مقال صحفي

شفق ورجل عجوز وصبي، سعيد الكفراوي (مصر)، قصص قراءات

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الخامسة والعشرون ـ العدد 7532 الجمعة 6 ايلول (سبتمبر) 2013 ـ 30 شوال 1434هـ
طارق إمام


العالم نُدبة على جبين طفل !


أربع وثلاثون مقطوعة تشكل الكتاب القصصي ‘شفق ورجل عجوز وصبي’، لـ’سعيد الكفراوي’، والصادر مؤخراً عن دار الشروق. المنتخبات التي ضمها الكتاب من أغلب مجموعات الكفراوي، تمثل المراحل المختلفة للكاتب العربي الأشد إخلاصاً لفن القصة القصيرة، وواحد من القلائل النادرين الذين حفروا اسما كبيرا في السرد من دون كتابة روايات، وهو خيار شديد الصعوبة، أصر عليه الكفراوي، وقبض عليه مرة بعد أخرى حتى أنجز فيه 12 مجموعة قصصية، وهناك مجموعتان قيد النشر
الكتاب، لم يركن لفكرة المختارات التقليدية، بدليل أن القصص المختارة لم تنشر حسب تواريخ كتابتها أو تتوزع بترتيب صدور مجموعاتها القصصية، بل تفرقت، بحيث يمكن أن نقرأ على التوالي واحدة من القصص المبكرة مشتبكة بواحدة من أحدث قصصه، وبحيث بدا لي أن أحد الرهانات كان تقديم كتاب قصصي له استقلاليته، ويمكن قراءته تحت ضوء جديد، دون أن يفقد قدرته على كشف عالم الكفراوي القصصي المتسع في تنوعاته وتراوحاته. غير أن المثير، أن النصوص في ترتيبها الجديد، في ‘تبعثرها’ الدال جاءت لتجعل من الكتاب متتالية سردية، يبدو فيها كل نص خيطاً يتصل في النص الذي يليه، وتكمل فيها النصوص الأخرى، على تباعد زمن إنتاجها، في دورة من الميلاد والموت.

بدا لي الكتاب، وفق بنيته هذه، نصاً واحداً طويلاً، يمكن التعرف على أبطاله في أركان الحكاية الكبيرة، وتحديد أدوارهم، وتلمس تجليات ظهورهم واختفائهم.. وهم يؤطرون وجود شخصية رئيسية، تتعدد وجوهها، وقد تتغير أسماؤها، لكنها تظل الشخصية نفسها.. ‘عبد المولي’، الذي نتلمس خطاه منذ طفولته، نطالع صور صباه، ونصحبه حتى تجاعيد الرجل العجوز الذي يصيره، بينما يتذكر. ‘عبد المولى’، وهو الاسم الذي يمنحه الكاتب لبطله في عدة نصوص، مؤكداً على وجوده الذي يتجاوز حدود القصة الواحدة ليصير ‘شخصية’ تتحرك في عالمه، يحضر كذات هي جماع أزمنة، تستشرف وتتذكر في الوقت ذاته، تستبق وتسترجع، فيها من صفات الأولياء، القدرة على كشف حجب الواقعة العادية، والحياة بعد الموت ‘أليس عبد المولي، من تحدي القدر المكتوب، وذهب الى تلة الغجر، حيث أخرجوا قلبه وأعادوا كتابة اسمه قبل أن يردوه للحياة، في قصة تلة الغجر؟’.. يصير الوجود كله ندبة ولد بها الطفل وصارت تكبر كلما تقدم في سيره.. إنه جرحه المقيم، ألمه الداخلي الذي يستعذبه كمتصوف.

وبينما نتأرجح مع تلونات العمر نتنقل، بسلاسة، مرة بعد أخرى، بين ريف ومدينة، حيث خضرة تنفتح على شوارع إسفلتية، سماء بطيور تحيل الى سماء تحتلها سحابات دخان، بيوت من طوب لبن تتمدد لتصير بنايات شاهقة من الأسمنت.. أحلام تتحول الى وقائع وذكريات تتجول بحرية.

