صحّ النوم، يحيى حقي (مصر)، رواية يحيى حقي محمد حقي 1905 - 1992

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ٢٥ أغسطس/ آب ٢٠١٦
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«صحّ النوم» ليحيى حقي : أمثولة مبكرة عن السعادة والديكتاتورية


«لقد صببت تجربتي كلها، أوائل سنوات الخمسين، في كتاب ظهر الى جانب «قنديل أم هاشم» وهو «صحّ النوم». وقد كتبته إبان ظهور الديكتاتورية العسكرية في مصر. وهو عبارة عن تحذير من هذه الديكتاتورية. ولو تأملتم الأسلوب ستجدون أنني وصلت فيه الى حدّ الخطر. بل كدت في هذا الكتاب أتجاوز خط الخطر(...) ومع ذلك اعتزّ بذلك الكتاب لأنه رغم أن أشخاصه بلا أسماء وأماكنه بلا مسمّيات، إلا أنني لم أشعر بطبيعة مصر وطبيعة المصريين، ولم أشعر بأنني وفقت في التعبير عن هذا كما وفقت في كتاب «صحّ النوم»...». لعل أبرز ما يلفت في هذا الكلام الذي قاله يحيى حقي ذات يوم عن «صحّ النوم» أنه لم يتحدث عنه ولو للحظة باعتباره رواية أو قصة كما قد يقول كثر اليوم. فالحقيقة أن حقي أدرك طبيعة هذا النصّ بأفضل مما سوف يفعل كثيرون. وذلك ببساطة لأن «صحّ النوم» ليس رواية ولا هو قصة. بل هو أمثولة لا أكثر ولا أقل. أمثولة كتبها على طريقة «أستاذه الكبير» فولتير، أو في شكل عام على طريقة كتابات التنويريين الفرنسيين، حين يستخدمون لغة الأدب ومقدماته لغايات غير أدبية وغير جمالية. هي هنا غايات سياسية وربما أخلاقية - سياسية، عبّر عنها الكاتب بكل وضوح: التنبيه من خطر الديكتاتورية «العسكرية» حتى وإن لم يكن في النص أية إشارات للعسكرية.

ومع ذلك يمكن القول أن «صحّ النوم» نصّ ظلمه كاتبه بعض الشيء، أو ظلم نصفه الأول على الأقل، هو الذي انطلق من موضوعة رائعة تتعلق بقرية منسية بعيداً عن أي عمران ولا سيما عن خط السكة الحديد الذي كان مروره هنا وتوقفه أحد أحلام السكان فيما شكّل رعب سكان آخرين... لكن هذه الموضوعة ستتوه لاحقاً في القسمة الثنائية للنص الذي كان يمكنه أن يكون رواية. فالقسم الثاني سيبدو مجرد مرآة مشوّهة للأول، يستعيد فيه الكاتب الشخصيات نفسها التي كان توقف عندها بتوصيف مدهش وحيوي في البداية... ليتبين هنا أنه كان مجرد توصيف رمزي، ما أفقدها حقيقتها وحميميّتها في آن معاً، لتصبح مجرد عناصر في «الأمثولة» تمهد للمشهد الأخير الذي يتحاور فيه الرواي - الكاتب مع الزعيم الجديد. بهذا أتى النص أشبه بلعبة مرايا. إذ جاء القسم الثاني وصفاً لما آلت إليه أحوال الشخصيات - الرموز بعدما تغير الحكم وعاد الى القرية ابن وجيهها الذي كان غائباً ليضبط الأمور ويبدل من أحوال الشخصيات وكسلهم. قبل مجيئه، كان كل شيء فوضى وبؤساً حتى ولو خدمت الحانة المحلية مركزاً للتجمع المسائي يمكّن الراوي من استعراض الشخصيات ووصف مآسيها وأفراحها ولا مبالاتها وما إلى ذلك. ولسوف تكون الحانة أول ما يقع ضحية التغييرات «التطويرية» التي يحدثها الزعيم الجديد الذي يريد كل الخير لأهل بلده. لكن هذا لن يحدث في حضور الراوي الذي سيضطر للغياب زمناً يعود بعده ليرى الأمور تبدلت: القطار وصل وصارت له محطة. الناس جميعاً يعملون. الكسل اختفى وكذلك القذارة من الشوارع. والبيوت التي كانت آيلة الى الانهيار لم تعد كذلك... كل شيء تبدل حتى ذهنيات الناس بمن فيهم صاحب الحان الذي أضحى حفار قبور راضياً بما قُسم له. كل شيء بات على أحسن ما يرام في أحسن العوالم الممكنة. ولكن - تبّاً لهذه الـ «ولكن» التي تأتي لتقطع السياق المطمئن- ولكن أين السعادة؟

ذلكم هو السؤال المباغت الذي راح يشغل بال الراوي والذي يدفعه الى الشك ولا سيما حين يطلب «رئيس البلدية» الجديد، أي الزعيم لقاءه فيروح محذراً إياه في صفحات وعظية، مملة على أية حال، من إغراءات السلطة ومغبة الظلم وبؤس الإصغاء الى المنافقين. وحين يكتشف الراوي هنا أن «الزعيم» يعرف هذا كله... ينتهي اللقاء كما ينتهي النص نفسه.

