قراءات - Comptes rendus de lecture

شجرة العابد، عمار علي حسن (مصر)، رواية Chajarat Al-Abed, Ammar Ali Hassan (Egypte), Roman

, بقلم محمد بكري


 جريدة ايلاف، 7 أكتوبر 2011

موقع ايلاف على الإنترنت

الجمعة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2011
إيلاف - محمد الحمامصي

نقاد : “شجرة العابد” احتفاء جمالي بغرائب التصوف وسحر الشرق

محمد الحمامصي من القاهرة: وصف نقاد ناقشوا رواية عمار علي حسن الأخيرة “شجرة العابد” بمختبر السرديات في مكتبة الإسكندرية بأنها تمثل “سحر السرد العجائبي الذي ينهل من الصوفية ويبحث عن مصير الإنسان وحالات الوجود، ويعزز مسار الواقعية السحرية العربية، ويبين جانبا من سحر الشرق”.

وقال الدكتور السعيد الورقي أستاذ الأدب العربي بجامعة الإسكندرية “الرواية تزاوج بين الاستبطان الداخلي والقيم الاجتماعية التي تدور حول الحرية والعدل والمساواة والتسامح والمحبة في ثوب شاعري، يتكيء على صور ومواقف، تقوم على المفارقة في كثير من الأحيان”.

وأضاف “يتنقل السرد في الرواية بين الوصف والحوار في بنية دائرية عن الكون ووحدة الوجود، وتمس أيضا علاقة الشرق بالغرب، ويتم هذا في قالب معماري متماسك يبين احتراف الكاتب وتمرسه”.
وتابع “يتبني الكاتب التصوف في منتجه الشرقي، فكريا وروحيا، ويصنع من قضية كرامات الأولياء أسطورة جميلة، يضفرها بأسطورة ذاتية من إبداعه، تذكرنا بالأعمال الغرائبية العربية التليدة”.
من جانبه قال الناقد والباحث في الدراسات الشعبية حسن سرور “تمكن الكاتب باقتدار من توظيف الأثنوجرافية والأنثربولوجية بالجمالية” وقال إن اختيار الكاتب لنهاية عهد المماليك فضاء زمنيا لروايته ليس مسألة عبثية إنما نابع من إدراكه أن هذا العهد هو الذي امتد موروثه الشعبين بشقيه المادي والمعنوي، إلى مصر المعاصرة، وقال “انحازت الرواية إلى الطريقة المصرية في رؤية العالم، وفهم الدين، وتجلى هذا الانحياز في استعمال التصوف والصوفية المصرية كموضوع للسرد، والاستفادة من الرموز والمعاني القديمة التي أنتجتها الحضارة المصرية بطبقاتها الثلاثة الفرعونية والقبطية والإسلامية”.

وتابع “اختيار الكاتب لأسماء أبطاله مقصود، ويتم توظيفه في خدمة السرد والموضوع، وكذلك اختياره للزمن والمكان” وقال “كل صفحة وكل جملة في الرواية تحتاج إلى قراءة خاصة من عمق المعنى الذي تنطوي عليه والتشكيل الجمالي الذي ترسم صورته”.

من جانبه قال الأديب منير عتيبة، المشرف على مختبر السرديات، إن الرواية تتبع “الرحلة الأبدية للإنسان في محاولة اكتشاف نفسه، ومعرفة أسرار الكون” مؤكدا أنها “شجرة العابد” ممتعة في قراءتها، وأدهشني أن الكاتب بقدر من جعل من شجرته العجيبة بطلة فإنه جعل من امرأتين بطلتين أيضا، بينما بقي العابد بطلا من الدرجة الثانية، ففي النصف الأول من الرواية قادته أنثي من الجن، وفي النصف الثاني قادته أنثي من الإنس وكان هو تابعا في الحالتين.
واستطرد عتيبة “إن شجرة العابد تعد سياحة إبداعية روائية في الزمان بامتداده وعمقه، والمكان الأرضي والبحري والفضائي، ورحلة في الذات الإنسانية، والقيم الاجتماعية والسياسية والدينية، وهي محاولة طموحة للوصول إلى قمة المعرفة الإنسانية، وهي معرفة الإنسان بذاته في علاقته بالكون ورب الكون”.