‘عود أبدي’ .. ربما كان هذا أول ما تبدى لي، دورة الوجود، حسب الوعي الأشمل الذي تعكسه هذه القماشة الواسعة، تنتهي لتبدأ وتزول لتجدد حيواتها، وذلك لا ينسحب فقط على الموجودات المعلفة للكائن البشري، لكنه يخضعه هو نفسه لسطوته … الذات الإنسانية هنا تموت لكي تولد، تختفي لكى تعاود الظهور ـ وكأننا في زمن دائري لا يعترف بالزمن الخطي الضيق، المحكوم بنقطة بداية ونقطة نهاية. ربما يفسر ذلك، الطريقة التي تبدأ بها نصوص عديدة، بأحرف عطف، وكأنها قبل ذلك، مثلما ستنتهي بعد نقطة النهاية الوهمية.

القراءة الأشمل للكتاب، قادرة على إبراز عدد من السمات الجوهرية في سرد الكفراوي، ولعل أبرز ما تبدي لي هو احتشادها بالاشتباكات، بين ما يعتبره البعض ‘ثنائيات’ حققت خصامها سلفاً، بما فيها من حدية. الريف هنا يجادل المدينة، وعي الطفولة يجادل وعي النضج، التذكر يجادل الاستشراف، السرد يمتزج بالشعر، عامية اللسان تجادل مؤسسة الكتابة، والأسطورة تلقي بثقلها على حركة الواقع. يبدو عالم الكفراوي حريصاً على الإنصات لهذه التقابلات، في جدليتها الموارة من دون أن يؤكد تحيزه لمنحى دون الآخر.

الفضاء السردي

يتميز عالم سعيد الكفراوي بسرد متدفق، لا تغيب عنه الحكاية، كعمود فقري، ويبدو واضحا فيه اتصاله بنبعه الشفاهي القادم من الوجدان الجمعي.. فلغة السرد معجونة بلغة الكلام، ولغة الحوار بدورها محتشدة بموروث اللسان من أمثلة وصياغات قارة في وعي الجماعة.. لكن الكفراوي، بالرغم من ذلك، لا يركن للسرد الكلاسيكي للحكاية، أو للمنطق التعاقبي السهل في تقصي زمنية القصة، فسرده أيضاً حافل بالتجريب، واللعب مع البنية القصصية، وخلخلة الزمن، منفتح في الوقت ذاته على طاقة شعرية هائلة، تتبدى في استخدام خاص للغة، واختبار لأكثر من مستوى سردي في لحمة النص الواحد.

تنفتح الحكاية ‘الكفراوية’ على عالمين كبيرين، الريف، والمدينة. ليسا منفصلين تماماً رغم أنهما ليس متصلين، لكن هناك حالة من الجدل تتحقق بينهما، كنموذجين معرفيين بالأساس وكطريقتين لإنتاج الأفكار، خاصة في القصص التي تجمع بينهما، والتي يغادر فيها السارد الريف للمدينة، أو يعود من المدينة للريف.

