سينما المخرج المصري الراحل سمير سيف 2019-1947

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 11-12-2019
المدن - ثقافة
أحمد شوقي علي - كاتب مصري


سينما سمير سيف : كل عمل بصمة


سمير سيف


في “شمس الزناتي”، اختار سمير سيف -وكان شريكًا في الإنتاج- استراحة في منطقة سقارة في محافظة الجيزة، ليقيم واحته بالكامل. وبعد انتهاء التصوير، ورغم “فخره” بالديكور الذي بناه الراحل رشدي حامد، سوّاها بالأرض. كان بإمكان سيف أن يقبل العرض المالي الذي قدمه مالك الاستراحة ليترك موقع التصوير على حاله من دون أن يهدمه، فيستفيد من المقابل الضخم لدعم إنتاج فيلمه. لكن المخرج الذي صمم الديكور ليناسب نصه فقط دون غيره، لم يكن يريد أن يشاهد ما صنع وهو يتكرر في عشرات الأعمال الدرامية الأخرى إذا هو تركه ليستفيد منه صاحب الاستراحة. فلم يترك للواحة أثرًا.

لم يحب سمير سيف (23 أكتوبر 1947 – 9 ديسمبر 2019) أن يحصر نفسه في نمط فني واحد، وتحرك بين الأشكال السينمائية والدرامية المتنوعة، مسترشدًا بخبرة نقلها عن المخرج الأميركي هاورد هوكس –يرددها بتواضع: “أنا أحب أعمل أحسن فيلم في كل نوع”، لكنه لا يسعى لإدراك الجودة وحدها، بقدر سعيه لصناعة ما يخصه، من دون رغبة في ريادة يراها تتكرر من بعده على أيدي آخرين، وترضي غروره كأستاذ، رغم عمله الأكاديمي الذي استغرق من حياته سنين طويلة.

***

في مراهقتي، وأنا من مواليد الثمانينات، كنت أعرف سمير سيف باعتباره المخرج صاحب الفيلم الوحيد “شمس الزناتي”، الذي تشرّبته وموسيقاه التي ألّفها هاني شنودة، طفلا وصبيًا ومراهقًا وشابًا. وصرت، مع جهل كبير بمنجزه، ومعرفة مبتسرة بأخباره، أتخيل أنه أنجز فيلمه “الوحيد” وتفرغ على صدى نجاحه لممارسة عمله الأكاديمي كأستاذ لمادة الإخراج في المعهد العالي للسينما، قبل أن أنتبه إلى أن عشرين عملًا من أحبّ ما شاهدته من سينما أو دراما تلفزيونية، شكلت وجداني ووجدان الكثيرين غيري، أنجزها سمير سيف بمفرده، وهو لم يشبه فيها نفسه أو غيره بالمرّة.



الآن، وبينما تعرض قناة “نايل سينما” فيلمه الأجمل “الشيطانة التي أحبتني”، والذي لم يلق نجاحًا يستحقه وقت عرضه، أسأل نفسي، كيف يكون واحدًا هو من صنع: دائرة الانتقام، والهلفوت، والغول، وغريب في بيتي، والبشاير، والمطارد، وسوق المتعة، واحترس من الخط، وأوان الورد، ومعالي الوزير... إلى آخر أعماله التي اقتربت من الأربعين، بين سينما ودراما تلفزيونية؟ هل يمكن لفنان يمتلك أدواته بهذه الاحترافية، ألا تكون له بصمة تميز أعماله عن غيره، وإن اختلفت أنماطها وقوالبها الفنية؟

في لقاء مصوّر أجرته بوابة “العين” الإلكترونية، مع سيف، منذ فترة، قال إن الأفلام الثمانية التي أدى بطولتها عادل إمام من إخراجه، هي من الأفلام القليلة التي خضع فيها النجم الجماهيري للشخصية المكتوبة في السيناريو، ولم يخضعها لشخصيته كنجم. ولعله كان يتحدث عن نفسه أيضًا، حينما جعل الكاميرا تتحدث بصوت نصوص أفلامه، لا بصوته هو، لكنه، في الوقت نفسه، لم يذُب فيها.

حين تستعرض الشريط الطويل لأعمال سمير سيف السينمائية والدرامية، تستطيع أن تدرك بوضوح، الملامح المميزة لرؤيته الفنية، بل ويمكنك أيضًا تكوين طابع فني أراد صاحب “الغول” أن يكرسه، لكنه لا يكتمل من دون أعماله مجتمعة كلوحة فنية متنافرة العناصر تشكل مشهداً بصرياً متجانساً ومبدعاً.

