مئوية شبلي شميِّل... داروين العرب

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٤١٠ السبت ٣ آذار ٢٠١٨
جريدة الأخبار
ادب وفنون
ناصيف قزي


تحية الى المفكر الذي اتخذ العلم ديناً


كان للتيَّارات الفلسفيَّة التي عرفَتها أوروبا في القرن التاسع عشر، والتي اتَّسمت بالعقلانيَّة والفكر الحر، كما للنظريَّات العلميَّة الناخعة والثورات الصناعيَّة المدوِّية؛ أثرها البالغ في قيام ما اصطلح على تسميته «نهضة فكريَّة عربيَّة»... ناهيك بما رسَّخته «فلسفة الأنوار» وثورة 1789 الفرنسيَّة من مبادئ إنسانيَّة عامة أدركَ وهجُها ربوعَنا... طبعاً، من دون أن نغفل الأسباب الذاتيَّة لتلك «النهضة»، لا سيما التوق إلى العدالة والمساواة والتحرّر والإصلاح.

ففي هذه الحقبة، أي منذ ما بعد حملة نابوليون على مصر عام 1798، بدأت تنتشر الإرساليات الأجنبيَّة، على تنوعها، في لبنان وسوريا ومصر، حاملة معها «الثقافة الجديدة». وفي هذه الحقبة أيضاً، هاجر العديد من المفكرين اللبنانيين إلى مصر وفرنسا وأميركا بحثاً عن العلم ومناخات الحرية، بعيداً عن ظلم وظلاميَّة السلطنة العثمانيَّة. نشير هنا إلى أن عملية «الإنثقاف»، بل التبادل الثقافي، بين لبنان وأوروبا كانت قد بدأت قبل ذلك بكثير وخاصة مع إنشاء المدرسة المارونيَّة في روما عام 1584.

في أي حال، عرف الفكر العربي الحديث، في مستهل «عصر النهضة»، وتحديداً في أواسط القرن التاسع عشر، تيارين متقابلين: «تيار الإصلاح الديني»، الذي يمثله كلٌّ من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في «العروة الوثقى» ورشيد رضا في «المنار»، من جهة، والتيار الليبرالي، بل العَلماني، الذي برز فيه شبلي شميِّل و«فلسفته في النشوء والارتقاء» إلى جانب يعقوب صرّوف، وفارس نمر، وفرنسيس مرّاش الحلبي، وسليمان البستاني، وفرح انطون، وامين الريحاني، ونقولا حداد، وسلامه موسى وغيرهم.

شبلي شميل (1850 ــــ 1917) هو طبيب لبناني، من المتخرجين الأوائل في المعهد الطبي التابع للكنيسة البروتسطنتية السورية... أكمل دراسة الطب في باريس قبل أن يستقرَّ في مصر حيث مارس مهنته، وكان أول من أدخل الداروينيَّة إلى العالم العربي. وما أدراك ما شكلته «نظرية التطور» في تلك المرحلة الخصبة من تاريخ البشريَّة.

في كتابه «فلسفة النشوء والارتقاء»، الذي يشكل ترجمة لأفكار داروين إلى العربيَّة مع بعض الملاحظات والإضافات، يضع شميل «وحدة الكائنات» في أساس معتقده، كما عند صاحب «أصل الأنواع»... فهو يركِّز على وحدة الطبيعة... الوحدة التي دفعته الى إعلان العلم ديناً جديداً. وفي السياق عينه، رأى شميل أن السلطنة العثمانيَّة كانت تفتقر الى علم وعدل وحرية. وكان يعتقد أنّ أعظم هذه الأمور شأناً، لا بل أساسها جميعاً إنما هو العلم... ليؤكد «أن الحكم الديني فاسد وهو غير طبيعي وغير صحيح». فعلى الإنسان أن يقرّ بالعلم، دون سواه، وأن يعي «أن العلوم الطبيعيَّة تكمن في أساس العلوم الإنسانيَّة». وفيما اهتم بالقضايا الاجتماعيَّة والأنظمة السياسيَّة في القرن التاسع عشر، دعا الى مزاولة «الحرية الفكرية».