وبداءة، فمفردتا ‘الريف’ و’المدينة’ كثيراً ما تحضران في تعميم مخل .. لأن علينا أولا أن نحدد :أي ريف، وأي مدينة ؟ .. الريف هو، وعبر دلائل وعلامات شتى، ريف الدلتا .. والذي يتمايز بالتأكيد عن ريف الصعيد مثلا، ليس فقط على مستوى اللهجة، رغم أن الكفراوي يلتقط عمقها كوعاء للوجدان، لكن أيضاً على مستوى شكل العلاقات. هو في النهاية ريف الشمال، الأقل قسوة وعنفاً وغلظة، هو اليابسة الممتدة المنبسطة، بما تمنحه من حرية في الحركة وانفتاح للأفق، ليس شريطاً ضيقاً بين الجبل والنهر .. وهو الريف الذي تتمتع فيه المرأة بقدر من المركزية والسطوة والإعلان عن الجسد لا يتوفر للمرأة في ‘أرياف’ أخرى. المدينة أيضا، هي المدينة الكبيرة، بطابعها الجدلي وهيمنة القيم الفردية عليها، وانغمارها في التشيؤ والوجود الاصطناعي، والتي لا يمكننا العثور عليها في مصر بهذا الزخم إلا في القاهرة. وفي النهاية، ثمة مشترك لا ينبغي أن نغفله بين العالمين، هو ‘النهر’، الخلاص الأخير، والذى يمثل الميلاد والزرع في الريف، بقدر مايمثل الخلاص الوحيد في المدينة، كأن الغرق فيه عودة للالتحام بأصل التكوين المفتقد.

‘سألت البنت فرجينيا: ماذا يحدث عندما نموت؟. أجابتها: نعود للمكان الذي جئنا منه .. تتجه الآن ناحية النهر بمعطفها الرمادي وفستانها المزهر لتلاقي مصيرها، وحين تكون على الشاطىء تجمع الأحجار الصغيرة وتدسها في جيب معطفها، حتى يقاوم طفو جسدها ويكون أثقل على الماء ويهزمه’. وبالرغم من أن القصة التي أقتطعت منها هذا المجتزأ ‘ساعة فرجينيا وولف’، إلا أنها تبدو واحدا من الأقنعة التي يمكن الخروج منها بدلالات أبعد من أغترابها الظاهر.

يفرض كل من العالمين نفسه على الوعي بشكل مختلف، فبينما يرتبط الريف بالأفكار الكلية في ذهن الشخوص، الحياة والموت، الزمن، الخصوبة، وحدة الموجودات، ما وراء الوجود الماثل، مع حضور واضح للأسطورة والخرافة، وتداخل حر بين الواقع والخيال.. فإن المدينة تتبدى كلوحة مفتتة من العناصر الصغيرة، البطل فيها هو العالم اليومي والمؤقت للأفكار المجزأة والواقع العملي بغية إشباعات مؤقتة. يتخلق الحوار الرئيسي فيها بين البشر والأشياء، أكثر مما هو بين البشر والبشر. ربما لهذا السبب نلاحظ هيمنة الحوار في القصص التي تدور في الريف، وثراءه وسيولته.. بينما يختفي أو يكاد في قصص المدينة، حيث الحوار التلغرافي، المتحقق في أقل عدد من الكلمات، والذي يكاد في جوهره يكون مجرد ‘مونولوجات’ متبادلة تكشف عن توحد الأشخاص أكثر مما تعمق اشتباكهم الحقيقي في نسق مشترك. الملحوظة الثانية تخص الغاية من الحوار، فالحوار في نصوص الريف يبدو مقصوداً لذاته، ليس مكرساً لغاية عملية، بل هو الغاية.

في قصة ‘بيت للعابرين’ يبدأ الحوار بين السارد وحبيته الأولى، بعد سنوات طويلة من الفراق، بمكالمة تليفونية، إنها مكالمة تفقد الكثير من وهج الحب الذي كان، الحوار المباشر، والرؤية العينية، اللذين يستبدلان بصوتين نصف معدنيين. وعندما يعود للبيت القديم، يغرق في مونولوجه الخاص، حتى وهو يواجه شبح ماضيه .. ويكتشف أن البيت الذي كان رمزاً للأقامة والسكن أضحى مكانا للعابرين، وكأنه فقد الحوار المأمول إلى الأبد . وفي قصة ‘الملكوت’، وهي أقصر قصص الكتاب لكنها من أشدها دلالة، يجلس رجل وأمرأة في انتظار قطار. لا يكاد حوارهما يكشف سوى عن انتظارهما للقطار، يتمحور حول الله ويلخص في هذه اللحظة حياتهما بالكامل. ويغدو الحوار المقتضب محض استفسارات متبادلة تقطعها دهور من الصمت، حول الكائن المديني الذي يحتل وعيها.