المكان

يدرك صاحب “المولد”، أن المكان “هو مصدر الإلهام الرئيسي للمخرج”. وأثناء إعداده لفيلمه “عليوة والقانون”، والذي كان مشروعه للتخرج في المعهد العالي للسينما، ركب قطار الصعيد من بدايته في القاهرة إلى نهايته بين دروب وجه مصر القبلي، ليعثر على موقع يصلح لتصوير مشاهد الفيلم، الذي يدور في إحدى محطات السكك الحديد، لأنه على المخرج “أن يبذل جهدًا كبيرًا في استكشاف المكان كي يمنح عمله إيحاءات كثيرة جدًا”. لذلك، وبدلاً من أن يصور نهاية فيلمه “المشبوه” في ساحة ميناء بورسعيد، كما كان يقتضي السيناريو، ركب مركبًا وطاف به في الحزام المائي للمرفأ حتّى وقعت عيناه على حوض تصنيع السفن، لم يكن قد رأى مثله من قبل في الواقع، أو شاهده في الشاشة، فاختاره نظرًا لطبيعته المعمارية المغايرة، وأعاد كتابة المشهد الختامي ليناسب موقع التصوير الجديد.



لكن سعي سيف للبحث عن مكان “طازج” ليظهر في شريطه السينمائي، ليس غايته الوحيدة من استحضاره في نصوصه.
يعي صاحب “المطارد” أن “الإنسان عندما يجتر ذكرياته، لا يستطيع أن يجترها من دون المكان الذي احتضنها، وأن المكان في حياة الإنسان جزء مكمل لوجوده”، لذلك تظهر “الشقة” التي تنازع عليها كل من سعاد حسني ونور الشريف في “غريب في بيتي” دافئة بصورة أقرب إلى ملجأ آمن، منها إلى غرض يستر أرملة وابنها الوحيد، أو موقع قريب من النادي بالنسبة للاعب الكرة. ويظهر الفندق الذي قصده “شحاتة أبو كف” ليبيت ليلته الأولى في القاهرة، كأحد بيوت الدعارة الباريسية التي تردد عليها شعراء القرن التاسع عشر، منه إلى فندق مشبوه بوسط القاهرة الخديوية، كما يظهر وكر اللصوص في “الشيطانة التي أحبتني” أقرب إلى شركة أعمال منها إلى مخبأ غامض يتسترون فيه، بما يخدم الحالة العبثية للمؤسسة التي يشرف عليها البروفيسور “مهذب السلاموني”، وأيضًا يبدو عادل إمام وهو يفترش الرصيف في “الهلفوت” ككيس قمامة والشارع من حوله كمزبلة ضخمة. المكان في سينما سمير سيف، بطل، يؤدي دورًا دراميًا، كباقي المؤدين في الفيلم.

بطل الصدفة

حرص صاحب “ديل السمكة” دائمًا في نصوصه، سواء التي كتبها بنفسه أو التي تعاون فيها مع آخرين، على تقديم بطله كمن جاء من الهامش إلى الصدارة بصورة قدرية، لم يكن مؤهلًا قبلها لأن يكون بطلًا بالمرة. فـ"خصوصي" في “إحترس من الخط”، و"عرفة مشاوير" في “الهلفوت”، و"عادل عيسى" في “الغول”، و"إمام السيد" في “شوارع من نار”، و"هيما" في “المولد”، لم يكونوا أبطالاً في حيواتهم الأولى قبل أن تضعهم الظروف في ما وضعتهم فيه. حتى شمس الزناتي، الذي قدمه النص كفتوة قبل أن يطل بوجهه على الشاشة، اكتسب جانباً كبيراً من شهرته لقتله عسكرياً إنكليزياً في “وش البركة”، وهو حي شهير للبغاء في أوائل القرن العشرين، ما يعني أنه لم تكن ثمة وطنية وراء التصفية الجسدية لرمز الاحتلال، وأن الأمر ربما لم يكون سوى لعبة من ألعاب “الشطارة”. وأيضاً صلاح شوقي، الذي لم يكن سوى ضابط تافه في “الشيطانة التي أحبتني”، قبل أن يقوده قدره للقاء العصابة التي يكشف من خلال تعامله معها عن وجه أذكى مما بدا عليه قبل ذلك.

الحوار

يذهب سمير سيف إلى أن السيناريو لا يمكن اعتباره عملًا أدبياً لاختلافه عن الأدب في أنه محدد في زمن الحاضر المتحرك، على خلاف الأدب المتحرر من ذلك. والسيناريو يرصد فقط ما يمكن تصويره من انفعال ظاهري، وليس داخلياً على غرار النصوص الأدبية، ولا يمكن تحميل حواره المكتوب صورًا إبداعية مثل التي قد يستخدمها الأديب في لغته. لكن حوار سمير سيف يملك بلاغة خاصة، تلعب فيها الصورة والتاريخ الشخصي لكل شخصية على حدة، دورًا مهماً في صياغتها.