وحضر الندوة العديد من الأدباء والنقاد من مصر، إلى جانب كتاب من العراق والمغرب، كانوا يشاركون في فعاليات معرض الإسكندرية للكتاب، الذي يقام مختبر السرديات على هامشه.
وفي ندوة أخرى حول الرواية ذاتها اتفق نقاد على أن “شجرة العابد” تنهل من موروث هائل مبثوث في المخيال الشعبي العربي، وكذلك من نزوع الإنسان إلى التمرد لتصنع"أسطورة ذاتية"، تتفاعل أيضا مع الحكايات والمعاني الماثلة الحية في الوقت الحاضر، وتستفيد مما ورد في أضابير الكتب التي لا يزال بعضها قادرا على أن يظل متوهجا في ترسيخ “الواقعية السحرية”.

وقال الناقد الدكتور حسين حمودة الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة “الرواية نجحت في بلورة ما يشبه الأمثولة الخاصة، التي تنحو إلى الاكتمال الداخلي بنزوع بطلها إلى تطهير نفسه، والاكتمال الخارجي بانحياز النص إلى الحرية والعدل”.
وأضاف حمودة في سياق ندوة عقدتها ورشة الزيتون لمناقشة الرواية، وحضرها عدد من النقاد والأدباء، “الرواية تنطوي على بناء مركب جدا، رغم بساطته الظاهرية الخادعة، وتتسم بتعدد الأصوات، وترسم مسارا سرديا غنيا، وتنطوي على حشد هائل من التوصيف والصفات”.

وتابع حمودة “الرواية تخفي وراءها جهدا كبيرا مبذولا، وذائقة مدربة، صقلها الإطلاع على موروث طويل، والاستفادة منه بقدر المستطاع، لاسيما عالم التصوف الرحب”.
ووصف حمودة الرواية بأنها “لها صلة بالتاريخ، لكنها ليست رواية تاريخية، لأنها تتحرك حركة واسعة في عالم متباعد، لا أحب أن اسميه كونيا، لكنه عالم واسع، يحضر فيه الإنس والجن، والدين والثورة، والموروث الشعبي والأساطير، والتصوف وكثير من الواقع المعيش”.

من جانبه قال الناقد الدكتور يسري عبد الله مدرس الأدب بجامعة حلوان “شجرة العابد سرد غرائبي عجائبي، وأسطورة ذاتية تتكيء على إرث عربي تليد، وتتبع استراتيجيات للحكي وأبنية سردية متجانسة، ووعي بآليات القول وتجلياته، ولذا فهي تحتاج إلى تفكيكها قرائيا، واستخلاص العلامات العديدة التي تسكن سطورها”.

وأضاف “رغم أن الرواية تجري وقائعها في نهاية العصر المملوكي، لكن هذا الزمن لا يشكل المرجع الوحيد في الرواية، لأنها تربط الماضي بالحاضر”.

وتابع “النص يمزج الفانتازي بالحقيقي، ويعتمد لغة شاعرية، وينطوي على ثراء متعدد الطبقات، يحمل داخله اكتنازا في المعنى والأداء الأسلوبي، وينطوي على العديد من القيم الإنسانية الخالدة، ويرسم بعض ملامح علاقة الشرق بالغرب”.

من جانبه وصف الشاعر شعبان يوسف، الذي أدار الندوة، الراوية بأنها تنتمي إلى “عالم الصناعة الأدبية الثقيلة” وقال"الرواية تمزح بين الواقعي والأسطوري، وتجمع بين النصوص المقدسة والمتداول في التدين الشعبي، وتربط الماضي بالحاضر، وتنطوي على نبوءة بالثورة، وكل هذا يأتي في لغة عذبة، تستفيد من الروح الصوفية".

وقال الناقد حسن بدار إن “شجرة العابد” تدل على أن مؤلفها يطور أدواته باستمرار، فهي أنضج من رواياته السابقة “حكاية شمردل” و"جدران المدى" و"زهر الخريف"، مؤكدا أن الرواية تعزز الواقعية السحرية العربية. أما الكاتبة سامية زكي فلفتت الانتباه إلى ضرورة توظيف ما في التراث العربي من أساطير، وكذلك ما في الواقع المعيش من خرافات في إنتاج أدب شرقي قادر على منافسة ما يبدعه أدباء أمريكا اللاتينية الذين استفادوا من تراثنا بينما أهملناه نحن.