ثمة ملحوظة أخرى ملفتة، فالعلاقة في عالم الريف تتحقق غالباً بين الطفل الصغير والرجل العجوز المشرف على النهاية، عالم من الأطفال والعجائز، مبدأ الحياة الغض ومنتهاها العامر بالحكمة.

يلوح جدل لا يتوقف بين وعي السارد بالعالم، كطفل تارة وكرجل عجوز تارة أخري. بين أول العمر وآخره يتحرك قدر غير قليل من النصوص، كاشفاً عن هوة سحيقة بين منحيين في رؤية العالم وتفسيره. من هنا يصير عنوان المختارات ‘شفق ورجل عجوز وصبي’ أبعد من مجرد لافتة، فهو يجمع العنصرين المتباعدين، في ظل ‘الشفق’، ذلك الوقت المخاتل في أول الفجر، أول الدنيا.

ولعل من اللافت، ذلك الحضور الطاغي للطفل باعتباره محركاً للوجود، وهي الرؤية التي أعتقد أن الكفراوي تفرد في تعميقها. من المدهش أن الطفل يحضر كسارد، ويمثل الغريزة، المطلقة، في توحده بالطبيعة وقدرته على الإتيان بما يحب، كذلك فإن الطفل يقف دائماً على تخوم عالم آخر، عالم ما ورائي ميتافيزيقي، يعبر إليه بسلاسة، في خصام عميق لوعي ‘العجوز′، الخائف بطبيعته من المجهول. في ‘تلة الغجر’ مثلا، ينتقل الطفل ‘عبد المولى’ من العالم الواقعي للقرية الى ‘تلة الغجر’ المرهوبة، في رحلة إسراء جديدة، حيث يتورط، باختياره، في عالم سحري، كأنه العالم الآخر، ويستسلم للرجال الذين ينزعون قلبه. هذا المزج بين الواقع والخيال، هو نوع خاص من ‘الواقعية السحرية’ الحاضرة في كتابة الكفراوي، التي تُضيق المسافة بين الواقع والحلم، بين ما يدركه العقل وما تتصوره المخيلة. لكن هذا المنحي يشتد عندما يتولي الوعي الطفولي السرد. ‘عبد المولي’ نفسه سيظهر من جديد، في قصة أخري هي ‘زبيدة والوحش’، يخترق صوته السرد كاشفاً عن رؤيته الباطنية لطقس ريفي مألوف هو تخصيب الثور للبقرة. الطفل يكتشف جانبا من غريزته من خلال المراقبة المباشرة للوجود الحيواني، حتى يصبح الطقس برمته استعارة للشوق الإنساني الكامن والمرجأ. المشهد الواقعي ‘الحيواني’ بالنسبة له لحظة حلم، قائمة بين الواقع والخيال، ومعبأة بعمقها الصوفي، حيث المعنى الأعمق للاتصال.

الحلقة المفقودة في الريف، يمثلها الرجل الذي في عمر النضج أو أواسط العمر، لكنها تتجلى بشكل أكبر في عالم المدينة، وهذا ما يجعل من العالمين مكملين لبعضهما في رسم الصورة النهائية للشخصية. رجل المدينة هو ذات بين الطفل والعجوز، لذلك فهي ممزقة بين طفولتها المندثرة وعجزها القادم لا محالة. هذا ارتباك يلائم منطق المدينة، ووعي شخوصها الممزق. الرجل في المدينة إما باحث عن بقايا حب قديم، أو متردد في الإقدام على علاقة جديدة، مشتت بين واقعه الغريزي وحيرته الفكرية واغترابه عن مجمل السياقات التي يحياها مضطراً: ‘ من سنين عدة والمسرات قليلة في هذه الأنحاء. فذاكرتي المشوشة لم تعد تعي أنني ضحكت من قلبي طوال تلك السنين، فمنذ ارتفع نجم اللوطي، والجزار، ومالك العقار، وراقصة الملهي، وكاتب السيرة، والمؤرخ الكذاب، والبانكير، في سماء الوطن السعيد، تأكدت من تغير الأحوال وقلت في نفسي: انتبه عليك بالبحث عن الشيء المغاير’. (قصاص الأثر) إنه ‘عبد المولى’ من جديد يفسر لنا طبيعة الرحلة، فهو طفل الريف ورجله العجوز، وبينهما، هو رجل المدينة الذي ارتحل.

