بائع الفواكه، وغيرها. فتتحوّل الرواية إلى خشبة مسرح تسرد لكنّها في الوقت نفسه تمثّل الأماكن وتجسّدها.

ويتشبّع القارئ من جوّ الطبقة الفقيرة من المجتمع الإيطاليّ من دون أن يتنبّه، يتشبّع من الأسماء الإيطاليّة والوجوه المغبّرة والملابس الرثّة وروائـــح المدينة المكفهرّة. وتصف فيرّانتي العنـــف والقسوة والشقاء والفقر بهدوء ولا مبالاة، وكأنّها تصف تفّاحة على طاولة خشبيّة. تصف قسوة والدين، نميمة جيران، تعنّت إخوة. تصف عقليّة خمسينيّات القرن العشـــرين في إيطاليا في حيّ فقير من نابّولي بعيني طفلة صغيرة لم تعلم أنّ الطفولة يمكن لها أن تكون مختلفة: «لا أحنّ إلى طفولـتنا، بسبب العنف الذي اتّسمت به. كنّا نواجه شتّى أنواع المصائب، في البيت وفي الخارج، كلّ يوم، لكنّني لا أذكر أنّني فكّرت بأنّ الحياة، التي كُتِبَت عليّ، كانت في غاية الشقاء. الحياة كانت هكذا وكفى، وكنّا نكبر مرغمين على جعلها صعبة على الآخرين قبل أن يجعلها الآخرون صعبة علينا.» (ص 39).

«صديقتي المذهلة» رواية إيطاليّة بامتياز، مذهلة تماماً. وقد تمكّن المترجم معاوية عبد المجيد من نقل روح السرد بلغة سلسلة جميلة، ليبقى الرجاء بأن تُنقل بقيّة روايات الرباعيّة إلى القارئ العربيّ الذي يستحقّ أن يقرأ أدباً بهذا المستوى، ففيرّانتي صبّت على الورق روح أحياء نابّولي، دواخل فتاتين صغيرتين، وحياةً بعيدة/ قريبة تجبر القارئ على ملاحقتها وتتبّع أحداثها لمعرفة المزيد عنها... تجبره على الانتقال إليها بعقله وقلبه.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠١٤ السبت ٢٢ تشرين الأول ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون


كتاب يكشف الوجه الآخر للروائية الإنكليزية: جين أوستن... الراديكالية الخفية


أحلام الطاهر

إيلينا فيرانتي... تلبس طاقية الإخفاء | باريس | تنتمي إيلينا فيرانتي إلى سلالة الحكواتية، أولئك الشيوخ الموقرون الذين يرتلون حكايات ومغامرات مشكوك فيها من ألف ليلة وليلة في الأسواق المراكشية.

تعرفُ كيف تهيئ ضربة مؤثرة، وكيف تخبئ ورقة آس في كُمّها أفضل من السّحَرة الذين يُخرجون مناديل وأرانب. بعد أن تأتي على ذكر شخص عابر (ليس له أي علاقة بالموضوع)، تواصل حكايتها دون أن تعود إلى الحديث عنه، إلى أن تصل إلى منعطف مهم، باف! يظهر ذلك الشخص من جديد ولكن في لقطة قريبة الآن إذا صح قول ذلك، فيسيطر علينا الذهول، وندمن هذه اللعبة. حتى بتنا نقرأ الروايات كي نعرف كيف كُتبت، نقلّبها نفككها ونرتب القطع والأجزاء، نعزل فقرة جانباً، ندرسها وتأتي لحظة نستطيع فيها أن نقول: «آهـ، أجل، ما فعلَته هو أنها وضعت هذه الشخصية هنا ونقلت هذا الموقف إلى هناك لأنها تحتاج فيما بعد إلى...» لكن من حيث لا ندري، نسمح للسحر أن يستولي علينا، فلا نعود نكترث بالخدع والتقنية والمهنة.

في زمن دونالد ترامب، الذي يضع اسمه على كلّ شيء: برج، كازينو، جامعة، لعبة لوحية، كولونيا... وفي عصر التغطية على مدار الساعة وصور «السيلفي» وتحديثات انستغرام والحرص على وضع لوغو على صورة غلاف بسكويت طاف على نهر البوسفور للتباهي والترويج للذات والمفاخرة بالمال ومظهر الشريك والقدرة الجنسية، تمت إزاحة التعاطي مع الأعمال الفنية لصالح النميمة على الفنانين والمشاهير. لكن أولئك الذين حافظوا على سرية هويتهم (باستثناء سارقي البنوك ولاعبي المصارعة في العروض المتلفزة) أجبرونا على إعادة التحديق في المنتج الإبداعي. ليس فقط بانكسي وهنري كارتييه - بروسون في بداياته، بل جي دي سالينجر وتوماس بينشون، وهاربر لي، وتيرانس ماليك وآخرين صمّوا آذانهم عن الضجيج، وفي بعض الحالات، حتى صورهم لم تكن متاحة.