والحقيقة أننا لن نحتاج الى وقت كثير قبل أن ندرك أن هذا «الزعيم» هنا ليس سوى وجه من وجوه جمال عبد الناصر أول أيام حكمه، هو الذي يقدمه لنا الكاتب بصورته اللاحقة التي تتأرجح بين النبل والقسوة والعاطفة الوطنية والحزم وبرودة الأعصاب. لكن الغريب في الأمر أن حقي كتب هذا النص خلال العام 1955 في وقت مبكر جداً. ما يدفعنا الى التساؤل كيف كان في مقدوره بذلك الشكل المبكر أن يتنبه، سياسياً وسيكولوجياً، الى أمور لن تتكشف قبل عشرة أعوام أخرى، في زمن لم يكن أحد فيه قادراً على رسم تلك الصورة النقدية المتأرجحة لـ «الزعيم» أو لحكمه، ما يفسر بصدق كلامه عن «منطقة الخطر»؟ مهما يكن فإن حقي كان وسيبقى هكذا دائماً هيّاباً غير خائف، هو الذي لم يكفّ عن القول أن أستاذه الأكبر في حياته إنما كان المتنبي!

«كنت أحب الشعر منذ كنت طفلاً، وكان أبي رحمه الله محباً للمتنبي يحفظ كثيراً من شعره ويلقيه علينا في جلساتنا المسائية حين كنا نجلس حوله، وكان مغرماً بالقراءة الى أبعد حد، حتى أنه كان يقرأ وهو يسير في الطريق». والحقيقة أن أهمية هذه العبارات، التي كانت من آخر ما أدلى به من أحاديث، خلال العام الأخير من حياته، تنبع من كون الرجل تركي الأصل. وكان ثمة في الحياة الأدبية المصرية من «يعيّره» بذلك الأصل ويأخذ عليه نقصاً في العروبة. لكن هذا لم يكن صحيحاً. فالحال أن يحيى حقي كان في أدبه كما في حياته مصرياً أصيلاً ومدافعاً عن القضايا العربية ومنغمساً في اللغة العربية حتى النخاع.

كان يحيى حقي من الأدباء الحقيقيين، أي من ذلك الصنف النادر من الكتّاب الذين كانت الموسوعية سمتهم الأساسية والحقيقية، فهو اشتهر كروائي ولكن عبر رواية أساسية واحدة هي «قنديل أم هاشم» التي أصدرها في العام 1943 واعتبرت دائماً واحدة من أهم الروايات المصرية، على قصرها، من ناحية المضمون كما من ناحية الشكل. إذ كان يحيى حقي في تلك الرواية، من أوائل الذين استخدموا لغة عربية مبسّطة تقترب من العامية، وقدموا موضوعاً طليعياً حاداً، يقول بين سطوره أكثر مما يقول في بنائه الخارجي. والى تلك الرواية نشر يحيى حقي العشرات من القصص القصيرة، التي استوحى فيها حياة المجتمع والناس البسطاء، ومن أهم مجموعاته «دماء وطين» و «أم العواجز» و «صح النوم»، التي نتحدث عنها هنا، وهي تنتمي جميعاً الى الفترة الفاصلة بين سنوات الأربعين وسنوات الخمسين، أي حيث كان يحيى حقي لا يزال منخرطاً في السلك الديبلوماسي المصري.

ولد يحيى حقي في القاهرة، وحصل على ليسانس الحقوق، وبدأ حياته العملية في مكتب للمحاماة في الإسكندرية، وبعدها انتقل الى دمنهور. وفي العام 1929، قُيّض له أن ينتمي الى السلك الديبلوماسي، حيث تنقل خلال ما يقرب من العشرين سنة بين جدة وروما وباريس وأنقرة، حتى ختم حياته الديبلوماسية بأن عُيّن وزيراً مفوضاً في ليبيا في العام 1952. وهو استقى من تجربته الديبلوماسية الفتية تلك، عدداً كبيراً من الدراسات والمقالات التي نشرها في الصحف أولاً ثم جمعها في كتب، هي أشبه بالسيرة الذاتية، لكنها سيرة ذاتية مواربة، ومن أشهر تلك الكتب «خليها على الله» و «كناسة الدكان». وتتميز كتاباته في ذلك الحين بطابع تهكمي حاد، وبنظرة قاسية يلقيها على المجتمع وعلى البشر، وبرؤية ثاقبة مبكرة للأوضاع السياسية، وهذا كله نجده مجتمعاً في «صحّ النوم» على أية حال. إضافة الى ذلك كله، أسهم يحيى حقي في التأريخ للقصة المصرية عبر كتابه «فجر القصة المصرية» كما كتب في النقد الأدبي «خطوات في النقد».

> منذ العام 1953، وبعد تركه العمل الديبلوماسي، تنقل يحيى حقي بين العديد من المهام والوظائف الثقافية، فكان مديراً لمصلحة الفنون، ثم مستشاراً لدار الكتب، فرئيساً لتحرير مجلة «المجلة» وعضواً للمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون. قبل سنوات من رحيله، راحت تصدر ليحيى حقي أعماله الكاملة في اكثر من 25 جزءاً أشرف على جمعها ونشرها الكاتب فؤاد دوارة، وهي تضم كتابات في الموسيقى والسينما والمسرح واللغة والفنون التشكيلية إضافة الى الأعمال التي ذكرناها. وبهذا المعنى يمكن اعتبار يحيى حقي، الأكثر موسوعية بين الكتاب العرب كافة.

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)