المرأة في عالم ‘سعيد الكفراوي’ ليست ذلك الكائن المهيض، ‘مكسور الجناح’، وسواء كانت المرأة في الريف أو المدينة، فهي دائماً محركة، محفزة، قوية.. لذلك فمن اللافت أن المرأة على الدوام هنا تقف على الجانب الآخر من ‘التصور الذكوري’ الذي يراها موضوعاً للمتعة، مثلما يرى فيها الهامش المقموع، وهو تصور سيطر طويلاً على السرد المصري.
تحضر المرأة دائما كدال على الغريزة المنفلتة، وهي بذلك تبدو مناقضة لكل الأعراف. ليست الكائن الراضخ المستسلم، لكن الباحث عن مصيره، سواء كان ذلك في الريف أو المدينة. في ‘تلة الغجر’ تعدل الأم لابنها ما يشاع عن الغجر، مانحة إياه رؤية جديدة تناقض الرؤية الذكورية التي يتبناها الجد ويترجمها في أمر’ لا تذهب لتلة الغجر’، وفي ‘سيدة على الدرج’، تغوي المرأة الرجل وتستدرجه، وفي ‘بيت للعابرين’ تكون المرأة هي المبادرة بالبحث عن عشقها القديم، والنماذج كثيرة.
أفق المرأة أيضاً مفتوح دائماً على المستقبل. المرأة هي القادم، هي محرك الزمن.

الأفق الشعري

تلتفت النصوص للشعر، فضاءً ولغةً وآليةً في مقاربة العالم، بشكل جلي.

نهر اللغة السردية السيال والتواصلي، يجادله مستوى ثان من لغة أكثر كثافة، وأشد عتمة، وانفتاحاً على آفاق رحبة من التأويل، تتسلل بسلاسة لتقيم تقاطعها، كمستوى مفارق من الخطاب اللغوي، يعيد قراءة الحدث، يقاربه من منحى تجريدي، مقدماً معادلاً شعرياً موحياً للعالم التشخيصي، يتجاوز الأفق السردي الحدثي للحكاية. هناك دائماً تصور شعري أشمل يغلف التصور السردي.
وبدءا من النص الذي أفتتح به الكفراوي الكتاب، ‘سيدة على الدرج’، يتبدى ذلك النزوع لاستخلاص الشعري من رحم السردي، فالموقف السردي المشهدي، يتبنى فيه السارد لغة أقرب للحياد في الرصد، وهو يتملى تفاصيل أرملة تستوقف جارها على الدرج كلما غادر شقته، لتنقله بحديثها عن موت زوجها … ذلك الموثق العامر بالمفارقات يخترق في لحظة بأفق شعري غير متوقع: ‘هبط الردج على صوت موسيقى تأتي من إحدى الشقق، كأنه موتسارت الطفل الإلهي يدور بالمعنى المكتمل عن النور، وعن مبيت الروح في باحة منزل الريح’ . هنا سيزغ المستوى اللغوي المفارق، وحيث لا تشف الدوال عن فضائها الدلالي بالطريقة المباشرة للسرد .. وما يلبث هذا المستوى أن يتعمق، مع التقدم في الحكي، عبرر تفصيله موازية هي ‘البحر’، الحاضر في الخلفية كمعادل موضوعي للجسد المنفلت، لحالة المد والجزر في حوار الرجل بالمرأة، وقد بدأت تلمح برغبتها في بدء علاقة معه، للغريزة الهائجة: ‘علا صخب الماء، ونفذ منه إلى حبة القلب/ كأنما الريح تشتهي لحس الصخور/وكأنما السمك يخاف انقضاض الطائر الصياد’. نحن هنا أمام مشهد شعري، وصور شعرية قادمة من عالم المجاز، وحتى توزع السطور على فضاء الصفحة يأتي مقطعا وكأنه مقطع في قصيدة.