وشجرة العابد هي رواية عمار علي حسن الرابعة بعد"حكاية شمردل" و"جدران المدى" و"زهر الخريف" إلى جانب مجموعتين قصصيتين هما “عرب العطيات” و"أحلام منسية"، ونحو ثلاثة عشر كتابا في العلوم السياسية، فاز أحدها وهو “التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر” بجائزة الشيخ زايد في التنمية وبناء الدولة العام الماضي، فيما حصد المؤلف خلال العام الجاري جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في مجال القصة القصيرة، ونال خلال السنوات السابقة عددا من الجوائز الأدبية.

يشار إلى أن دار نفرو التي نشرت رواية “شجرة العابد” قد رشحتها للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”، واصفة إياها بأنها “رواية كونية” تسعى إلى تعزيز “الواقعية السحرية” العربية.

عن موقع ايلاف على الإنترنت


ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :

  • مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
  • يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
  • كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

 جريدة الحياة، 31 أغسطس 2011

جريدة الحياة

الأربعاء، 31 أغسطس/آب 2011
جريدة الحياة - الناقد المصري صلاح فضل

المرويات الشعبية مادّة للتخييل الروائي
الكاتب المصري عمار علي حسن

عمار علي حسن، صاحب رواية «شجرة العابد» باحث ثوري متوهج، يعرف كيف يستقرئ الظواهر التاريخية والاجتماعية، ليستخلص منها شبكة دلالات راهنة، في رؤية علمية متماسكة. مسته عصا الإبداع منذ بداياته فأصدر روايات ومجموعات قصصية عدة لم يعنِ بها النقاد، إلى جانب كتبه البحثية الرصينة التي حازت أهم الجوائز العربية، على رغم أنه لا يزال في مطلع الأربعينات من عمره. لكن جذوة الخلق اتقدت في روحه وهو يشاهد عوالم الصوفية وكلماتهم المتألقة فيقتبس منها نور اللغة وشعرية السرد، ثم يذهب مغامراً إلى دنيا الغرائب والكرامات، وعوالم الجان والسحرة، ليجعل من المرويات الشعبية مادة خصبة للمتخيل الروائي. ووصفه بعض المعلقين نتيجة لذلك بأنه ينهج مذهب الواقعية السحرية الذي راج منذ نصف قرن في أدب أميركا اللاتينية، لكنه في الحقيقة يناظره من دون أن يأخذ عنه. وسبق لي في سبعينات القرن الماضي عند أول تقديم علمي لهذه الواقعية السحرية أن دعوت نجيب محفوظ وبقية الروائيين العرب إلى أن ينهلوا بشجاعة من معين الأساطير الشعبية في الجان والأولياء لاستثمار نفائس الخيال وغرائب المكنون العجائبي العربي للكشف عن طبقات الواقع ومواجد الروح العربي الأصيل. وها هو عمار علي حسن يمضي في هذا الطريق، مستضيئاً منذ البداية بكلمات ابن عربي المثيرة للتأمل وهو يقول: «كل شوق يسكن باللقاء لا يُعول عليه»، كي يضعنا بمهارة في قلب الأشواق الصوفية والأبعاد السحرية والرمزية التي لا تنطفئ جذوتها.

يتوقع القارئ من الراوي أن يكون إنساناً مثله يبوح بهواجسه وأسراره، ويشكل منظوره للعالم من حوله بتلقائية وسلاسة. لكنه في رواية «شجرة العابد» يفاجأ بأن من يتكلم في الصفحات الأولى، بعد مقدمة ملغزة للعابد، هو الشجرة ذاتها، إذ تقول: «هكذا بدا العابد حين رآني أول مرة، وكان يصلني كل ما يدور برأسه فأبتسم راضية، كنت أعرف أنه يعرفني بعد أن أحاطه رسولي خبراً بأنني هنا منذ مئات السنين، أشرع أجنحتي في خلاء أصم عند سفح هضبة عريضة».

