شخصية المحتال في المقامة والحكايات والرواية والمسرحية الدكتور علي الراعي (1920 - 1999) ناقد أدبي مصري

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الثلاثاء، ١٠ أبريل/ نيسان ٢٠١٨
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«شخصية المحتال» لعلي الراعي : أصول عربية وازدهار أوروبي


على الدوام، وفي طول تاريخ الأدب العالمي وعرضه، كانت الروايات التي للمحتالين الدور الأول فيها هي الروايات الأكثر شعبية ونجاحاً... بحيث شكلت في نهاية الأمر صنفاً أدبياً خالصاً يسمى «أدب البيكاريسك» يمكننا أن نعثر له، ومنذ القرون الوسطى، على نماذج جيدة وناجحة في آداب جميع الشعوب تقريباً. وفي كتاب طريف ومفيد له، صدر في مصر بعنوان «شخصية المحتال في المقامة والحكايات والرواية والمسرحية» يقوم الناقد والباحث الدكتور علي الراعي برصد مفيد وجيد لشخصية المحتال. ولكن، انطلاقاً من فكرة راسخة ومؤكدة مفادها أن شخصية المحتال إنما تجد جذورها في أدب المقامات العربية وفي ألف ليلة وليلة.

ينقل المؤلف في تقديمه للكتاب عن الكاتب الفرنسي إرنست رينان أن الأدب في العصور الوسطى كان ينتقل بسرعة تدعونا إلى الدهشة فلا نستطيع اليوم أن نجد لها تفسيراً. إن من الأعمال الكثيرة التي وضعت في مراكش والقاهرة كانت لا تلبث أن تعرف في باريس أو في كولونيا في وقت أقصر مما كان يحتاج إليه كتاب ألماني مهم كي يعبر نهر الراين. «على أجنحة الكلمة المسافرة، وفي أمتعة الرحالة والجنود والتجار وعلى شفاههم كان المتاع الأدبي يعبر البحار والجبال وينتقل من قارة إلى قارة: الأشعار والأغاني والحكايات كانت تنبت لها أقدام غير مرئية تمشي بها أو تعود حتى تبلغ أشد البلاد بعداً من موطنها الأصلي. وعبر هذه الدروب التي لا ترسمها خريطة، ولا تقف في طريقها حدود، عرف الأوروبيون – الإسبان بخاصة – ألواناً بعينها من آداب الشرق وأدب العرب، عرفوا «كليلة ودمنة» و «ألف ليلة».

ويرى المؤلف أن ثمة شواهد قوية على تأثر الفن القصصي الإسباني، ومن ثم الغربي، بالمقامات، وبشخصية المحتال المخاتل الدائم التجوال، التي عرفت الحياة في مقامات البديع والحريري، قائلاً أن أثر المقامات ربما كان أقوى أثراً مفرداً تركه العرب في الأدب الغربي، فمن طريق محتال المقامات قام الأدب الاحتيالي في إسبانيا وامتد من ثم إلى فرنسا وألمانيا وإنكلترا، ليكون الأساس لصرح الرواية الواقعية التي ساهمت في خلقها أقلام كتاب مرموقين من أمثال: ديفو وفيلدنج وديكنز في إنكلترا، وليساج وبلزاك وفلوبير في فرنسا. بل لا تزال هذه الراوية الواقعية الاحتيالية موجودة بيننا في عملين محددين أولهما: «فيليكس ترول» لتوماس مان الألماني والثانية: مغامرات «أوجي مارش» للكاتب الأميركي سول بيلو.

ويقول الراعي أن أدبنا العربي الحديث عرف في السنوات الأخيرة سيرة ذاتية روائية بعنوان «الخبز الحافي» للكاتب المغربي محمد شكري. وهي تحكي المغامرات الاحتيالية واللصوصية والجنسية لشاب أمي في أدنى مراتب الفقر، ينتقل بين طنجة ومدن المغرب، بحثاً عن لقمة الخبز الحاف. ويقول الراعي أن هذه «السيرة تعود بالكتابة الروائية عندنا إلى النقطة التي كان ينبغي أن تبدأ منها الرواية العربية، مستندة إلى المقامات مطورة إياها إلى فن روائي عربي الأساس»، مضيفاً: «ولعلها على المدى أن تقود إلى فن روائي عربي يكون أكثر صدقاً وأحر طعماً من كثير مما يكتب الآن في حقل الرواية العربية، شريطة أن تتخلص من بعض ما يصدم الشعور بلا مبرر فني، ويجعل السيرة في بعض أجزائها صراخ احتجاج طفولي ورغبة في تحطيم المواضعات لمجرد التحطيم».

ويلفت المؤلف إلى أن «ليس القصد من هذه الدراسة محاولة إثبات أثر العرب في قيام الرواية الاحتيالية الغربية وحسب»، بل إنها تشكل دعوة حملت السطور السابقة مضمونها: العودة إلى الشكل القصصي العربي الأكثر فاعلية في الأدب العربي من بقية أشكال القصة واتخاذه وسيلة لتثمين الأساس الواقعي للرواية، وتوسيع نطاقها ومدى رؤيتها وموقفها من الناس بحيث تحكي عن المنبوذين أيضاً، والخارجين عن المواصفات، إلى جوار المطحونين والكادحين، ذلك أن هؤلاء الخارجين ما خرجوا عن المواصفات باختيارهم الحر، وإنما لأن الظلم الاجتماعي الشرس، هو الذي حدا ببعضهم إلى الاحتيال، وبالبعض الآخر إلى السرقة والخديعة الفادحة والقتل أحياناً.