عندما طرح فيلم “الغول”، منعته الرقابة صبيحة يوم عرضه، لأنها اكتشفت فجأة أن نهايته تشبه حادث اغتيال السادات حديثة العهد بتاريخ إصدار الفيلم، وخصوصاً مشهد إلقاء الكراسي على عادل إمام بعد قتله فريد شوقي بالساطور، وهو ما اعتبرته الرقابة محاولة لقلب نظام الحكم. لكن أكثر ما يميز هذا المشهد فعلاً، هو الجملة الأخيرة التي يتلفظ بها “الغول” فريد شوقي بعدما ضربه عادل عيسى بالساطور، حيث ظل يردد في دهشة “مش ممكن.. مش ممكن”، وهي الجملة التي ربما تكون أخطر على “نظام الحكم” وأي نظام استبدادي من حادث الاغتيال نفسه، وتلخص في بلاغة شديدة الصورة التي ترى الشخصية المستبدة نفسها من خلالها، وكيف أنها لا يمكنها تخيل فناءها ناهيك أن يكون بتلك العبثية.

كذلك يمكن تلمس القوة التي يلعبها الحوار المعتمد على التاريخ الشخصي للأبطال، في ما انتشر من “كوميكس” هزلي على كثير من أفلام سمير سيف، وأبرزها مثلاً شمس الزناتي وجملة مصطفى متولي الشهيرة “دمي كله سبرتو يا شيخ عتمان”!

الموسيقى

في حوار مع منى الشاذلي، ردّ سمير سيف على اتهام لفيلمه “احترس من الخط” بالتواضع، بأنه لم يكن كذلك رغم بساطته، وأنه سعى إلى طرحه وفق نمط الـ"Parody" الذي يظهر مثلاً في الموسيقى التصويرية المصاحبة لظهور خصوصي وهو على الحمار ومن ورائه “بلبلة”، والتي تشبه موسيقى أفلام الويسترن الخاصة بسيرجيو ليوني، وكأنه فيلم من أفلام كلينت إستوود. وكذلك في الثيمة الموسيقية المصاحبة لظهور مفتش البوليس في الفيلم نفسه، والمأخوذة من “Pink Panther” وكأنه أقرب إلى المفتش كلوزو. تكاد الثيمة ذاتها تظهر في المقدمة الموسيقية لفيلم “الشيطانة التي أحبتني”، والتي يظهر خلالها “صلاح شوقي” على طريقة شون كونري في “جيمس بوند”.. “في مراجع للسينما العالمية موجودة حتى في هذا الفيلم، حتى في الفيلم البسيط”، قال سمير سيف.

ولعل هذا الفهم للدور الذي تلعبه الموسيقى في دراما الفيلم، هو ما جعله يعتمد في كثير من أعماله على ملحن موسيقي مثل محمد سلطان، أو موسيقار مثل هاني شنودة، والأخير طبَع الكثير من أفلام سيف بطابع موسيقى مميز بحيث لم يعد ممكناً استحضارها من دون الموسيقى التي أنجزها لتصاحبها.

لكن هذه المرجعية المعرفية التي يتحدث عنها سمير سيف، لا تنعكس فقط في استخدامه الموسيقى العالمية، أو تقديره للدور الموسيقي بشكل عام في أعماله، وإنما تتبدى حتى في لغة خطابه العادي، الذي يكشف عن امتلاكه لساناً فصيحاً في العربية، كما هو في اللغات الكثيرة الأخرى التي يجيدها... وفي فهمه العميق للأدب، الذي ربما اكتسبه، إضافة إلى اهتمامه المبكر بالقراءة، من تتلمذه على أيدي روّاد كبار، مثل لويس عوض ومحمود أمين العالم وعبد المحسن طه بدر.. وفي اتجاهه إلى “الأكشن”، ليس تنفيذًا على الشاشة فقط، وإنما موضوعًا بحثيًا لأطروحتيه لنيل درجتي الماجستير ثم الدكتوراه، متأثرًا برغبة كتّاب الموجة الجديدة في فرنسا في تدوين تاريخ السينما المصرية. وهذا كله، ساهم في تشكيل وعي لم “يركن إلى العادي” و"للمارسات السينمائية السابقة"، وصنع سينما تخصه وحده، تشكل -على تنافرها- لوحة متجانسة وبديعة وشديدة الغنى.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


على ويكيبيديا

على موقع السنما

فيلموغرافيا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)