هذا عن المكان الذي تقوم فيه هذه الشجرة، أما الزمان فهو ليس أقل إبهاماً وغموضاً وفق روايتها التي تقول: «كان هذا قبل أن أطل على الدنيا بسنين طويلة، وربما قبل أن تنبت بذرة أمي المسكينة في رحم شجرة وارفة أمر بقطعها رجل من رجال الغلام الفاطمي الغرير الذي سموه العاضد لدين الله وأجلسوه على عرش مصر». ثم تذهب الشجرة في سرد تهاويم خرافية عن كيفية نباتها واستعصاء إدراكها على الإنس والجان حتى تكاد توهم القارئ الذي يصبو إلى حديثها بأنها شجرة كونية عظمى تضاهي سدرة المنتهى في المخيال الديني.

ومن الأمانة أن أعترف بأنني كدت أنصرف عن متابعة الرواية عندما اصطدمت بهذا الإغراق العجائبي المسرف في وصف الشجرة نفسَها وجذورها المغروسة في أعماق سحيقة، تخترق سبع طبقات من الأرض، وأغصانها التي تتشابك فتصبح غابة كاملة تحوي مئات الآلاف من أعشاش الطيور. والطريف بعد كل ذلك أنها شجرة غير مرئية، يجهد ملك الجان في امتلاكها إضافة إلى نظيرتين لها في أجواز الفضاء وأعماق البحار، ويسعى الملوك والأمراء إلى استجلاء بعض أسرارها في حيل تستمر على امتداد الرواية التي تتجاوز أربعمئة صفحة.

والواقع أن هذا المونولوغ الطويل للشجرة، على ما فيه من غرائبية، يظل ثقيلاً مرهقاً للقارئ، يمثل بحيرة راكدة يتعين عليه اجتيازها بمشقة حتى يعثر على بداية السردية المشوقة على لسان العابد، فهو يخل بإيقاع الأحداث ويمتحن صبر القراء. وهذا مما يقع فيه الروائيون الذين يلجون باب الإبداع من منطقة البحث العلمي، إذ يتعين عليهم اكتساب مهارات فائقة في وزن المواد التي يقدمونها وقياس خفتها ودرجة تشويقها فنياً بما يختلف عما تعودوا عليه في أبحاثهم حتى يتم لهم ضبط الإيقاع وأسر القراء. ثلاثون صفحة تأتي على لسان الشجرة تقص غرائبها قبل أن يعود العابد لاستلام زمام الحكي. ولو كان لي أن أقترح على المؤلف شيئاً لرغبت إليه في تذويب هذه الصفحات في الطبعات التالية، خصوصاً لأن نظم الرمز في الأدب تخضع لمنطق بسيط هو قابليتها للفهم دائماً على مستويات متعددة. فالقارئ المتوسط يمكن أن يكتفي بفهمها حرفياً ضمن معقولية طبيعية تلائم مداركه، والمثقف يمضي إلى أبعد من الفهم الظاهري ليضم العلامات إلى بعضها ويجتهد في عقد علاقة وطيدة بينها في معنى كلي أبعد. أما القارئ الناقد المحترف فيذهب إلى التأويل والاستنباط واقتراح دلالات ربما لم تخطر على بال الكاتب للرموز العميقة المرتبطة بالأبعاد الإنسانية والميتافيزيقية للعمل الفني. ولا شك في أن الكاتب أراد للشجرة أن تمثل رمزاً كونياً خصباً متعدداً. فهي بالنسبة إلى الحكام والملوك مصدر للثروة وسر للشفاء من الأمراض، وبالنسبة إلى ملك الجان مظهر لامتداد السلطة والغلبة على الإنسان في صراع قوي الوجود، أما بالنسبة إلى العابد فهي مكمن الروح وسر الخلق ونقطة للالتقاء بضمير الغيب في وحدة الوجود. ولا يمكن الأوصاف المقدسة في مطلع الرواية أن تمنحها هذه الأبعاد، بل تتكون من كرة الثلج الدلالية خلال السرد ذاته، وتتعاظم بقدر تراكم الأحداث والوقائع والإشارات من البشر الساعين إليها في المراحل المختلفة.