أما على الصعيد السياسي، فقد رأى شميل «ضرورة تغيير المؤسسات بتغيير شروط المجتمع». الوحدة الاجتماعيَّة عنده تقتضي «فصل الدين عن الحياة السياسية». فالدين بالنسبة إليه، هو «عامل تفرقة»، لا بحد ذاته، بل لأن رؤساء الدين يبذرون الشقاق بين الناس، مما يبقي المجتمعات ضعيفة. و«الأمم تقوى بمقدار ما يضعف الدين» (راجع كتاب البرت حوراني، «الفكر العربي في عصر النهضة»). وهنا يلمح الى التغيير الإيجابي الذي طرأ على أوروبا بعد إصلاح لوثر من جهة، والثورة الفرنسية، من جهة أخرى. «ففي أوروبا تقلص دور الاكليروس في المجتمع»، ليستطرد قائلاً بأنّ «ضعف الأمة الإسلامية مرده الى رجال الدين». فمن الواجب إقصاء هؤلاء عن السلطة كي يصلح المجتمع. ومن هذا القبيل، يرفض شميِّل شكلين من أشكال الحكم: الحكم الاستبدادي والحكم الديني.

عنده، العَلمانية تصلح لأن تكون النظام الأمثل للتقدم الاجتماعي. وإذا كان شميل قد رفض التضامن الديني، فليس ليحل مكانه التضامن القومي. فلا بد من أن تحلّ حسب اعتقاده، «الوطنية العالمية» محل الولاء للوطن المحدود.

لم يكتفِ شميّل بالنقد الاجتماعي الشكلي، بل غاص في العمق لدرجة الخروج الكلي عن المألوف. فما قوله ﺑ «الوطنية العالمية» المبنية على نظريته في وحدة المادة، إلّا إعلان صريح لـ «فلسفته المادية». فماديَّة شميل دفعت به الى عدم الإقرار إلّا بالعلم أساساً للمعرفة. فلكي نفهم فكر شبلي شميل المتقدم، لا بد لنا من أن نضعه في إطار النقاش الحاد الذي ساد في أوروبا، جيلذاك، حول العلم والدين... وقد انتقل هذا النقاش، ليزداد حدَّةً، بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون (راجع ملحق كتاب فرح أنطون، «فلسفة ابن رشد»).

باختصار، شبلي شميِّل هو أحد رواد فكر إصلاحي من نوع جديد... وقد ساهم هذا الفكر بشكل فعّال في بناء رؤية قد تسهم في عصرنة مجتمع ما زال يقبع، ومنذ زمن طويل، في حال من الانحطاط المطبق.

لم يستطع «تيار الإصلاح الديني» في مصر إيجاد حلول ناجعة لمشكلة الأقليات في العالم الإسلامي، ما دفع بالمفكرين الليبراليين، وفي مقدمهم شميَّل، إلى الاقتداء بما انتهجته أوروبا للخروج من حروبها الدينيَّة، والسير، بالتالي، نحو «عقلنة الفكر» في سبيل «علمنة مفهوم القومية». فلم يكن هؤلاء على حدّ قول هشام شرابي، «غرباء في العالم الإسلامي، بل شعروا باللامساواة والدونيَّة في مجتمع هو مجتمعهم. لقد كانوا يتعطشون الى العيش الكريم. من هنا، جاءت مساهماتهم الفكرية لتؤكد رغبتهم في تطوير المجتمع نحو الأمثل، بحيث أنشدوا إصلاحاً أساسه الفكر الحر ومبني على مفهوم علمنة الدولة».

وحري بنا أن نذكر ونذكِّر بأن هذا التيار الإصلاحي العَلماني المتقدم جاء متزامناً مع الحركة الفكرية الإصلاحيَّة التي عرفتها أوروبا في ذلك الزمن وكان لها الدور الفاعل في تحقيق العَلمانيَّة في فرنسا عام 1905.

* أستاذ الفكر العربي الحديث والمعاصر والأخلاقيَّات في الجامعة اللبنانيَّة
** مئوية شبلي شميل : الجمعة 16 آذار (مارس) ــ س: 16:00 بمشاركة: كرم الحلو، فارس يواكيم، أسمهان عيد الياس، بإدارة عصام خليفة

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال بالـ Pdf في جريدة الأخبار


حقوق النشر
مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)