i want to be alone. ما زلنا نتذكر هذه الجملة التي كررتها غريتا غاربو بتضرّع هذياني في فيلم

Grand Hotel، وبعدها أعلنت فيرانتي عن رغبتها ليس فقط في الخصوصية، وإنما في الإمّحاء تماماً خلف اسم مستعار: فـ «الكتب بعد أن تكتب، لا تعود بحاجة إلى مؤلفيها، والكتاب يجب أن يضم بين دفتيه كل أسباب الحياة المستقلة عن كاتبه وإلا فليس هنالك داع لنشره». لكن المطاردات لم تتوقف، كان أكثرها سريالية برنامج صنعه فريق من الرياضيّين والفيزيائيّين المنتمين إلى جامعة «لا سبيانزا» لتحليل رواياتها، وآخرها مقال مضجر في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» طالعنا بداية هذا الشهر، يؤكد كاتبه، الصحافي الاستقصائي الإيطالي كلاوديو غاتي (كتب تحقيقات عن اللاجئين والمجموعات الإرهابيّة الإسلاميّة والبنوك!) أن إيلينا فيرانتي، اسم مستعار لآنيتا راجا التي تعمل مترجمة عن الألمانيّة وتتعامل مع دار النشر التي أصدرت كلّ كتاباتها (Edizioni e/o).

لم يتردد غاتي في مراجعة الوثائق المتعلّقة بالممتلكات العقاريّة لراجا وحسابات دار النشر، ليكشف (لنا نحن القراء؟) أنّها اقتنت بيتاً يتكوّن من سبع غرف في أحد أحياء روما الراقية وبيتاً ريفيّاً في توسكانا، كما اقتنى زوجها الكاتب دومينيكو ستارنوني بيتاً في واحد من أجمل أنهج مدينة روما بمساحة 230 متراً مربّعاً ويتكوّن من 11غرفة. وقد تصل قيمة البيت، وفق التقديرات، إلى مليوني يورو. وليس من باب المصادفة أن تتزامن هذه العمليات العقاريّة مع النجاح المالي الكبير لكتب فيرانتي/ راجا. هذه «النشرة الاقتصادية» التي يكتنفها جو خبيث، تمنعنا من النظر بعيداً. إننا ننظر إلى أقدامنا، ولا نفكِّر إلا في الخطوة الصغيرة التالية.
لنتخيل أن فيرانتي تسكن بجانب الحرفيين والتُجّار والعُمّال المهرة الذين تكتب عنهم بذهن شارد على طاولة حديقة معدنية بيضاء اللون، عليها عدد وافر من الأوراق المتكتلة في مجموعات كأنها فراشات ليلية بجانب نباتات النفل العملاقة وبعض قطع المرجان من بحر «إسكيا». أليس من الأفضل أنْ نرى أوراق اللعب التي تركتها بين أيدينا في «صديقتي المذهلة» و«قصة الاسم الجديد» و«أولئك الذين يغادرون وأولئك الذين يبقون» و«قصة الطفلة الضائعة»؟

تمتزج هذه الرباعية بظلال ما بعد الفاشية، حروب اليمين الإيطالي ضد اليسار، ومرحلة اغتيال ألدو مورو والألوية الحمراء في السبعينات. تصوغ فيرانتي لغتها الروائية من دون أن تبتعد قيد أنملة عن الصداقة التي تجمع بين فتاتين في نابولي، إيلينا غريكو ابنة بواب البلدية، وليلا شرولو ابنة الاسكافي. تلاحقهما جُمل كالبركار في علم الهندسة، تتبع دوائر، تارة حميمة، وطوراً واسعة وكرويّة، طرفها الحاد المُقحَم في أحياء نابولي الشعبية يشير إلى الخوف والغيرة والإهانة والفرص الضائعة والعنف الذي نضطر إلى ادّعائه لكي نعيش بسلام نسبي. يكفي أن تقرأ تلك الكلمات السوقية بالدارجة النابوليتانية حتى تُصاب بأعراض «توريت»، أو كائناً ما كان اسم ذلك الشيء الذي يجعلك تلوِّح بذراعيك بحركات عشوائية، لأن الكلمات التي أمامك هي ما لا تكتبه وما لا تصفه حتى لنفسك وما تُخفيه على أمل أنه، في يوم ما، قد يختفي.

انتقلت رواية إيلينا فيرانتي «صديقتي المذهلة» إلى المكتبة العربية أخيراً عن «دار الآداب» (ترجمة معاوية عبد المجيد)


عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)