في الفصل الأول من كتابه، يدرس د. الراعي «عالم بديع الزمان». فيلاحق أبا الفتح الذي يحتال ويغش ويكذب، بل ويشرك عيسى بن هشام في فعلاته، وأحياناً يقع ضحية المحتالين أيضاً. ويرسم لنا المؤلف «الملامح النفسية الرئيسية والدوافع الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من أبي الفتح شخصية واضحة منفردة بذاتها. أما في «عالم الحريري»، فإننا في حل من أن نصدق أبا زيد السروجي حين يستخفه الطرب بنجاح احتياله على النظارة الذين قدموا لمشاهدته ومتابعة حواره الحاد المفعم بالذكاء، والحريري، كما يرى الراعي تكون اللغة «من البداية شغله الشاغل» لكن اللغة تخفي ضروب الاحتيال المختلفة... وإن كان «الحريري قد سفح دم المحتال في أبي زيد حين أخضعه لأغراضه اللغوية».

غير أن الحريري وبديع الزمان إنما مهدا لمحتال آخر نلمحه عند ابن دانيال في بابتين من باباته، على شكل أمير يدعى الأمير وصال يقول عن نفسه: «أنا ملاكم الحيطان، أنا محيط الشيطان، أنا أنهش من ثعبان، أنا قبضة من كف وقاد، وغمزة من عين وقاد، أنا أصفع من كف خباز، وأرقص من رجل رزاز... أحل العقد، وإن كانت من المسد، وأسامر وأقامر، فأنا ظفار، هماز، همزة لمزة، عياب، دياب، معربد، مهدد، ناسك، فاتك، عزة، عرة... فلا تجهلوا مقداري وقد كشفت لكم أسراري». والإسبان يستعيرون من المقامة العربية بطلاً بيكارياً يبدو شديد الشبه بأبطال المقامات. وخير شاهد على هذا رواية «لازاريللو من تورميس» المجهولة المؤلف. والدكتور الراعي يجري مقارنة مفيدة وطريفة بين الاحتيال في المقامات والاحتيال في هذه الرواية وأمثالها، وهي مقارنة تكشف التفاوت في الذهنيات. ويقول الراعي: «لو تأملنا سلسلة المكائد والمكائد المضادة التي جرت بين الشحاذ وبين لازاريللو، لوجدنا سلسلة حوادث كانت المقامات العربية تحكي ما يقرب منها في الروح والممارسة والمبرر، تحكيها كل مكيدة في مقامة. أما العمل الإسباني فقد جمع هذه الحوادث في فصل واحد جعل له بطلين رئيسيين لا يتغيران».

ويلفت المؤلف إلى أن سيرفانتس الكبير صاحب «دون كيخوته» خاض كذلك في أدب الاحتيال، ولكن على شكل روايات تعليمية عدة يتوقف من بينها الراعي عند الرواية المعنونة «رينكونيت وكورتاديللو». فهذه الرواية تدخل في باب الأدب البيكاري (الاحتيالي) وتصف «حيل المحتالين واللصوص ومغامراتهم وجهودهم المتأصلة للقيام بمهمة صعبة هي تعاطي مهنتهم والبقاء خارج طائلة القانون». وفي هذه الرواية، «رسم سيرفانتس صورة دقيقة لما كان يجري على أيامه، واستخدم ربما لأول مرة، في الأدب الإسباني فكرة نقابة اللصوص الذين يجتمعون حماية لأنفسهم، وينشئون في ما بينهم جمعية تعاونية، ويضفون على عملهم صفة المشروعية بالانشغال في شكل الخير دون جوهره». وفكرة الاستخدام الهجائي الساخر لنقابات اللصوص عرفها الأدب الغربي من بعد سيرفانتس، لا سيما على يد برنارد شو في مسرحيته «الإنسان والسوبرمان».

ثم، انطلاقاً من برنارد شو، يرسم الكاتب في جزء خاص من الكتاب صورة «المحتال في الأدب الإنكليزي» مبتدئاً بمحتالين من «حكايات كانتربري»... وبعد أن يرسم لنا الكاتب صورة هذين المحتالين، يروح مؤكداً أن في «حكايات كانتربري» محتالاً هو أدنى ما يكون من محتال المقامات، إنه بائع صكوك الغفران في حكاية تحمل عنوان «بائع صكوك الغفران» والمحتال هنا قس واعظ يعلن هدفه في صراحة تامة، ويصف أسلوبه في الاحتيال على العباد في عجب ونشوة.

والمؤلف يفرد بعد ذلك كله، وبعد إسهاب له دلالته في الحديث عن المحتال في الأدب الإنكليزي، يعود إلى الأدب العربي الحديث ليفرد له القسم الثالث من الكتاب تحت عنوان «المحتال في الأدب العربي الحديث».

وفي هذا السياق، يحدثنا المؤلف عن عيسى بن هشام كما روى لنا محمد المويلحي احتيالاته وحكاياته، ثم يعرج على «المحتال المحتال عليه» كما ترسمه مقامات بيرم التونسي «هذا العمل الذي لم يحظ بعد بالتقدير الذي يستحقه»... ومن بعد محتال التونسي، نتوقف مع المؤلف عند علي جناح التبريزي المحتال القديم - الجديد كما يرسمه لنا قلم ألفريد فرج. وأما في القسم الرابع والأخير، فيقدم لنا المؤلف خلاصة دراسته على شكل مقارنات مليئة بالفائدة يختتمها المؤلف بمقارنة طريفة بين «لص نجيب محفوظ» و «خليع برنارد شو» في مواجهة الكلاب.

ابراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)