المهم أن عابد روايتنا قد ظفر بعشق جنية حسناء هي «نمار» تمثلت له في حجرته «أغمضت عيني مستعيداً تفاصيل اللحظة الخالدة، غير عابئ بشيء سوى أنني رأيت وجهها المشرق الذي بدد ظلام حجرتي وظلمة قلبي الملتاع».

يواجه المبدع الذي يقبض على جمرة الغوص في أعماق الضمير الشعبي لتمثيله جمالياً في الفن مشكلة حادة في تفسير الكرامات والغرائب التي يؤمن بها العوام عادة ويرفضها العقل العلمي المثقف، إذ يتعين عليه أن يقدم رؤية توحي بالتفسير والتعليل.

وقد اجتهد عمار علي حسن في رواية «شجرة العابد» أن يصور الحالة السابقة على وقوع الأحداث العجائبية لراوية بأنها تقع بين الحلم واليقظة، ليترك الباب موارباً للتأويل، إذ طالما اعتبرت الأحلام جسر العبور إلى الفانتازيا والخيال الفني. لكنه خضع في مواقف أخرى لمقتضيات العقائد الشعبية ثم أخذ يناقشها، مثلما فعل في كرامات الحاج حسين – والد حنصة – الذي سبق العابد الراوي في محاولة الوصول إلى سر الشجرة المعجزة، فإثر موته «دار النعش حول نفسه دورة كاملة فنفض عنه كل من علق به، ثم ارتفع قليلاً ومرق بسرعة شديدة والناس يتابعونه وهو يطير فوق النهر». علينا أن نتذكر أن هذا العابد كان يعيش في العصر المملوكي، وأنه ينص على أن زوجته الجنية التي لا يراها أحد غيره كانت معلقة في يده وهو يشارك في معاينة هذه المشاهد والأقاويل. لكن المؤلف الضمني للرواية يريد أن يضفي عليها مسحة من المعقولية، ويحتفظ لها بالطابع العجائبي في آن وكان بوسعه أن يرجعها إلى الأوهام الفردية التي سرعان ما تتضخم بالتناقل لتصبح جماعية، وتعبر في الحين ذاته عن أشواق مطمورة لاجتراح المستحيل في مناخ سلطوي يفرض أقداره حتى اليوم على العوام في مصر فتتعلق أبصارهم بالمعجزات التي تنتشلهم من وحدة البؤس المادي والروحي الجاثم عليهم.

لكن عابد المتعلق معظم الرواية بأذيال الجنية وهي تحمله إلى أجواز الفضاء في مغامرة تراءى له فيها الزمن كأنه قضى ليلة أو بعض ليلة، فإذا عاد تبين له أنه ظل في السماء ثلاثين عاماً مما يعد البشر، يتوزع ضميره بين قطبين: أحدهما لشيخه الأزهري الذي تربى على مبادئه وهو الشيخ قناوي، والثاني للحاج حسين الذي سكن كوخه وتعلق بابنته وإن لم يتح له أن يعايشه لينهل من الحقيقة «كما نهلت من الشريعة ذات يوم بين يدي الشيخ القناوي وعرفت منه أن الدين ثورة عظيمة أخمد البشر جذورها المباركة حين حولوها إلى طقوس يؤديها أغلبهم بلا تدبر، ولم يعرفوا أن نفاق السلاطين الجائرين من أكبر الكبائر. وأن الاستسلام لأحكامهم الظالمة وكأنها قدر محتوم شرك خفي بالله. علمني القناوي كيف أجاهد من أجل الحرية، لكنه لم يعلمني كيف أحرر نفسي أولاً، كنت أصرخ في صحن الأزهر والشوارع الخلفية في آذان الناس كي ينفضوا الخوف من قلوبهم ويتبعوا القناوي إلى القلعة في يوم الخلاص الكبير، وكان يصرخ داخلي جوع جارف إلى الطيران والصعود إلى عمق السماء البعيد هذا الصراع الكلاسيكي بين الشريعة والحقيقة، بين السياسة والتصوف ينهش قلب العابد الذي يهرب مثل رفاقه الثوريين ويتخفى في الصعيد، فإذا عاد إلى المحروسة بتوصية من والي منفلوط إلى قصر السلطان بحثاً عن البردية السحرية التي تفتح كنز الشجرة، لقي رفيقه صفوان وهو يكدح في أشغاله الشاقة، وواعده ليذهب خفية إلى بيته، وهناك يفتن بزوجته حنصة ليكتشف أنها بنت وليّه الطاهر الحاج حسين، وتلاحظ الجنية نمار هذا الافتتان فتأخذها عزة النفس ونار الغيرة فتهجره نتيجة لذلك من دون مبرر حقيقي، لكن شغف هذا العابد بالمرأة يبدو كأنه المحرك الجوهري للأحداث وللتحولات التي تنتابه، حيث يتجلى ذلك في مناجاته معشوقتَه الملهمة الجديدة، خصوصاً بعد أن يخلو له الجو بمصرع زوجها في جبهة الحرب التي أرسله السلطان إليها بمشورة العابد، يناجيها بقوله: «آه يا حنصة، يا وجعي، يا نفسي التي تخونني، يا قلبي الخارج عليّ». وبعد رحيل صاحبه تسير معه حنصة في رحلة الهروب إلى الصحراء حيث يظل تحرقه إليها هو الذي يقود مصيره ويشكل مستقبله.

