سُكينة حبيب الله : اللغة خلعت معانيها القديمة

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٦٠٦ الخميس ٤ حزيران ٢٠١٥
جريدة الأخبار
ادب وفنون


يزن الحاج


كان للسنوات الأربع الماضية تأثيرٌ مباشرٌ في نسف الحدود الفاصلة المعتادة بين الأجيال الشعرية. اعتاد النقّاد والدارسون على التقسيم العَقْديّ للشعراء، بحيث يشكّل العقد جيلاً شعرياً متقارب الملامح والنبرة والحساسيّة في معظمه. ما حدث في السنوات الأربع التي وسمتها الحروب الأهليّة والانتفاضات المُجهَضة هو أنّ التأثير كان طاغياً إلى حدّ جعل تلك السنوات الأربع بمثابة عقد كامل.

عام 2010 الذي كان يُفترض به أن يكون بداية جيل شعريّ سيتابع من حيث انتهى الجيل السابق، أصبح تأريخاً لولادة جيل جديد من الشعراء. لا يعني هذا بأنّ الجيل الجديد يحمل شعراً جديداً بالضرورة، فالنتاج انقسم، في معظمه، إلى قسمين: الأول التجأ إلى الشعر الثوري المباشر المتكئ إلى الأحداث اليوميّة المتفجّرة، فيما ركن القسم الثاني (الأهم) إلى التشظّيات الداخلية في الإنسان، حيث يكمن جوهر الشعر فعلياً.

المغربيّة سُكينة حبيب الله (1989) ابنةٌ لهذا الجيل الشعري الجديد. ما يزيد من أهميّة قصيدة سُكينة أنها ابنةٌ لجيل جديد، وشعر جديدٍ، وحساسيّة جديدة تجد جذوراً لها في القصيدة اليومية وشعر الاعترافات، لكن بطريقةٍ مغايرة تمكّنت فيها الشاعرة من خلق قصيدة تحمل بصمةً متفرّدة. هذا التفرّد بالذات هو مصدر أهميّة مجموعتيها «ربع قرنٍ من النظر» (الدار العربيّة للعلوم ناشرون)، و«لا لزوم لك» (منشورات بيت الشعر- المغرب) اللتين صدرتا في عام واحد وبفارق أشهر قليلة. بدا الصوت الأول مزدوجاً، جماله في نبرتيه المتوازيتين، وتفرّده في جماليّة تناقضه، حيث يحمل بكورة الصدى وخبرة الصوت، جِدّة العين وقِدم النظرة، سلاسة اللغة ووعورة اللوعة.

ثمّة بدايتان متوازيتان لقصيدة حبيب الله: تنطلق البداية الأولى من حيث تنتهي الأشياء لترسم عالماً جديداً للقصيدة، كما في «كنت أملك حياةً مليئةً بالأشخاص ذوي القوى الخارقة/ أشخاص يطلبون منك مثلاً أن تُغمض عينيك لثانيتين/ وحين تفتحهما../ تجد أن لا أثر لهم/ على الإطلاق»، وتنطلق البداية الثانية من العدم بحيث تكون القصيدة خَلقاً آخر مختلفاً بالضرورة عن الخلق الاعتيادي، كما في «بدأ الإنسان/ منحني الأكتاف/ كوردة/ وانتهى مستقيم الظهر/ كسكّين» أو «حين أدركت الوردة/ أنّ ساقاً واحدةً لا تحمل إلى أيّ مكان/ أنّها بلا صوت وغالباً بلا صدى،/ فكّرتْ في العطر». في كلتي البدايتين، وفي جميع قصائد المجموعتين، نجد أنّ اللغة قد خلعت معانيها ودلالاتها القديمة وباتت لغةً جديدةً متناسبةً مع القصيدة الجديدة التي تقدّمها سُكينة. ثمّة شغف بقلب المعاني، وبعثرة الحروف، بهدف تغيير الدلالات حيناً، بحيث ندرك بلاغة «التشويه» في «التشبيه»، أو حينما تصبح السيرة الذاتيّة «سيرةً ذاوية»، وبهدف متعة العبث باللغة بحدّ ذاتها أحياناً أخرى.

ما يميّز قصيدة سُكينة حبيب الله هو «حضور الغياب»، لو جاز القول. في معظم القصائد نجد بأنّ للغياب حصّة، أكان ذلك في العناوين المشغولة بإتقان، أو في نبرة الفجيعة الهادئة. تبدو القصيدة هنا كأنّها تتمّة منطقيّة لدفتر كلّ بنت، حيث لا جمهور سوى الكاتبة نفسها، ولذا نشاهد حريّة البوح، لكن بلغة الشاعرة (وصورة الشاعر في المجموعتين ورديّة وتفاؤليّة دوماً، وكأنّه هو الأمل الأخير بعد دمار العالم)، وبعين المراقب العاشق لأدقّ تفاصيل الحياة. سنجد في قصائد «التشريح» («تشريح الوردة»، «تشريح المطر»، و«تشريح الشاعر») أمثلة مذهلة عمّا تحمله القصيدة الجديدة عموماً، وقصيدة سُكينة بالأخص، تحديداً الروح السرديّة التي لا تبتعد عن الشعر بقدر ما تعيد تعريفه، كأيّ عنصر آخر في جسد قصائد المجموعتين.
العالم الشعريّ لسُكينة حبيب الله هو عالم الهمس والإيماءات، لا لمجرّد شحنة اللوعة المضاعفة في الهمس، ولكن لأنّ لغة الكلام قد انتهت، أو صدئت، أو كُبّلت، وباتت العينان والهمس الوسائل الوحيدة للبوح، كما يفعل السجناء والعشّاق والأطفال... والشعراء، ولهذا باتت القصائد في النصف الثاني من كلّ مجموعة برقيّةً خاطفةً عاجلةً كأنّها رسائل وداع. والوداع غيابٌ آخر ككلّ الغيابات الطويلة أو العابرة عند سُكينة: الإغماض، والغفلة، والاتّقاد الموقّت للنار، والنوم. وبالطبع، الموت كآخر تجليّات للغياب. وربما سيتعجّب القارئ بسبب هذا الإصرار على هاجس الموت في قصائد شاعرة في الخامسة والعشرين، حتى لو جعلته القصيدة (والشاعرة) مغوياً، دافئاً، حنوناً كالمنزل. والمنازل والجدران مفردات متكرّرة في قاموس الشاعرة، وإنْ بدلالات مختلفة، للجدران بالأخص، إذ تبدو هنا كأذرع تحتضن، وأهداب تداعب، وأصابع تربّت على الكتفين كي تطرد الحسرات.

لا نعلم سبب إقدام الشاعرة على نشر مجموعتين في عام واحد. ربما كانت مصادفة أن تصدر المجموعتان في موعدين متقاربين، وربما كانت سُكينة تُفرغ كلّ جعبتها الشعريّة قبل التفرّغ للكتابة السرديّة، وهي تحضّر الآن لروايتين. لا نعلم، ولن نكترث كثيراً للسبب. المهم هو أنّ أمامنا صوت شعريّ قويّ ناضج دون عثرات البدايات. أن نقرأ شعراً، أيّ شعر، في زحمة الموت والحروب هو أمر مهم كيلا ننسى ما تبقّى من تفاصيل حياتنا المتناثرة، وقصائد سُكينة حبيب الله جاءت في وقتها المناسب، كنسمة لطيفة حملت معها تلك التفاصيل وحلّقت بها كي تخلق لها حياةً جديدة قبل أن تسحقها الحرب.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

 المقال في جريدة الأخبار اللبنانية بالـ pdf


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)