لن يخلو نص تقريباً من هذا الالتفات للشعري، كفضاء تترجمه اللغة المفارقة، ولأن آليات إنتاج النص شديدة التنوع، فإن ‘الشاعر’ الملتبس بالسارد في عالم الكفراوي، لا يقف في منطقة بعينها، فهو يتحرك بين أكثر من تقنية لتخليق الشعر. هو شاعر شفاهي، غنائي، منشد أحياناً، ممسك بناصية العديد أحياناً، ومشتبك بالخطاب الشعري الصوفي تارات.

في قصة ‘صورة ملونة للجدار’، يتوج النص بنهاية شعرية بامتياز، تحضر بين قوسين، وبالآلية نفسها التي أسلفتها: ‘ورأيتها تقف تحت الصورة كمهرة برية، تعدو في اللون ناحية البراح، وتستعيد أمنياتها. رأيت في عينيها شرارات النار، تبدو في الصورة وقد عادت صبية متوجة بالطرحة وصولجان الورد، وكأنها العروس الخالدة في يوم عرسها الأول. تقف بامتلاء كأنه العشق، فيما يقف بجانبها رجل لا أعرفه’.

المنحى نفسه نعثر عليه في نص مثل ‘صيد الغزلان’، حيث يهيمن صوت الشاعر على صوت السارد: ‘غير أنها خرجت مع نور الشفق وبيدها حجابي المكسو بجلد شاة الراعي الطيب، والمخيط بخيط أمعاء فطيسة حيوان الجبل الذي يترصده أبي من قديم، والتي كنت أطاردها وأنا صغير حتى جحور الثعابين، وجعلت تنظر ناحيتي رافعة حجابي للشمس وقالت لي كنت تلبسه حتى أدركت البلوغ’.

في نص مثل ‘قمر معلق فوق الماء’ ولنلاحظ أن العنوان نفسه صورة شعرية تحضر شعرية المناجاة، التي تجعل اللغة السردية أقرب للمناجاة الصوفية، بقدر ما تحمل صفات القصيدة الغنائية من ذاتية في إعادة تأويل الوجود، وهي تمسك بالسرد من أوله لنهايته ‘رويت شجر النخيل، ونظرت ما وراء النهر ولم أكن راغباً في مفارقته.. أحزم وسطي بثوبي المبلل، وأري قدمي ملوثتين بالطين والتراب.. هي أمي النحيلة بثوبها الأسود، واقفة على سلم الدار تناديني: عبد المولى.. تعالي يا ضنايا، لما سمعت نداءها ركنت دلو الماء على ساق النخلة المائلة عبر النهر، وفككت حزامي فانطرح ثوبي المبلل .. غسلت قدمي ورششت وجهي بالماء ونظرت شمس الصباح المتوجة بالعصا والصولجان’. هنا يتحقق السرد من خلال الفضاء الشعري وليس العكس، بحيث يمكن قراءة القصة كلها كنص شعري.