من هنا ندرك أن العشق قيم الثورة في دينامية الرواية، وجنوح الخيال هو المحرك لعوالمها، وقد أضفى الكاتب على الجن صفات لم يكتسبوها في الخيال الشعبي، إذ جعلهم يطلعون على الغيب، ويعرفون خائنة الأعين وما تخفي الصدور. بل منح نمار من رحيق الحكمة ما جعلها تنصح العابد قبل أن تهجره، لأنها نفذت إلى دخيلة هواجسه، وعرفت افتتانه بحنصة وهي زوجة صديقه فتركته قائلة له: «أفق لنفسك يا عاكف، سأتركك الليلة، وعليك أن تجلس مع نفسك طويلاً تحاسبها وتعاقبها، ثم أغمض عينيك وابحث عن الطاقة المطورة داخلك واستحضرها، وستغنيك عني. وإذا كانت نمار هذه من صالحات الجن اللائي وهبن الحكمة والبصيرة والنفاذ إلى حقائق الوجود فإن حنصة التي ينتهي قياد عاكف إليها لا تقل شفافية ولا قدرة روحية عن نمار. ومع أن الرواية مشحونة بأخبار الأسفار والتنقلات، والمكائد والتدبيرات، والأحداث المتوالية التي تشغل سنوات طويلة قضاها عاكف في صحبة الجن والإنس معاً، قبل أن يعود إلى مناجاة حنصة قائلاً في مطلع الرواية الوجيز. وهكذا تسقط كلمات نمار من جانب، وحنصة من جانب آخر، لتحدد إيقاع حياة هذا العابد الذي عاش مئة عام من الخلوة والعـــشق والــثورة والتصوف، باحثاً عن الأسرار والمعجزات، لتقدم نموذجاً متفرداً في الرواية العربية، يشف بقوة عن الوجدان المصري والعربي في توهجه العاطفي والروحي على مر الزمن.

عن موقع جريدة الحياة

يقدم موقع دارالحياة.كوم، إضافة إلى المحتوى الخاص به الذي ينشر على مدار الساعة، محتوى المطبوعات التي تنتجها« دار الحياة »، بنسخها الإلكترونية، وهي : الصحيفة اليومية « الحياة » الطبعة الدولية على العنوانين الأول أو الثاني، والحياة السعودية الطبعة السعودية، والمجلة الأسبوعية لها. ويضم دارالحياة.كوم أيضاً حاضنة للخدمات الرقمية على العنوان.

دارالحياة.كوم محطة تزود الزوار بالمستجدات والتقارير والتحليلات وبمواد أدبية، من صحافيين ومراسلين من الحياة، ومتعاونين آخرين. ويسعى إلى تأمين التواصل بين القراء وكتاب المطبوعات. كما يؤدي دور الواجهة التي تروج لمحتوى المواقع الثلاثة الأخرى. كذلك، يرعى دارالحياة.كوم مشاريع صحافية مستقلة ويستضيفها.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)