تحضر تقنيات شعرية أخرى، مصدرها الموروث، ك ‘العديد’. هناك عدة نصوص تحاكي بنية العدودة، مستلهمة لغتها وروحها الحزينة والتكرارات الدالة لدوال أو عبارات بأكملها تمثل عصب النص الدلالي ومكمن تأثيره، مثلما يتبدى في نص ‘كل تلك الفصول’، الذي يقارب واقعة موت بشكل طقسي: ‘كانت تقرع الكفوف النحاس فيتردد صدى الطرق على الأبواب: ولدي يموت، وينتزع كبدي، افتحوا الدور….. بدأ أول النهار على أرض المجاز، الذي يفصل الدار عن سياجها، نعش من خشب أصفر بأربعة أذرع وظل، ومصباح صفيح كتميمة قديمة يستقر في نهشه بجدار الطين. من بطن النعش تفوح رائحة شيح قديم، وعطر رخيص باذخ، وذكرى لموتى راحلين ‘.

الشاعر الغنائي، يزاحم السارد أيضاً في مواضع ليست بالقليلة من أنحاء السرد :

‘ أتبعها خطوة بخطوة، أترصدها كفرائس الصيد، هذا ما قدر لي أن أفعله، تعبر الرصيف، وتسير بجانب سور الحديقة، حيث يتضوع مسكها، ويملأ الشارع بالأريج. تصعد مع النهر فيصعد مني دمي ويهبط الى أوردتي. توهمت أنها تبتسم لي فابتسمت أنا. ولما خاب ظني قلت: إنها تملك في عينيها فيروزتين. ووسعت من خطاي عند النهر. عدت وهمست لنفسي: هي التي لا أنام إلا وهي في حضني كل مساء. أنظرها الآن تملأ الشارع بحضورها الجليل غير قادرة أن تخفي حيوية الجسد له المجد عن العيون المستنفرة لمشهد تجليها’ (عشب مبتل).

التجريب يبلغ واحدة من ذراه في العبور النوعي من خلال ‘زبيدة والوحش’، التي لا تقدم كقصة، بل، ‘رؤية في نصين’، تتحقق ببنية شعرية، فليس النص الثاني متمماً للأول أو مكملاً له، بل مواز، وبينما تحضر الحكاية في النص الأول، ينخرط السارد في النص الثاني في رؤية حلمية تتناص ولغة متون الأهرام وكتاب الموتي. الأمر نفسه، في تجل مختلف، يحضر في ‘سدرة المنتهي’، الذي يُوصَّّف ،’ثلاثة مقاطع على مقام زمان’، ويكاد يكون نصاً شعرياً بالكامل، بتجاوزه الأفق التعاقبي التقليدي للحكاية، مقابل التأمل المستبطن: ‘ تخاف أنت وأخاف أنا من ظلمة السدرة في الليل والنهار، ومن نسل الملكة تحت فروعها الممدودة حتى الماء، وثمرها لأهل السكك الجوعى الفقراء’.

ربما يحتاج هذا المنحى في تجربة الكفراوي لمقاربات موسعة، خاصة وأنه ملمح تبرز تجلياته في كل قصة تقريباً، بشكل مختلف. لكن المؤكد في ظني، أنه يصعب قراءة العالم السردي لسعيد الكفراوي بمعزل عن الجذر الشعري القوي الذي يشد الحكايات لأفقه الموحي.

بهذا المنطق قرأت هذا الكتاب / العالم، كقصة / قصيدة واحدة، لا تخلو من لعبة أقنعة لكن كل الأقنعة في النهاية تبقى قادرة على كشف الوجه الواحد الذي يرتديها مرة تلو الأخرى .. وكأن الكفراوي قد سار بالضبط على خطى بطل ‘بورخيس′، الذي قرر أن يرسم العالم، وأفنى عمره من أجل حلمه المستحيل المخاتل، فرسم السفن والأنهار، البشر والجبال، الحيوانات والطيور، الأبنية والسموات، على صفحة ورقة ضخمة، وما إن اطمأن لأنه انجز ما أراد، وأطل أخيرا من عل على ما فعل، حتى أكتشف أنه رسم في النهاية وجهه.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)